محمد أبو الفضل: هدم الثقة بين الجيش والشعب في مصر

محمد أبو الفضل 14-7-2023: هدم الثقة بين الجيش والشعب في مصر
وقعت بعض الأحداث الأيام الماضية التي لها علاقة بأشخاص أو أطراف على صلة بالجيش المصري، وتم التعامل معها بقدر واضح من التضخيم والتهويل من قبل بعض وسائل الإعلام بقصد تشويه صورة المؤسسة العسكرية وخلق فتنة بينها وبين شريحة كبيرة من المواطنين، أو بقصد الدفاع عنها بلا تفسيرات ومبررات مقنعة وكافية في بعض الوقائع التي أثارت الرأي العام.
بدا الهدف من التشويه معبّرا عن احتقانات مدفونة ومغايرة للصورة التقليدية التي حاولت رواية المدافعين عنه التأكيد عليها، استنادا إلى احتفاظ المصريين بقناعات إيجابية عن الجيش ومواقفه المشرّفة في استقرار الدولة وحمايتها من المتربصين بها.
قد يكون حادث مدينة “مدينتي” في شرق القاهرة بشعا، وراحت ضحيته سيدة وأصيب زوجها وأطفالها على يد ضابط – طبيب في الجيش، لكن التعامل معه على مواقع التواصل الاجتماعي اختزل الحادث في صفة مرتكبه العسكرية وتجاهل وجود حوادث عديدة من هذا النوع أو قريبة منه أو أكثر بشاعة ارتكبها مدنيون.
يعبّر الغضب من مرتكب الحادث والمؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها عن رفض تام للإسراف في ممارسة العنف من قبل أيّ شخص مهما ارتفع شأنه في الدولة، ورفض لأيّ مؤسسة يمكن أن يشعر المنتمون إليها بأنهم فوق القانون والمحاسبة.
وجاء ظهور جرافات تابعة لحرس الحدود لهدم جزء من مطعم في قرية “هايسندا” المطلة على البحر المتوسط في غرب مدينة الإسكندرية، من واقع مسؤوليتها في حماية الشواطئ، ليصب المزيد من الزيت على النار في العلاقة بين الجيش والشعب، وبدأ التوتر يطفو بشكل غير مسبوق، حيث كانت المؤسسة العسكرية محل تقدير من شريحة كبيرة من المصريين، يلجأون إليها لحسم الكثير من الأمور ثقة بنزاهتها.
تصرف الجيش في حالة “مدينتي” بطريقة لائقة واحترافية ومرضية شعبيا، حيث أطفأ بيان للمتحدث العسكري ظمأ المتعطشين للعدالة الناجزة عندما أكد تحويل الضابط المتهم إلى المحكمة العسكرية واتخاذ الإجراءات اللازمة حيال الواقعة.
تجاهل المتحدث العسكري تدخل معدات عسكرية لهدم جزء من مطعم “هايسندا” لم يحصل على التراخيص القانونية، وجاء اللغط من تدخل الجيش وليس الإدارة المحلية المدنية المسؤولة عن المنطقة دون إشارة إلى دواعي تحرك معداته.
وجاء الصخب أيضا من تداول اسم رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى بصفته “المحرض” على الهدم في صورة انتقام من صاحب المطعم أحمد ممدوح البلتاجي، ابن وزير الإعلام في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
ليس مهمّا الدخول في تفاصيل الحادثين، فقد جرى تداول الكثير من المعلومات الصحيحة والمغلوطة عمدا وجهلا، لكن من المهم الوقوف عند الدلالات السياسية التي ينطويان عليها، إذ أصبحت المؤسسة العسكرية “مفترية”، أو “متهمة” في كل كبيرة وصغيرة تحدث في مصر، بالحق والباطل، وهناك من يزجون باسم الجيش في الكثير من القضايا التي قد يكون لا علاقة له بها بشكل مباشر أو غير مباشر.
مبعث الدهشة في الزج بالجيش أنه يتم تصويره باعتباره مهيمنا على الملفات التي تقع في نطاق اختصاصه وخارجه، وتحويله تعويذته من ملاذ آمن للمصريين إلى “شيطان” يريد السيطرة على مفاتيح الأمور وخدمة مصالحه قبل خدمة الدولة.
تكمن الخطورة في وجود جهات مختلفة تسعى، بحسن نية أو دونها، إلى وضع الشعب في مواجهة مع الجيش الذي درج الأول على اعتباره تميمته الناجحة في الدفاع عن مقدرات الدولة في المحكات، ويتم توظيف وسائل التواصل في هذه المسألة.
لا أحد (تقريبا) يتحدث عن مسؤولية رئيس الدولة أو رئيس الحكومة، ويبدو الحديث منصبّا على المؤسسة العسكرية والمنتمين إليها، بغرض إحداث فجوة بينها وشريحة كبيرة من المصريين تثق بها دوما، كأن هناك ترتيبات معينة مطلوب تحييد الجيش عنها وخلق هوة بينه وبين الناس وتحميله الإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
يستند المحرّضون على هذا الاتجاه على توسع المهام التي يقوم بها الجيش في الحياة المدنية، وزيادة أنشطته الاقتصادية التي انعكست سلبا على مصالح بعض رجال الأعمال ومؤسسات كان لها باع طويل في مناحي مختلفة بالدولة قبل اتساع نطاق حركة الجيش في مناحي بعيدة عن دوره العسكري المتعارف عليه.
مهما كانت منطلقات تدخله في الكثير من الأنشطة وحتميتها في الفترة التي تلت سقوط حكم الإخوان، فقد أوجدت تصرفاته المتشعبة احتقانات لدى بعض الفئات وحالت دون مقدرتهم على تحقيق مكاسب معتادة، بما مهّد المجال أمام الحث على زيادة منسوب الغضب منه، خاصة أن لعبة مواقع التواصل تحولت إلى سلاح خطير في معركة ممتدة، وتأتي الطلقة من إحدى المنصات ثم يتم تداولها بشكل يصعب اللحاق به.
ولأن الطبيعة العسكرية تتحرك بتريث وحذر شديدين، لم تستطع مسايرة الكثير من الأحداث أو يتم التعامل معها ببدائية إعلامية تمنح أصحاب الطلقة الأولى تكريس صورة ذهنية سيئة عن جيش كبير يعتمد أحيانا على بعض الهواة من الإعلاميين ووجوه مكروهة بين الناس للدفاع عنه، ما يقوّض الصورة البراقة المرسومة له.
بدأ مشروع هدم الثقة بين الشعب والجيش وترعاه جماعة الإخوان وجهات خارجية، يأخذ منحى تصاعديا، لأن الجيش في مصر أشبه بعمود الخيمة، وأخذت تتكشف بعض ملامحه مؤخرا من خلال تعمد تسليط الأضواء على أحداث كان يمكن أن تمرّ بلا توقف عندها أو التعامل معها بالشكل الذي يتواءم مع معطياتها المحدودة، وعدم الاعتداد بالروايات الرسمية التي تقدمها المؤسسة العسكرية.
يرمي كسر العلاقة بين الجيش والشعب إلى ما هو أبعد من المواقف الأخيرة المتعلقة بحادث هنا أو حادث هناك، فالرؤية العامة الساخرة التي يجري ترويجها من جانب بعض الأقلام تقول إن “كل الدول لها جيش، إلا مصر، بها جيش له دولة”.
لعل هذه النوعية التي تتم صياغتها بأشكال متباينة، عميقة وبسيطة، واضحة وخفية، تمثل مربط الفرس، كما يقال في مصر، والهدف منها قطع الصلة العميقة بين الطرفين، كي لا يعتمد الشعب على الجيش، ولا يستند الأخير على رصيده الوطني، بما يقود في النهاية إلى ما هو أكبر من الشرخ في العلاقة بينهما.
يمثل الوصول إلى هذه النقطة خطرا على الشعب والجيش، فإذا هدم الثاني أو جرح كبرياؤه نتيجة توالي التركيز على دوره وتوريطه في مواجهة مفتعلة مع المواطنين لن يتمكن الأول من مواجهة التحديات الخارجية والداخلية التي تحيط بالدولة.
وإذا كانت هناك أخطاء في المؤسسة العسكرية التي تعد تاريخيا “قدس الأقداس لدى المصريين” من الواجب معالجتها سريعا، وفي الإطار الذي يحافظ على وجوده وقوته وسمعته ومواقفه وشرفه، والتي يتغنى بها المصريون، لأن حملات التشويه والمشانق التي تنصب الآن لن تترك الجيش يقوم بمهامه الطبيعية أو غير الطبيعية.