أقلام وأراء
محمد أبو الفضل: الحكومة المعزولة في مصر
محمد أبو الفضل 31-7-2023: الحكومة المعزولة في مصر
يشعر الكثير من المواطنين في مصر أن حكومتهم معزولة ومنفصلة عن الواقع ويعيش البعض من وزرائها في أبراج عاجية لا يسمعون ولا يتكلمون وإن فعلوا لا يستوعبون حقيقة الأمور على الأرض، فهناك معاناة ليس سببها الأزمة الاقتصادية وصعوبة الحياة المعيشة لشريحة من الناس فقط، بل سببها عدم القدرة على فهم ما يجري والبحث عن حلول وهمية لعدم ارتكاب ما يؤكد عدم درايتها.
بالطبع الحكومة هي الجزء المهم في الجهاز التنفيذي في النظام المصري الحاكم، وعليها مسؤوليات كبيرة قد تفهمها أو تذهب لصالح جهات معينة، وفي الحالتين هي الواجهة أو أقرب عنوان يتوجه إليه المواطنون في أول محك.
تحمّل الرئيس عبدالفتاح السيسي عبئا كبيرا السنوات الماضية وأعفاها من بعض مهامها في مخاطبة الرأي العام وشرح الكثير من التوجهات وتفسيرها، لكن عندما تصاعدت أزمة انقطاع الكهرباء الأيام الماضية تصدر رئيس الحكومة مصطفى مدبولي المشهد مرتين، مرة أعلن فيها أن الأزمة ستنتهي في غضون أسبوع، وفي الثانية ترك سقف الوقت مفتوحا، ولم تكن الكثير من إجاباته شافية حول جوهر الأزمة.
اتخذ قرارات بعيدة عن الأزمة معتقدا أنه يلامس عمقها ويقوم بترشيد الاستهلاك بطريقة بدائية، فكانت دعوته لعدم إقامة مباريات كرة القدم ليلا، ومنح يوم عمل (الأحد) لموظفي الدولة من المنزل وسيلة غير ناجعة، وهي حلول تدل على انعزال مفرط عن الأزمة، وعدم قدرة على تدبير الأمور للتعامل مع روافدها.
كان خطاب مدبولي، الخميس الماضي، للمكاشفة والمصارحة بحقيقة أزمة الكهرباء ثم تحول بعد انفضاضه إلى لوغاريتمات بدأ البعض يحاولون فك طلاسمها بلا جدوى.
يحسب له تصديه في هذا الوقت العصيب، ويحسب عليه عدم حنكته السياسية، وهو الأمر الذي تكرر من وزراء يعملون تحت قيادته، فأحدهم اختزل توفير الكهرباء في عدم وضع الطعام ساخنا في الثلاجة لأنه يساعد على المزيد من الاستهلاك.
سأل إعلامي لامع أربع شخصيات كبيرة مسؤولة في الدولة سؤالا يتعلق بتفاصيل أزمة انقطاع الكهرباء وتوقيتاتها فحصل على أربع إجابات مختلفة، وحاول آخر الوصول إلى مسؤول رفيع يسأله حول الأزمة ذاتها، فاعترف بفشله بعد نحو خمس محاولات مع شخصيات مختلفة وتلقى إجابة واحدة مفادها الاعتذار عن الإجابة.
تؤكد هذه العقلية أن درايتها بما يجري في الشارع محدودة وفهمها لدور الإعلام قاصر، فلم تعتد مخاطبة الناس بجدية خلال السنوات الماضية، وربما لا تفهم جيدا ما يحدث في الدولة أو اعتادت الكسل والاتكال.
قد تكون كل هذه العوامل مجتمعة حاضرة، وما يزيد الموقف صعوبة أن رئيس الحكومة وعدد من وزرائه ظهروا أمام الناس وهم لا يملكون حلولا لعلاج العناصر المحورية في الأزمة الاقتصادية أو تفسيرات للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه.
لا تتحمل الحكومة الأزمة بمفردها في بلد مثل مصر تتشارك معها جهات سيادية الأدوار وتتقاسم معها الكثير من المهام، ما يحدث خلل وتضارب في بعض الأحيان.
كما أن مؤسسة الرئاسة تاريخيا لها اليد الطولى في الحل والعقد، ومخاطبة الرأي العام وعندما تقدم رئيس الحكومة الصفوف ظهر قليل الحيلة ولا يريد الكشف عن أشياء مهمة فجاء كلامه مبتورا ومحيرا، لأن الأسئلة التي أثارها تفوق الإجابات التي قدمها.
يهمس الكثيرون في مصر بأن عمر هذه الحكومة بات قصيرا، وقد تصبح ضحية تعاملها مع أزمة الكهرباء المفاجئة وقلة حيلتها لفك بعض الألغاز في الأزمة الاقتصادية، وكانت أحد مطالب بعض الجهات الدولية حث الإدارة المصرية على تعيين حكومة تستطيع مواجهة التحديات وتضم عددا مشهودا له بالرشادة الاقتصادية.
في الوقت الذي بدأت فيه حكومة مدبولي الخروج من القوقعة البيروقراطية تعرضت للمزيد من السهام السياسية، وكأن تصدرها جاء لهذا الهدف لعدم توجيه السهام لرئيس الدولة وتحميله مباشرة مسؤولية الأزمة الاقتصادية المركبة، ولذلك قد تكون هذه الحكومة كبش فداء لسلسة من الإحباطات التي تمر بها البلاد، وأداة لتخفيف حدة الاحتقان، ومدخلا لتهيئة الأجواء لإجراء انتخابات رئاسية هادئة.
يتواتر الحديث حول تغيير الحكومة كوسيلة لامتصاص غضب متصاعد في الشارع، لكن استمرارها سوف يبدو اختبارا للمدى الذي يمكن أن يصل إليه الغليان ومحاولة لتأكيد أن الأمور لن تخرج عن السيطرة في مصر مهما تفاقمت حدة الأزمة الاقتصادية، ثقة في ولاء الناس أو يقينا بأن أولوياتهم هي الأمن والاستقرار قبل الغذاء.
استمرار حكومة مصطفى مدبولي أو تغييرها ليسا مهمّين، ولن يحدثا تغييرا كبيرا في الأوضاع العامة، لأن النقطة المفصلية هي مدى التغيير في المنهج والسياسات، فلن تكون هناك أهمية كبيرة إذا جرى اختيار أحد أعضاء المجموعة الاقتصادية الراهنة، ولن يجدي اختيار رئيس حكومة من خارجها يسير على المنوال نفسه.
المقصود بانعزال الحكومة أنها اعتزلت العمل السياسي بمفهومه الشامل فترة طويلة ولم تعد معنية بقراءة تطوراته وفهمها، وظلت متهمة بعدم قدرتها على التجاوب مع نبض الناس في الشارع، وحرصها على المضي قدما في طريق تشير تقديرات عديدة إلى أنه لن يكون مجديا، أو على الأقل لن يحقق الأهداف المرجوة منه.
يعد الاعتراف بالأخطاء وتصويبها أول نقطة إيجابية لإحداث التفاؤل وأن هناك حكومة قادرة على تحمل المسؤولية ولديها عقل راجح بإمكانه تجاوز المشكلات المتراكمة، فاللف والدوران حولها ومحاولة البحث عن تفسيرات مطاطة لن تفضي كلها للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فقد سئم الناس المسكنات وملوا من الانحناءات المؤقتة للعواصف، وهم في حاجة ضرورية إلى علاجات ناجزة.
من يراهنون على استمرار الصمت في الشارع طويلا في غياب الحلول هم على خطأ، ومن يعتقدون أن الحكومة قامت بواجباتها ونفّذت التعليمات المطلوبة ولا غبار عليها أول من سيضعون على كاهلها عواقب الأزمات ودفع فاتورة لا تتحملها وحدها.
يأتي الانعزال أيضا من الفشل في مراقبة التطورات بدقة وتحليل النتائج بعمق ووضع دراسات الجدوى اللازمة لمشروعات تمتد بطول البلاد وعرضها، ولن تعفى الحكومة من المسؤولية لوجود جهات لها صلاحيات أعلى منها، فالدستور المصري منح رئيسها ومعاونيه الكثير من المزايا التي تمكّن من إدارة الدفة والقبض عليها، ولن يعفيها تنازلها، طواعية أو قسرا، عن المسؤولية، فقد تصبح أول ضحايا الاعتراف بالخطأ.
بدت الكثير من الحكومات المصرية معزولة في عهود مختلفة، لكن لم تصل هذه العزلة إلى مستوى عدم الوضوح أو الحصول على معلومات مقنعة أو صعوبة في الوصول إلى إجابات شافية، فالصمت ملاذ الوزراء ومنجاة للكثير منهم يأتي خوفا من الوقوع في خطأ أو عدم اليقين بطبيعة بوصلة تتغير وفقا لمعطيات متباينة، مهما بلغت حساسيتها لا تعني غياب رئيس الحكومة عن صدارة المحاسبة.