أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: نتنياهو يحكم قبضته على الدولة العميقة في إسرائيل

محمد أبو الفضل 30-3-2025: نتنياهو يحكم قبضته على الدولة العميقة في إسرائيل

يعتقد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن ما يسمى بالدولة العميقة أحد أبرز المعوقات التي تحول دون تحقيق أهدافه الحيوية، وأن المؤسسات العديدة المحسوبة عليها لن تمكنه من الوصول إلى أغراضه الإستراتيجية، في ما يتعلق بتماسك إسرائيل داخليا وتمددها خارجيا، وإعادة هندسة الأوضاع في الشرق الأوسط بالشكل الذي يساعدها أن تكون الرقم المحوري الأول في المنطقة. وهذه المسألة لم تكن وليدة الحرب على قطاع غزة وما خلّفته من تحولات واسعة ومهمة في رؤية نتنياهو، حيث كشفت سياسات سابقة له عن ملامح منها قبل سنوات.

كسب نتنياهو معركته مع غالبية القوى السياسية التي يراها مرنة في الداخل، ونجح في منح اليمين المتطرف فرصة للانتشار في مؤسسات الدولة، وأضفى مشروعية على الكثير من المستوطنات في الضفة الغربية، وعندما وضع إيتمار بن غفير على رأس وزارة الأمن القومي تمكن من تدجين جهاز الشرطة لحسابه، وهو أحد مؤسسات الدولة العميقة التي أخفق نتنياهو في السيطرة عليها تماما من قبل.

وأتاحت إقالته لوزير الدفاع يوآف غلانت ثم رئيس الأركان هرتسي هاليفي، وتعيين إسرائيل كاتس بدلا من الأول، وإيال زامير خلفا للثاني، الفرصة للسيطرة على مفاصل المؤسسة العسكرية التي تمتعت بمساحة استقلال بعيدا عن رئيس الحكومة.

ولأن نتنياهو لن يستطيع تحقيق أهدافه كاملة من دون السيطرة على جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) قام بإقالة رئيسه رونين بار، وتكاتف معه بن غفير بحجة أن الرجل كان يدبر لانقلاب على رئيس الحكومة الحالي، وتزامن مع إقالة رئيس الشاباك التخلص من المستشارة القضائية لحكومة نتنياهو (غالي بهاراف ميارا)، وما زالت تداعيات الإقالتين مستمرة، حيث اصطحبتا ضجة وخرجت مظاهرات رافضة لذلك، وشعر الكثيرون أن الخطوة تعني إطلاق يد نتنياهو بلا رقيب أو حسيب.

قد تكون الحرب على غزة لعبت دورا مهما في تنفيذ مخطط رئيس الحكومة الإسرائيلية، إلا أنها لم تكن السبب الوحيد، إذ يرى نتنياهو أن مؤسسات مثل الشرطة والجيش والشاباك والقضاء، ومعهم الإعلام، لم يساعدوه في تحقيق ما يريده في غياب إحكام سيطرته على ركائز في الدولة.

ولذلك فهذا التوجه أبعد من قضية المحاكمة التي يتعرض لها نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم فساد أو رغبته في التهرب منها، فالرجل تضخم بصورة كبيرة، ويتعامل على أنه مؤسس إسرائيل الثانية، بعد بن غوريون، ولا يريد أن يتصدي له أحد في هذا الوقت بحجة تطبيق القانون أو الحفاظ على المصالح الوطنية.

ربما يكون هذا نوع من التجريف المنتشر في الكثير من دول العالم الثالث، يدحض فكرة اختلاف إسرائيل عمن حولها، لكنه في الجوهر هو سيطرة الغرض منها التناغم مع تصورات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وإذا كانت الرغبة والاستعداد والإرادة موجودة منذ فترة لدى نتنياهو ومختزلة في ذهنه، فإن الأجواء الداخلية والخارجية تمكنه من الإفصاح عنها بجرأة والسعي نحو تطبيقها بثقة، ويجد في من يؤيدون خطواته ويعملون على تعبيد الطريق أمامها من قوى اليمين المتطرف فرصته في توفير شبكة أمان سياسية له الفترة المقبلة للحصول على المزيد من المكاسب.

يبدو أن نتنياهو نجح في السيطرة على الكثير من مفاصل الدولة العميقة، ووضع على رأس كل منها قيادة تدين له بالولاء، لكن المؤسسات الكبيرة تصعب إدارتها لمجرد أن يكون رئيسها خاضعا لمن قام بتعيينه، فهناك جيوش من كبار الموظفين وصغارهم والعاملين يمكنهم عرقلة ما يريده رئيسهم، وضمان الولاء يتطلب جهودا مضنية ووقتا طويلا، وحدوث هذا الأمر لن يكون سهلا، وسوف يفتح الباب لترهل لن يلبي طموحات ما يريده المسؤول عنهم، ولن يحقق أهداف نتنياهو في المحصلة النهائية عندما تصاب مؤسسات الدولة العميقة بالترهل.

تحظى عبارة الدولة العميقة بتفسيرات مطاطة وسلبية، وصارت تحيط بها الكثير من الشبهات، على الرغم من أهميتها في الحفاظ على توازن الدول، وهي ازدواجية يمكن أن يقع نتنياهو في إشكالياتها، لأن إسرائيل مجتمع متنوع اجتماعيا، ولا تعني اليهودية كديانة أنها وسيلة للتلاقي العقائدي وأداة للتلاحم الوطني، إذ يمكن أن تكون مدخلا لفوضى إذا فقدت مؤسسات الدولة دورها الحيوي في ضبط إيقاع المجتمع، وما يقوم به رئيس الحكومة الحالي هو انحياز إلى فئة على حساب أخرى، جعل قطاعات مختلفة تخرج للتظاهر في الشوارع والميادين قبل أيام رفضا للكثير من سياسات نتنياهو، واعتراضا على إقالته لرئيس الشاباك والمستشارة القضائية لحكومته.

ولا تعبّر التظاهرات عن تأييد لهما، لكن لأن هناك شعورا بالأسى على ما وصلت إليه الأوضاع في إسرائيل، حيث يقوم نتنياهو بتغليب مصالحه الشخصية بالشكل الذي قد يفضي إلى انفلات، وإذا أصيبت مؤسسات الدولة العميقة بالعطب أو عملت فقط لحساب رئيس الحكومة لن تستطيع الدفاع عن الدولة من الداخل، لأن التململ داخل عدد منها ربما يتسبب في إصابتها بالعجز عند مواجهة بعض التحديات.

كما أن شريحة من مواطني إسرائيل سوف تفقد تدريجيا الثقة بها بعد أن كانت من أهم صمامات الأمان لهم، فما يقوم به نتنياهو يؤدي إلى إحكام سيطرته عليها ويريحه مؤقتا، وقد يقود إلى تدمير لبعض المقومات التي قامت عليها إسرائيل وساعدتها على مواجهة عواصف سابقة قام بها متطرفون وكادوا يعرّضونها للخطر، والميل إلى المتدينين والعمل على دعمهم ومنحهم امتيازات مثل الإعفاء من التجنيد ربما يتسبب في اقتتال أهلي، حذّر منه قادة أحزاب واعتبروه قريبا ما لم يتراجع رئيس الحكومة عن فرض قبضته على مؤسسات تمثل عصب الدولة في إسرائيل.

وتؤدي إصابة هذا العصب بمرض يمكن أن يوصف بـ”مرض نتنياهو” إلى إرباك الحياة في دولة يحاول رئيس الوزراء فيها استثمار لحظة تاريخية حرجة في المنطقة وتحقيق كل أهدافه دفعة واحدة، ففتح جبهات فلسطين ولبنان وسوريا وإيران واليمن يبدو سهلا وإسرائيل متماسكة، لكن أي خلل أو انفجار داخلها بسبب سياسة الاستحواذ على موازين القوة فيها سيكون كفيلا بتدمير كل ما قام به نتنياهو الفترة الماضية.

وجزء كبير مما تحقق كان ناجما عن وجود درجة عالية من التوافق الداخلي حول توجهاته الإقليمية، وخسارة هذه النقطة مع استمرار التوغل في السيطرة على مؤسسات الدولة العميقة في إسرائيل يؤدي إلى انفراط بعض جوانبها، لأن الطريقة التي يعمل بها نتنياهو تصب في مصلحة جماعات متطرفة لن تتوانى عن فرض إرادتها على من حولها من قوى منافسة والحفاظ على مكاسبها.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى