محمد أبو الفضل: قلق مصري متصاعد من تدهور الأزمة السودانية
محمد أبو الفضل 25-8-2024: قلق مصري متصاعد من تدهور الأزمة السودانية
دخلت الأزمة في السودان مرحلة جديدة من الإحباط بعد ختام مفاوضات جنيف الجمعة من دون تحقيق تقدم ملموس في الشقين السياسي والعسكري، وحمّلت جهات عدة الجيش السوداني جزءا كبيرا من المسؤولية عن الفشل، بسبب عدم تلبيته دعوة الولايات المتحدة إلى اجتماع وفده مع آخر يمثل قوات الدعم السريع، وبدت مقدمات الفشل واضحة عندما تخلّف الوفد عن حضور اجتماع كان مقررا في القاهرة مع المبعوث الأميركي للسودان توم بيرييلو، الذي أرجع عدم حدوثه إلى “خرق الوفد للبروتوكولات”.
من تابعوا الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس جهاز المخابرات المصرية اللواء عباس كامل إلى بورتسودان الجمعة، ولقاء قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، شعر بأن هناك مهمة عاجلة، وأن مصر ستضاعف انخراطها في تفاصيل الأزمة السودانية.
ومن تابعوا زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى القاهرة واللقاء الذي عقده معه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مدينة العلمين الجديدة الثلاثاء الماضي، لاحظوا أن بيرييلو كان حاضرا في هذا اللقاء، بينما كانت المؤشرات تقول إن زيارة بلينكن هدفها تحريك صفقة الأسرى وملحقاتها بين إسرائيل وحركة حماس، بحكم الدور الذي تلعبه مصر بجانب كل من الولايات المتحدة وقطر للتوقيع على الصفقة المنتظرة، لكن وجود بيرييلو أكد أن الأزمة السودانية حظيت بجزء مهم من محادثات الوفد الأميركي في القاهرة، خاصة أن الرجل كان مستعدا للقاء وفد الحكومة السودانية.
وظهرت في الكثير من التصريحات الأميركية الرسمية مؤخرا نبرة غير مألوفة، أشارت إلى إمكانية أن تسهم القاهرة بدور معتبر في تحريك الأزمة السودانية، وتم التشديد على الشراكة الإستراتيجية بين الطرفين في هذا السياق، وظهرت تجلياتها في ضم مصر، ومعها الإمارات، إلى الوساطة التي تقوم بها الولايات المتحدة والسعودية، وتوجيه دعوة أميركية لمشاركة وفد مصري في اجتماعات جنيف.
ليس هذا مجال الحديث عن الأهمية التي يمثلها السودان للأمن القومي المصري، فقد جرى التطرق إليها كثيرا، لكن من المهم الإشارة إلى عدم ترحيب الولايات المتحدة في البداية بمشاركة مصر في حل الأزمة، وذلك قبل اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل من العام الماضي، حيث أقصت واشنطن القاهرة من اللجنة الرباعية المكونة من الولايات المتحدة والسعودية والإمارات والأمم المتحدة، وكانت مهمتها تقريب وجهات النظر بين الجيش السوداني والقوى المدنية.
رضخت الإدارة الأميركية آنذاك لخطاب قاتم تتبناه بعض القوى المدنية بشأن دور القاهرة في أزمات السودان، واستجابت لانطباعات حول انحياز القاهرة إلى المؤسسة العسكرية في السودان، وعملت مصر على تسوية الأزمة بمفردها أو بالتنسيق مع قوى إقليمية ودولية لم تكن بينها الولايات المتحدة، واستضافت القاهرة مؤتمرا لدول جوار السودان، واجتماعات عديدة لأطراف سودانية مدنية وغير مدنية، وتكتلات محسوبة على الجيش والدعم السريع، زادت مع طول أمد الصراع وعدم قدرة الجهود الإقليمية التي بذلت على وقفه، ومحاولات البعض توظيفه في خدمة مصالحه.
وكانت النقطة التي يمكن وصفها بأنها دفعت إلى تقارب وتفاهم بين مصر والولايات المتحدة هي تضخم دور الحركة الإسلامية في صفوف الجيش، وميل الجناح الذي يمثلها في المؤسسة العسكرية ناحية تطوير التعاون مع كل من روسيا وإيران، والحديث عن منح كليهما تسهيلات عسكرية ولوجستية في شرق السودان المطل على البحر الأحمر، فضلا عن التقدم الميداني لقوات الدعم السريع في ولايات عدة، أبرزها الجزيرة وسنار في جنوب شرق السودان. وعزز وصولها إلى مناطق على مشارف بورتسودان اقتناع قادة في الجيش بالمقاربتين الروسية والإيرانية.
تعلم مصر أن هذا اتجاه يخل بموازين مختلفة في المنطقة ويدخلها عصرا جديدا من التوترات الأكثر حدة، وتدرك الولايات المتحدة أن هذه المعادلة تضيف إليها عبئا إستراتيجيا كبيرا، ربما يشتت جهودها في مناطق حيوية أخرى، وكان لا بد من التحرك لثني الجيش السوداني عن التمادي في اقترابه عسكريا من موسكو وطهران، عن طريق الخشونة أو الليونة، ولأن الخيار الأول نتائجه غير مضمونة ويدفع إلى المزيد من التناغم مع روسيا وإيران، فضّلت واشنطن الخيار الثاني (الليونة) الذي ظهرت معالمه في الدعوة إلى عقد اجتماعات في جنيف، وضم مصر إليها.
فجّر الجيش السوداني هذه الاجتماعات بغيابه عنها، وعدم حضوره لقاء القاهرة مع بيرييلو، فوضع الولايات المتحدة في مأزق؛ فهي إما أن تقلب الطاولة على الجيش وتشدد ضغوطها، وفي هذه الحالة تمنحه مبررات للميل بلا خجل نحو روسيا وإيران، أو تتريث وتعيد السعي للتهدئة، وبدا الطريق الثاني عقلانيا، فبدأت واشنطن تزيد ملامح تنسيقها مع القاهرة للتدخل لدى قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ومحاولة إقناعه بالعودة إلى طاولة المفاوضات على أساس تطبيق مخرجات إعلان جدة.
وتعتقد مصر في أهمية حل الأزمات بالطرق السياسية، وأن الأدوات العسكرية تزيد الأوضاع تأزما وتقلل فرص وأد الصراعات، وفي بلد مثل السودان يتكون من موزاييك سياسي واجتماعي معقد يجب التمسك بالمفاوضات، وأثبتت تجربة الأشهر الماضية أن الكفة العسكرية مالت ناحية قوات الدعم السريع، واستمرار الحرب أكثر من ذلك قد يؤدي إلى تمكينها من السيطرة على أماكن أوسع، أو لجوء الجيش إلى روسيا وإيران، وربما غيرهما، لضبط معادلة الصراع لصالحه.
تقود هذه المسألة إلى المزيد من التدهور وخلط الأوراق الإقليمية واتساع نطاق ما يعرف بالحرب بالوكالة في المنطقة، وسوف تصبح مصر من أكثر الدول تضررا منها، وتتعرض مصالح الولايات المتحدة في السودان وشرق ووسط أفريقيا لانتكاسة قد تفقدها ما تبقى من توازنها في القارة، الذي اهتز فعلا مع تغلغل نفوذ روسيا في الساحل الغربي لأفريقيا، وخسارة السودان باستمرار الحرب إلى مدى زمني طويل أو بتمدد موسكو وأي من القوى العسكرية والاقتصادية المناوئة للولايات المتحدة، بمعني حدوث خلل كبير في حسابات واشنطن من غرب أفريقيا إلى شرقها، مرورا بوسطها.
وتتأثر مصر بانهيار الجيش السوداني تماما أمام قوات الدعم السريع، ويسقط منهجها في دعم المؤسسة العسكرية النظامية، أو بتحالفه مع روسيا أو إيران، فمهما كانت العلاقات جيدة مع الأولى وهادئة مع الثانية، يظل موقف القاهرة الرافض للقواعد العسكرية على البحر الأحمر ثابتا، لأنه يفرض خيارات تؤثر على ما خبرته طوال السنوات الماضية، ويزيد السباق في مجال القواعد، في وقت تحاول فيه مصر ضبط علاقاتها بالقارة الأفريقية بشكل يحافظ على مصالحها في مياه نهر النيل.
كما أن تقليل التوترات والتهديدات في جنوب البحر الأحمر عملية مركزية، بعد أن تسبب التصعيد في خفض عائدات قناة السويس، وإذا زادت ملامح الصراع في السودان عن طريق امتداده إلى الشرق أو تشييد قواعد وتقديم تسهيلات لوجستية في بورتسودان، فإن التشابكات سوف تأخذ طابعا دوليا مخيفا في المنطقة، ومن هذه الزاوية التقت القاهرة مع واشنطن لمنع حدوث تدهور كبير في الأزمة السودانية.