محمد أبو الفضل: الكلام الساكت حول مصر وإيران

محمد أبو الفضل 1-6-2025: الكلام الساكت حول مصر وإيران
ينتشر في مصر وسط النخبة السياسية ما درج سودانيون على تسميته بالكلام الساكت، حول العلاقة بين القاهرة وطهران، وعدم استبعاد الإعلان رسميا عن عودتها إلى طبيعتها، فالتقديرات التي لعبت دورا مهما في التريث بدأت تتراجع، فكل دول الخليج العربي طورت علاقاتها مع إيران، والولايات المتحدة تتفاوض من أجل التوصل إلى تسوية سياسية معها، ولا توجد سوى إسرائيل في المنطقة التي تناصب إيران عداء ظاهرا بينما تمر علاقاتها مع مصر بتوترات ليست خافية على الكثيرين.
ويخيم دائما على العلاقات بين مصر وإيران قدر من الغموض، مع أن الاتصالات بين البلدين لم تنقطع خلال الفترة الماضية بشأن بعض القضايا الإقليمية، ولم يرشح ما يوحي أن هناك خلافا أو توترا خطيرا، وفي أوج تدخلات طهران في القضية الفلسطينية ولبنان واليمن وسوريا والعراق، حافظا على درجة من الهدوء، ولم تنجر القاهرة وراء أيّ دعاية سوداء ضد طهران، وتلقت تطمينات عملية وعبر طرق مختلفة بشأن عدم استهداف إيران للمصالح المصرية، وكل رذاذ أصابها أو يمكن أن يصيبها في البحر الأحمر بسبب عمليات جماعة الحوثي في اليمن، هو نتيجة لممارسات إسرائيل وتصرفات الولايات المتحدة الخشنة.
واتخذ رفض القاهرة مشاركة الولايات المتحدة في عملياتها العسكرية ضد الحوثيين ذريعة لتأكيد أن مصر لا تريد صداما مع الجماعة وإيران التي تقف خلفها، وأن انزعاجها ممّا يحدث في البحر الأحمر سيتلاشى إذا أوقفت إسرائيل حربها الشرسة على قطاع غزة، ما يعني أن تصرفات الحوثيين رد فعل.
ولذلك لم توجه القاهرة انتقادات حادة لهم أو تضع على عاتقهم وحدهم مسؤولية خسائر قناة السويس المادية جراء بطء حركة الملاحة، أو تلقي باللوم مباشرة على طهران وتوجهاتها الإقليمية القاتمة، ولجأت إلى الرسائل الضمنية التي فهم منها أنها حريصة على تجنب حدوث صدام مع إيران في هذه المرحلة.
يشير الكلام الساكت إلى أن مصر وإيران مستعدتان لطي صفحة الخلافات السابقة، التي لم تعد القيادة السياسية في البلدين راغبة في الحديث عنها، أو أن تنكأ ما حوته من جراح عديدة، لأن التطورات تجاوزتها، وفي كل الاتهامات التي وجهت إلى طهران حول تدخلاتها الإقليمية السافرة وتوظيف أذرعها الخارجية لم تضبط خلال السنوات الماضية بارتكاب جريمة مباشرة ضد مصر، على العكس كان هناك حرص على عدم المساس بمصالحها الحيوية، وهو ما فتح خطوط اتصال خلفية، ووفر درجة مناسبة من الدفء السياسي، ساعد على تذويب الكثير من التباينات الإقليمية.
ما يجمع القاهرة وطهران اليوم أكثر ممّا يفرقهما إستراتيجيا، فإسرائيل التي تضع إيران في مقدمة أولويتها الأمنية لا تخفي هواجسها من تنامي القدرات العسكرية المصرية، والولايات المتحدة التي تريد تهذيب سلوك إيران غير مرتاحة للتوجهات المصرية في المنطقة، والسعودية التي أعادت الدفء إلى علاقاتها مع إيران لا تزال قلقة من برنامجها النووي، وخيمت على علاقاتها بمصر ملامح خلاف في بعض القضايا، ما يعني أن الدولتين (مصر وإيران) في مربع إقليمي شبه متقارب، وإن كانت الدوافع والأسباب مختلفة.
أضف إلى ذلك، أن كليهما قطع شوطا إيجابيا في تطوير علاقته مع الصين وروسيا، وتقف تركيا على مسافة قريبة من الدول الأربع وإن تغيرت أحيانا، صعودا أو هبوطا، ما يمكن أن يؤدي إلى نواة لتحالف بين هذه الدول، لتقويض أهداف الولايات المتحدة، التي تمارس سياسة متذبذبة على الساحة العالمية، في جزء منها لا ترتاح إلى توجهات هذه الدول، باستثناء تركيا التي لها مكانة في عقل وقلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تجعلها تحجم عن التفكير في الانضمام إلى أيّ تحالف مناهض للسياسات الأميركية.
يمكن إدراج معادلة مصر وإيران والصين وروسيا، ضمن متلازمة الكلام الساكت، لأن المعالم الكاملة لهذه المعادلة لم تتكشف بعد، لكنها تدخل في عدّاد الخيارات، فالتصورات التي يتبناها الرئيس ترامب كفيلة أن تسبب قلقا لهذه الدول، التي من السهولة أن تجتمع معا للدفاع عن مصالحها، في مواجهة طوفان يريد أن يجرفها دولة بعد أخرى، ويقوض أوراق القوة التي يملكها كل منها، ما يجعل حدوث تقارب علني بين القاهرة وطهران غير مستبعد، بما يؤدي إلى تجاوز مرحلة الحساسية التي حكمت تصرفات كليهما كثيرا خلال فترة التوترات الحرجة.
ولا توجد ممانعات أمام إيران لتطوير علاقتها مع مصر، وقد سعت مرارا إلى تتويج الاتصالات مع القاهرة برغبتها في الإعلان رسميا عن تطبيع العلاقات، وتأتي دائما التحفظات أو الممانعات من جانب القاهرة، لاعتبارات خارجية، ويبدو أن هذه المسألة لم تعد حاكمة، فالكثير من التابوهات أو المحرمات جرى تجاوزها أو تجميدها، سواء على صعيد الملفات الثنائية أو الإقليمية والدولية، بحكم تحولات كبيرة بدأت تظهر معالمها في المنطقة، وربما تصيب تداعياتها مصر وإيران بأضرار بالغة.
لن تصبح مصر مطمئنة إذا وجهت إسرائيل ضربة عسكرية قوية إلى إيران أو قامت الولايات المتحدة بممارسات ضغوط كثيفة عليها تخرجها من حلبة القوى الإقليمية في المنطقة بما يعزز مكانة إسرائيل منفردة، ولن تصبح طهران راضية إذا أفلحت تل أبيب في جر القاهرة إلى معارك جانبية ونجحت في تشتيت انتباهها أو إضعاف قوتها، لأن مكانة إسرائيل سوف تتعزز أيضا، ويمكنها لاحقا القيام بترتيبات في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة هندسته بشكل يتعارض مع مصالح القوى الإقليمية التقليدية، وهي نتيجة تضفي بريقا على أيّ حوارات غير معلنة تجري بين مصر وإيران، وقد تمنحها دفعة معنوية للصراخ في لحظة معينة.
ما يربط بين مصر وإيران في الوقت الراهن أكثر مما يفرقهما، فكلتاهما مستهدفة بطريقة مختلفة من قبل إسرائيل، وفي المحصلة يمكن أن تصبح الأضرار واحدة، تتمثل في محاولة إخراجهما من التوازنات التي يراد لها أن تسود في المنطقة، وتتسع أدوار بعض القوى التي كانت فاعليتها محدودة، كي يتسنى إعادة تشكيل المنطقة، والتي يصعب الوصول إليها ما لم تكن القوى التقليدية خارج المعادلة الجديدة.
تنتبه القاهرة وطهران إلى تداعيات هذا الأمر، ما يفرض عليهما البحث عن صيغة للتوصل إلى تفاهمات متينة، فالتحديات التي تواجههما ترقى إلى المستوى الوجودي، وتستلزم تنسيقا لا يكتفي بالصيغة الرمادية، التي أخذت طابعا خجولا، إذ راعت مصر حسابات قوى صديقة أو حليفة لم تعد حريصة على التمسك بها، وفوتت فرصا كان يمكن أن يفضي استثمارها إلى تغيير خارطة المنطقة، وهو ما يحاول الجانبان تصحيحه، وتحطيم نظرية الكلام الساكت التي سادت السنوات الماضية.