محمد أبو الفضل: وضع جديد للوساطة بين إسرائيل وحماس
محمد أبو الفضل 4-8-2024: وضع جديد للوساطة بين إسرائيل وحماس
مهما كانت التداعيات الناجمة عن عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران قبل أيام، فإن المفاوضات التي ترعاها مصر وقطر والولايات المتحدة بين إسرائيل والحركة لن تدفن، وسيتم استئنافها عندما تهدأ الأمور قليلا، ورأينا تصريحات على لسان مسؤولين أميركيين، قالت إن وفدا إسرائيليا سيصل إلى القاهرة (السبت أو الأحد) لاستكمال المباحثات، ربما يكون الغرض منها الإيحاء بأن العملية السياسية مستمرة، وأن واشنطن لن تتخلى عن هذا الطريق.
بعيدا عن التفسيرات الأميركية ترك اغتيال هنية تأثيره على العملية التفاوضية والتنازلات التي يمكن أن يقدمها كل طرف، والوسطاء الذين وقعت على عاتقهم مهمة تقريب المسافات؛ فالتخلص من رئيس المكتب السياسي، وهو المسؤول المباشر للتعبير عن رؤية حماس في المفاوضات، يؤكد أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لا يريد نجاحا لصفقة تبادل الأسرى وتبعاتها الأمنية والسياسية، ويعزز ألاعيبه ومناوراته التي لجأ إليها طوال الأشهر الماضية لوضع العراقيل أمامها.
ويشير إعلان حماس عن عدم تقديم تنازلات إلى أنها لن تقاطع المحادثات، وأن الخيارات المتاحة أمامها ضئيلة، بعد استنزافها ميدانيا على مدار نحو عشرة أشهر، واستهداف عدد كبير من قياداتها العسكرية والسياسية، وبالتالي إضعاف قدراتها في مواجهة إسرائيل، ما يجعلها مضطرة عمليا إلى إظهار نوع من المرونة كي لا تفقد ما تبقى من قياداتها ويتعرض التنظيم لهزة أشد عنفا تدفعه إلى تقديم تنازلات أكثر صعوبة.
وجد المفاوضون العرب (مصر وقطر) والولايات المتحدة، عقب عملية اغتيال هنية وما أحدثته من استخلاصات، أنفسهم في منطقة دبلوماسية جديدة؛ فعليهم التفكير في ما يمكن أن يقوموا به حيال جهود الهدنة، وإسرائيل سددت ضربة قاصمة لحركة حماس، ومع أن الدوحة أدانت العملية وتحدثت عن خطورتها على المحادثات إلا أنها مستمرة في الوساطة، كما أن الموقف المصري حذّر من تأثير هذا السلوك على الأمن والاستقرار في المنطقة، في إشارة ضمنية تحث على العودة إلى المفاوضات.
وعبّرت واشنطن عن تأثير الاغتيال على الوساطة، لكن تحركاتها السياسية لم تتوقف مع إسرائيل وحضّها على التوقيع على الصفقة المستعصية، معتقدة أن استئناف المحادثات يمثل حاجة ماسة إلى عودة الهدوء، ولم تظهر تصوراتها إمكانية ممارسة ضغوط على إسرائيل للخروج من المعادلة التي يدير بها نتنياهو المفاوضات وتقوم على إدخالها في دروب وعرة لا تفضي إلى حدوث تقدم حقيقي فيها.
وتجعل هذه المعادلة عودة الوسطاء إلى الحوار مع وفدي إسرائيل وحماس أقل أهمية، لأن نوايا نتنياهو السيئة خرجت من إطار التقديرات إلى الحقائق، فاغتيال إسماعيل هنية أشبه بتفجير قنبلة في وجه الوسطاء والمفاوضات وما يدور بشأن كواليسها الإيجابية التي حاولت واشنطن الترويج لها مؤخرا.
تعرضت حماس لضربة قاسية أرخت بظلال سلبية على حساباتها وجعلتها في مأزق بين الإصرار على الحرب والعودة إلى طاولة المفاوضات، فالإرهاق الذي حل بقدراتها العسكرية لن يمكنها من مواصلة القتال بوتيرة جيدة، وهو ما تعلمه إسرائيل ويدفعها نحو المزيد من التشدد في مطالبها، والقبول بالعودة في أجواء تبدو فيها الحركة مرتبكة يحتّم عليها اختيار قائد سياسي جديد، وترتيب الأوضاع الداخلية على ضوء هذا المستجد وما يمكن أن يخلفه من توازنات في الهيكل الرئيسي لحماس.
وعليها أيضا معرفة حدود الرد الإيراني انتقاما لمصرع هنية في طهران، وما يمكن أن يقوم به حزب الله اللبناني ردا على اغتيال رئيس أركانه فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهما من المحددات الكاشفة للحالة التي ستكون عليها الأوضاع في المنطقة، فالدخول في مرحلة سخونة عسكرية مضاعفة يُلغي ملف الوساطة بين إسرائيل وحماس، ويضع الوسيطين العربيين، مصر وقطر، في موقف بعيد عن المفاوضات بين هذين الطرفين، إذ سيكون كلاهما مشغولا بما هو أكبر وأهم.
وسواء زادت السخونة الإقليمية أو حافظت على نمطها التقليدي من التصعيد المحسوب والتهدئة المرجوة، تظل العملية التفاوضية بين إسرائيل وحماس في موقف غاية في الصعوبة، وعلى الوسطاء البحث عن صيغة تمكنهم من تحريكها في اتجاه أكثر شمولا، لأن توقيع الصفقة أو عدم توقيعها لن يجعلا لحماس يدا طولى في قطاع غزة، وهو ما كشفته التصورات الإسرائيلية المؤيَّدة من الإدارة الأميركية وعدد من القوى الإقليمية والدولية، وتعززت بما نال الحركة من إنهاك على مستويات متباينة.
ولأن هناك مؤشرات حول التفكير في حل عملي للصراع من خلال الدفع باتجاه حل الدولتين، من الضروري التفكير في آليات الوصول إلى هذا المسار الذي حاولت إسرائيل بأطياف مختلفة قطع الطريق عليه بعد تصويت الكنيست على رفض قيام دولة فلسطينية مؤخرا، ومن بين الآليات تنحية حركة حماس جزئيا من ملف المفاوضات وصفقة الأسرى وإشراك السلطة الفلسطينية بديلا عنها كغطاء للتفاوض، من أجل فتح آفاق إيجاد حل طويل الأمد ووضع القضية الأم على الطاولة، وتوسيع نطاق الوساطة وإدخال أطراف إقليمية ودولية في الوساطة، بدلا من استمرار العزلة بين السلطة الوطنية وحماس في ملف يمكن أن تكون له مردودات إستراتيجية.
تأتي أهمية هذه المشاركة من عدم حصر الموقف في حماس، وأن القضية التي تحتاج إلى تسوية أكبر وأعمق من الحركة وحساباتها، ونتنياهو وتطلعاته. وإذا كانت حماس وفتح، وغيرهما من الفصائل، جادتيْن في تقريب المواقف، وفقا لما جرى في بكين، فعليهما تأكيد التفاهمات بتوحيد الرؤية حول صفقة دخلت نفقا مجهولا بعد اغتيال هنية، خاصة أن حماس تتحدث بلسان المقاومة عموما ولا تنكر دور الفصائل الأخرى معها.
وتأتي الصعوبة من الترهل الذي تظهر عليه هياكل السلطة الفلسطينية، والشكوك التي تلاحقها حول نواياها السياسية، وهو ما يجب التخلص منها سريعا، فالقضية لا تحتمل مزيدا من الخصومة والعداوة وتصفية الحسابات الحركية، والكل يواجه تحديات صعبة بأشكال مختلفة، لن تستثني عواصفها أحدا، الأمر الذي تدركه الكثير من الدول العربية التي على صلة مباشرة بالقضية الفلسطينية، أو تلك التي لديها رؤى لوسائل تسويتها لتقويض حالة من عدم الاستقرار تمر بها المنطقة.
لن تقبل حماس خيار إشراك السلطة، وعليها التفكير في المدى الذي يمكن أن تذهب إليه عند الرفض، وهي تعلم أن هذا الخيار من المحرمات التي لا يريدها نتنياهو الذي يسعى لاختزال الفلسطينيين في حماس، فضلا عما قام بترويجه من صورة قاتمة حول توجهاتها وتصرفاتها، وقد ردد منذ فترة مقولته الشهيرة أنه لا يريد استبدال حكم حماسستان في غزة بفتحستان، في إشارة واضحة إلى المساواة بين أهدافهما الوطنية.
ويصعب أن تتوقف الوساطة عن أداء دورها في خضم أوضاع تخيم عليها كل أنواع السيناريوهات القاسية، ولن يقبل الوسطاء الإعلان عن وفاة العملية السياسية وإن لم تصل إلى نتائج، وفي اللحظة التي تعلن وفاتها ستكون الحرب الواسعة قد قرعت طبولها.