أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: شكوك نفسية حول السلام بين مصر وإسرائيل

محمد أبو الفضل 31-5-2025: شكوك نفسية حول السلام بين مصر وإسرائيل

ما أن تهدأ عاصفة تشكيك في إسرائيل حول مستقبل السلام مع مصر، تظهر أخرى تردد معاني متقاربة، كأن هناك مايسترو يُصرّ على عزف سيمفونية واحدة من أجل التحريض ضد القاهرة، التي يحرص خطابها الرسمي على الإشارة إلى التمسك ببنود التسوية الموقعة مع تل أبيب منذ نحو نصف قرن.

ويتجاهل المايسترو والفرقة الموسيقية من خلفه وتعزف لحنا واحدا بتوزيعات متباينة، حجم الحشود العسكرية التي قامت بها إسرائيل في جنوب قطاع غزة.

إذا كانت هناك خروقات كبيرة لبنود السلام وملحقاته فقد جاءت من جانب إسرائيل، وما حدث على الجانب المصري في منطقة سيناء من تعزيزات عسكرية في أغلبه رد فعل، وبدلا من وقف تمادي إسرائيل في التغول داخل غزة، جرى توجيه وسائل الإعلام للتحريض ضد مصر، ما يخلق أزمة معها ويستنفر قوى دولية حريصة على تثبيت اتفاقية كامب ديفيد، وهي أزمة نفسية وسياسية أكثر منها عسكرية.

نفسية، لأن فئات عدة داخل إسرائيل لا تريد رؤية هجوم أكثر شراسة، تتجاوز تداعياته ما نجم عن عملية طوفان الأقصى، فلا يزال المجتمع الإسرائيلي يعاني من تبعات عملية قامت بها حركة حماس، فما باله لو حدث هجوم من قبل جيش عسكري نظامي كبير، مثل الجيش المصري، لديه من الجاهزية والاستعدادات وعلى مرمى بصر من إسرائيل، وهو تفكير يسيطر على شريحة كبيرة من سكانها، فما قامت به حماس في السابع من أكتوبر منذ نحو عامين يخيم على ذاكرة الكثيرين، ويخشى هؤلاء رؤية مشاهد أشد دموية إذا خاضوا حربا عسكرية.

كما ينطوي ما تبثه وسائل إعلام إسرائيلية حول مصر والحديث عن حشد قوات كبيرة في سيناء على بعد سياسي، يتعلق بأجندة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، حيث يريد تشتيت الانتباه إلى نقاط فرعية، والنأي عن النقطة الجوهرية وهي حرب غزة، وجذبت مشهدياتها الإنسانية قطاعات مختلفة، بما يمثل عبئا على رئيس حكومة يريد الهروب إلى الأمام من خلال خلق أزمات هامشية، كتكتيك يحاول به شد الانتباه خارج القطاع، أو تبرير استمرار الحرب فترة طويلة، وفي جزء منه يحمل ردعا لخطر قد يأتي من مصر، ومعه تفسير جاهز يزعم بوجود حشود عسكرية خارج عن المألوف.

هناك أمور عديدة تقلل من أهمية الحشود العسكرية المصرية، وتدحضها تماما وتجعلها غير ذات جدوى، في مقدمتها تمسك القاهرة بالسلام، وفي كل مرة تحدث فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي عمّا يجري في غزة، أشار إلى أن التسوية السياسية هي الطريق الوحيد لوقف الحرب الراهنة، ولوّح بصمود التجربة المصرية مع السلام، وأن الحل يكمن في العودة إلى طاولة المفاوضات، بمعنى لا نية لشن هجوم عسكري.

كل التقديرات في مصر، تؤكد أن أيّ حشود تمت في سيناء هي إجراءات احترازية دقيقة، ونوع من الردع لحكومة يمينية متطرفة تقود إسرائيل في هذه المرحلة وربما تدفعها إلى مغامرة عسكرية لاحقا، ولا تعني عزم مصر شن حرب أو افتعال أزمة.

كما تحمل مخاوف من عدم السيطرة على الأوضاع في غزة، التي بلغت حدا يمكن معها توقع أيّ شيء، بما فيه المزيد من الفلتان الأمني، عقب تصريحات مباشرة من رئيس الحكومة حول تبنيه مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتوطين فلسطينيين خارج غزة، ومصر في مقدمة الدول المستهدفة بتنفيذ هذا السيناريو في أراضيها، ومن المهم تعزيز القوات العسكرية، خوفا من قيام نتنياهو بتنفيذ مقترح ترامب كأمر واقع.

تحدث لواء احتياط في جيش إسرائيل قبل أيام اسمه إسحق بريك عن تخلي مصر عن اتفاقية السلام من دون أن تعلن ذلك صراحة، واتخذ من انتشار جيشها بمعداته الثقيلة في سيناء ذريعة لدعم رؤيته، وعزّزها برفض تعيين سفير لإسرائيل في القاهرة، أو سفير لمصر في تل أبيب، وهي تكرار أيضا لمقاطع جرى ترديدها قبل أسابيع، والعودة إليها من حين إلى آخر يفيد بالتصميم على توظيف هذه السردية للإيحاء بأن التوترات الحالية دخلت مرحلة الأزمة، وقد تفضي إلى حرب، ما يعزز الأبعاد النفسية والسياسية التي تتحكم في رؤية إسرائيل تجاه مصر.

وكل طرف يعلم أن السلام مع الآخر لا يقتصر على أنه مصلحة ثنائية إستراتيجية، بل تحول إلى رافعة إقليمية ودولية، وجميع القوى الفاعلة حريصة على استمراره، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي لا ترتاح إدارتها الحالية إلى ما تتبناه الإدارة المصرية من تصورات سياسية بشأن مستقبل غزة.

لم يسأل من يشككون في التوجهات المصرية أسئلة محورية، من نوعية: لماذا حشدت أو تحشد مصر، وكيف ومن أين خرقت اتفاقية كامب ديفيد، وماذا عمّا تقوم به إسرائيل في غزة والحدود مع مصر؟

إذا توافرت إجابات واضحة وصادقة ومحددة سيتوقف المشككون في نوايا القاهرة، ولن يتم تكرار سيمفونية لا تجد من يصدقها خارج إسرائيل، الغرض منها لفت الأنظار إلى هدف افتراضي، وشغل المجتمع الدولي بالتعامل معه، ومنحه أولوية عمّا تقوم به إسرائيل في كل من قطاع غزة ولبنان وسوريا، وربما إيران واليمن، والتشويش على تحركات عسكرية تقوم بها منفردة حيال كل منهم.

لا تحتاج مصر إلى تأكيد على تمسكها بالسلام مع إسرائيل، لأنه أحد القواعد الرئيسية التي تعتمد عليها الدولة، ولا يعني ذلك التخلي عن أيّ خيارات أخرى، فالصراعات التي تعج بها المنطقة تجعل كل دولة معرضة للتهديد، وتصرفات الحكومة الإسرائيلية أفقدتها الثقة في التمسك بتعهدات واتفاقيات راسخة، ما يمنح القيادة المصرية مبررا لعدم إظهار ليونة، وعلى العكس تعزيز الخشونة في وقت يقال فيه إن وجه الشرق الأوسط سوف يتم تغييره، وما لم تكن بعض الدول جزءا من اللعبة، بالسياسة والاقتصاد والقوة العسكرية، أو أحدها، لن تجد لها مكانا تحت شمسه بعد سنوات قليلة.

تدرك مصر أن محاولات إعادة هندسة المنطقة سوف تتجاهل من لا يستطيعون التعامل مع المعطيات الجديدة، ولا يملكون أدوات تساعدهم ليصبحوا فاعلين فيها، أو على الأقل لا يتم تهميشهم وإيجاد حلول لقضايا مزمنة على حساب مصالحهم، وهو ما جعل مصر يقظة عسكريا في سيناء وما يحيط بها من أزمات على جهات إستراتيجية عدة يفرض المزيد من اليقظة لتجنب القبول بتسويات تضر بأمنها القومي.

ولا يوجد أفضل من امتلاك قوة عسكرية، كوسيلة ردع ثم فعل إذا استوجب الأمر، وهو ما أقلق بعض القادة في إسرائيل ممن ارتاحوا إلى انهيار غالبية الجيوش العربية المزعجة، ويتعاملون مع الفحوى النهائية للحشود العسكرية المصرية بشكوك نفسية.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى