أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: التأقلم مع الحرب الإسرائيلية على غزة

محمد أبو الفضل 24-9-2024: التأقلم مع الحرب الإسرائيلية على غزة

قبل أن يتسع نطاق الحرب بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، بدأت شرائح عربية وغير عربية تتأقلم مع مشاهد الدماء والدمار والخراب في قطاع غزة، ولا تبدي غضبا أو قلقا أو انزعاجا كبيرا، كما كان في السابق، وتحول التنديد بالمآسي والرفض لمشاهد الإبادة الجماعية إلى نوع من المشهديات اليومية، حيث اعتاد الكثيرون رؤية ذلك، وتجمد التعاطف والألم والمرارة التي خلفتها أعمال قوات الاحتلال في حلوق الكثيرين.

لم تعد هناك فائدة من الشجب والرفض والصياح بعد أن أغلق المجتمع الدولي آذانه عن السماع، وأخرست ألسنته عن الكلام، ما منح إسرائيل قدرة هائلة على الرفض والتحدي ومواصلة التنكيل إلى أبعد مدى، ونقل المعركة إلى جبهات أخرى، وفقا لسيناريو يرمي لتجفيف منابع القوى الإقليمية التي تراها خطرا حاليا أو مستقبليا.

جاء التكيف مع حرب غزة عقب سلسلة طويلة من الصراعات والنزاعات والحروب الوعرة التي شهدتها العديد من الدول العربية في السنوات الماضية، بعضها لم تخمد نيرانه حتى الآن بسبب ما نجم من واقع أشد قسوة مما كانت عليه الأوضاع، وبعضها تحول إلى حروب أهلية لا تجد من يعمل على وقفها بجدية سياسية حقيقية، ومن الطبيعي أن يعتاد الملايين من الأشخاص في أنحاء العالم رؤية طفل يقتل هنا، أو شيخ يُهان هناك، ويفقد قطاع غزة الزخم الإنساني الذي توافر له في الأشهر الأولى للحرب، ويتم التعامل مع التطورات والصور المنقولة منه باعتبارها ضمن حلقة جديدة من حلقات الرعب التي تجتاح المنطقة، وكأنه كتب عليها عدم الخروج من نفقها المظلم.

كثرة الحروب ينسي بعضها البعض الآخر، هكذا يمكن وصف الحالة التي سوف يصبح عليها القطاع خلال الفترة المقبلة، فاندلاع حرب واسعة بين إسرائيل وحزب الله سيؤدي إلى تصعيد جديد ربما يقود إلى تفجير المنطقة بالشكل الذي يصعب معه تتبع نتائجه الإنسانية، حيث قرأت إسرائيل الموقف الدولي جيدا، وتعاملت مع معطياته بما يفضي بها إلى وضع مريح.

فحرب لبنان المتوقعة يمكن أن تنسي هموم سكان غزة التي حملها البعض على عاتقه وحاول أن يجد لها نافذة أو طاقة أمل ليوقفها، غير أن النتيجة النهائية جاءت مخيبة، إذ بدأ التعايش معها يزداد، والمخاوف منها تتراجع، والتعاطف الإنساني يتآكل.

يأتي التأقلم دائما من رحم الانتشار والكثافة وطول المدة الزمنية للصراع، وعدم الشعور بوجود مردودات إيجابية من الجهات الإقليمية والدولية المنوط بها المساعدة في حفظ السلام والأمن بما يصل إلى حد العجز، والإصرار من قبل الجهة القوية (إسرائيل) التي تمارس البطش على مواصلة دورها، وضعف الجهة المقابلة (المقاومة الفلسطينية) عن مجاراتها واستنزافها في حروب لا أول لها ولا آخر.

تكشف مظاهر الهدوء في دول أبدى عدد من شوارعها التحاما إنسانيا مع ما يجري في غزة، عن تطور مهم في مفهوم التأثيرات التقليدية لها على الحكومات والأنظمة، فلم ينجم عن الاحتجاجات التي اجتاحت بعض الدول، عربية وغير عربية، شيء ملموس يمكن القول معه إنه أثّر في المسار العام للحرب على غزة، أو أجبر حكاما ومنظمات على تبني مواقف حاسمة من التصرفات العنيفة التي يقوم بها الاحتلال، وهذه من الظواهر التي عوّل عليها البعض في تغيير مجرى تصورات تبنتها إسرائيل.

وحتى مظاهرات أهالي الأسرى ضد الحكومة الإسرائيلية نفسها لم تفلح في تغيير موقفها، وبدت عاجزة عن دفعها على تقديم تنازلات وعقد صفقة مع حركة حماس يعود بموجبها ما تبقى من المحتجزين لديها إلى ذويهم، فكل الحشود التي خرجت في شوارع تل أبيب وغيرها من المدن الإسرائيلية أخفقت في حث الحكومة على الاتجاه نحو التعجيل بالصفقة.

وتحولت اللافتات في الشوارع إلى عمل أسبوعي روتيني يتعايش مع النمط الذي قام رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بتسويقه على نطاق واسع، وافتقد المتظاهرون القدرة على التأثير، وجاء التعايش على الضفة المقابلة معبّرا عن إحباط من حدوث التغيير.

أكدت الحرب الإسرائيلية على غزة أن رهان ما يسمّى بمحور المقاومة أو الممانعة على الشارع العربي فقد مفعوله، كما أن بعض الدول التي كانت تلجأ أحيانا إلى توظيف المعارضة فيها من خلال السماح لها بالخروج في مظاهرات حاشدة أو عدم التصدي لها، خسرت هذه الورقة ولم تعد تؤمن بجدواها سياسيا.

ولعل الانخفاض الملحوظ في منسوب التعاطف الواضح مع أهالي غزة هو دليل على حجم التحول الذي أصاب الشارع العربي الفترة الماضية، وأن ثمة خارطة تتشكل في هذا المضمار، من الصعب أن تكون لمحور المقاومة مكانة فيها، خاصة بعد أن خيبت القوى المنتمية إليها ظنون من راهنوا على قدرتها في التصدي لإسرائيل وردعها، والحد من المخاطر الناجمة عن عملياتها العسكرية.

ينطوي التأقلم الشعبي مع حرب غزة، سواء جاء ظاهرا أم مكتوما، على نصر سياسي حققته إسرائيل والدول التي راهنت على أن المقاومة ليست سبيلا جيدا للمواجهة معها، فالصمت الذي يخّيم على غالبية الشوارع يحمل نوعا من اليأس، لأن المظاهرات التي تخرج لا يزيد عدد المشاركين فيها على عشرات أو في أقل تقدير مئات، تعد مؤشرا آخر على درجة التعاطف، فإذا كانت هناك كوابح في الدول العربية تمنع الكثافة العددية من النزول إلى الشوارع، فإن ما رأيناه في مظاهرات خرجت في دول أوروبية وأميركية عدة يكفي لعدم التفاؤل بحدوث تغيير، والتشاؤم بأن القادم أسوأ.

يمكن أن يتخذ هذا المحدد كمؤشر على مستوى التعاطف الجديد مع القضية الفلسطينية، فما حصدته هذه القضية من مكاسب في الأيام الأولى للحرب على غزة فقدته وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، مع أن المفروض العكس هو الصحيح، حيث توسّعت إسرائيل في الانتقام والشراسة، وكادت تنهي مظاهر الحياة الطبيعية في القطاع، ومع ذلك لم تتمكن قوة دولية من إجبارها على وقف الاستنزاف البشري.

هذه واحدة من النتائج المأساوية التي تشجع نتنياهو على استغلال أجواء التصعيد، ومحاولة إجراء تغيير في خارطة المنطقة بما يصبّ في صالح طموحاته، ولا يمنح فرصة لخصومه كي يتنفسّوا مستقبلا، وتحدث عن ذلك بغرور مباشرة وبلا مواربة، وهو ما يفسر الحرب التدريجية التي يخوضها في مواجهة حزب الله، إذ يجره إلى حلقة قاتمة من الإنهاك العسكري، ربما لا تمكنه من أن تقوم له قائمة سريعا، فالجدول الذي تسير عليه إسرائيل يبدو دقيقا بالشكل الذي يقود إلى منطقة آمنة على مقاسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى