محمد أبو الفضل: مخاطر التأقلم مع الأزمة السودانية
محمد أبو الفضل 2022/08/22
تشير تطورات الأزمة السياسية في السودان إلى أن أطرافها الداخلية المتشابكة بدأت تتأقلم معها، ولم تعد منزعجة من تدحرجها إلى منزلقات أشد وعورة. كما أن الجهات الخارجية المعنية بها أخذ حماسها يفتر بصورة تدريجية، والوسطاء غير قادرين على إنتاج حل يؤدي إلى تسوية تمهد الطريق لعبور المرحلة الانتقالية بهدوء.
ترتاح القوى المتصارعة للحصيلة التي وصلت إليها طالما تبعدها عن تكبد خسائر أو تحقيق مكاسب منقوصة في ظل غياب الحلول السياسية الخلاقة، فمنذ انقلاب قيادة الجيش على القوى المدنية في أكتوبر الماضي لم تتحرك الأزمة خطوة واحدة إلى الأمام يتم التعويل عليها في التوصل إلى تسوية مستقرة.
أصبح الدوران في حلقات مفرغة وسيلة مريحة لقوى عديدة تخشى تقديم تنازلات مع تربّص الخصوم وانتظارهم حدوث تغيرات تمكنهم من خلخلة الوضع السياسي، للدرجة التي لم يعد كثيرون مهتمون بالبحث عن وسيلة للتفاهم لحل الأزمة التي زادت تفاعلاتها السلبية قبل الإيجابية.
يؤدي الانسداد في كثير من الأزمات الإقليمية لتحرك من قبل الأطراف المعنية، وفي السودان تحول إلى خيار لدى بعض القوى العاجزة عن تغيير المشهد لصالحها، ما يجعلها تجد فيه منفذا لتبرير تراخيها أو عدم قدرتها على التفاهم لإيجاد مخرج ملائم.
دخلت قوى الحرية والتغيير، بجناحيها المجلس المركزي والميثاق الوطني، في تراشقات متعددة، كل طرف يضع المسؤولية على الآخر، والجناحان يدافع أحدهما عن الجيش والآخر يهاجمه، وارتاحت قيادته لوضع الكرة في سلة القوى المدنية لتفسير فشلها في القبض على دفة المرحلة الانتقالية، والتهديد بالهروب من المشهد السياسي لإحراج القوى المدنية التي لا تستطيع التوافق حول رؤية واحدة.
تراجع الزخم الذي توافر الأسابيع الماضية وحصرت قوى مختلفة اهتمامها في الدفاع عن مواقعها بلا اكتراث لما يمكن أن تسفر عنه هذه الحالة من أزمات، حيث تزداد الأوضاع الاقتصادية تدهورا، وتنكمش فرص المساعدات الخارجية لإنقاذ الدولة، وتتصاعد الخلافات داخل الحركات المسلحة بعد أن التزمت بالشكل الجديد للدولة.
يعدّ التكيّف مع الأزمة السودانية وما يسيطر عليها من جمود من المظاهر الخطيرة التي تنخر في جسم الدولة، ويكشف المستوى المتدني الذي دخلته بعد أن كانت مملوءة بالحيوية لتغيير المعادلة التي أوجدها نظام الرئيس السابق عمر البشير وبناء سودان قابل للحياة على قواعد صلبة تبعده عن الخندق الذي دخله ووضعه على حافة الانهيار.
انصبت شكاوى عديد من القوى على الخوف من أن يواجه السودان انهيارات متتالية شبيهة بتلك التي تحكمت فيها النظرة الأيديولوجية للبشير في عملية إدارة دولاب الدولة، والآن يعود شبح هذه التقديرات وتهدد رواسبها ما تبقى من السودان.
مع التنافر والتباعد والمكايدة والتضارب في القرارات لم تعد السلطة قادرة على توفير صلابة تساعدها على تجاوز التحديات المصيرية، والتي لا تحتل سوى هامش ضئيل في حسابات الكثير من القوى الوطنية المشغولة بترتيب الأوضاع على مقاساتها السياسية دون التفات إلى ما تقود إليه هذه الحالة من تدنٍ في إدارة الأزمة الرئيسية.
يؤكد توقف البحث عن حلول والاستسلام للصيغة التي وصلت إليها البلاد أن جميع القوى تريد الحفاظ على مصالحها ولو أدى ذلك إلى ضياع كيان اسمه السودان، ويتجاهل هؤلاء أن الضياع لن يبقي لهم شيئا يتصارعون من أجله أو يختلفون حوله.
فالسودان الذي كان موعودا بمستقبل ديمقراطي زاهر يخشى عليه البعض من عدم قدرة أبنائه الحفاظ على الحد الأدنى من لحمته الوطنية، والمستوى الذي بلغته الخلافات غير مطمئن وقد يجلب للدولة سيناريوهات عبثية غامضة، لأن الصورة التي قادته إلى الصدام بين قواه الرئيسية يمكن أن تشهد تداعيات يصعب معها السيطرة على زمام الأمور.
كانت المؤسسة العسكرية والأحزاب التاريخية القوية والحركات المسلحة الوطنية تمثل مثلث الأمان للحفاظ على الدولة، والآن دخلت الأطراف الثلاثة في خلافات متنوعة أنهت الأسطورة التي عول عليها البعض في ضبط إيقاع الأوضاع السياسية وتحولت إلى عناصر فاعلة في الصراعات الظاهرة والخفية وزادت الأزمة اشتعالا.
تنبثق مشكلة الكثير من القوى المدنية في أن الجيش يريد الهيمنة على السلطة ولم يقدم تطمينات كافية يبعد بها هذا الشبح ويشير إلى أنه يقف فعلا على مسافة واحدة من الجميع، بل تعمد إثارة شكوك تعزز سعيه للاستحواذ على السلطة، وأفقدته هذه السياسة جزءا من الميزة التي خولت عددا من القوى المدنية الوثوق فيه عقب سقوط البشير.
أسهمت ألاعيب بعض القادة العسكريين في تفويت الفرصة على تجسير الهوة بين الجيش والقوى المدنية، والتي تفرغت لصب جام غضبها عليه بدلا من مد حبال التواصل لإنقاذ البلاد من غول الحركة الإسلامية التي يزداد نشاطها مع كل نزاع تخوضه المؤسسة العسكرية مع القوى المدنية.
كما أن التدهور الذي أصاب الأحزاب التاريخية فوّت الفرصة على وجود جهة يمكن الاسترشاد بها عند احتدام الخلافات، ونشأت طبقة سياسية ممرورة من هذه الأحزاب ومنزعجة من تغول المؤسسة العسكرية ونهجت طريقا حادا كي تثبت نفسها وتمتلك حضورا سياسيا يساعدها على أن تصبح رقما مهما في المعادلة السودانية.
علاوة على أن الحركات المسلحة التي قبلت التوقيع على اتفاق سلام مع الخرطوم لم تتمكن من تثبيت حرصها على توسيع أطره وتفرغ العديد من قادتها لتحقيق مكاسب مادية ومعنوية، بصرف النظر عن أوضاع الأقاليم التي ينحدرون منها وشهد بعضها نزاعات لا تختلف كثيرا عما كانت سائدة قبل سقوط نظام البشير.
يقود التأقلم مع الأزمة السودانية التي تمر بمنعطفات خطيرة إلى عدم التفاؤل بأي وسيلة يمكن أن تجعل الحل قريب المنال، فالانشغال الحاصل بها تنتفي فيه الرغبة للعثور على آلية للتسوية السياسية وينصب على إطالة عمرها لأطول فترة ممكنة، أملا في أن يجد كل طرف الأجواء المناسبة لينقض على السلطة من دون اعتبار لما يمكن أن تحدثه هذه الحالة من تفاقم يزيد الشلل العام في البلاد.
يعد القبول بالأمر الواقع من أخطر التحديات التي تواجه السودان، وغياب السعي في إحداث تغيير جذري سوف يتسبب في غلق الأبواب والنوافذ التي يمكن أن تتسرب منها أي تسوية منتجة، ما يعني أن التكيف مع الأزمة وهي في أشد مراحلها خطورة يشي بصعوبة التفاهم على أرضية مشتركة في المدى المنظور.