محمد أبو الفضل: اشتباكات طرابلس واستقبال مليون فلسطيني

محمد أبو الفضل 18-5-2025: اشتباكات طرابلس واستقبال مليون فلسطيني
يوحي العنوان بوجود قضيتين منفصلتين ويحمل معنى مبهما ومتداخلا، وما يجعل استنتاج الارتباط بينهما منطقيا أن العاصمة طرابلس حظيت بقدر من الهدوء خلال السنوات الماضية وتعايشت قواها السياسية والعسكرية مع ظاهرة الميليشيات بأطيافها، والتي تحولت إلى جزء من معادلة السلطة والثروة، لأن كلا من المجلس الرئاسي الليبي وحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها اعتمد جماعات مسلحة واستقطب كتائب إلى جواره لحمايته أو ردع خصومه، وتغوّلت الظاهرة بشكل يصعب تجاهله.
ما حدث من اشتباكات في طرابلس قبل أيام ليس صدفة، فهو عملية وقائية انتظارا لترتيبات معينة يتم التجهيز لها من قبل قوى خارجية متحالفة مع أخرى داخلية، تستهدف دعم حكومة عبدالحميد الدبيبة في مواجهة خصومه ومنحها أملا للاستمرار فترة طويلة، وقطع الطريق على محاولات عزلها بعد انتهاء ولايتها منذ سنوات، وما منح هذه الفكرة أهمية أن الإدارة الأميركية ضاعفت اتصالاتها بالدبيبة وقريبين منه مؤخرا، وسعت للتفاهم وعقد صفقات عدة.
بعض الصفقات ظاهر، مثل توحيد القوى الأمنية ووضعها تحت سيطرته، وكان لزاما التخلص ممّن يمثلون عائقا أمام هذا الاتجاه، وفي مقدمتهم قائد أحد أهم الميليشيات في طرابلس عبدالغني الككلي (غنيوة)، والذي تولى رئاسة ما يسمى بـ”جهاز دعم الاستقرار”، وبدت عملية اغتياله في خضم اشتباكات وقعت الأيام الماضية فرصة للتخلص من آخرين أعاقوا طموحات الدبيبة وأعوانه لترتيب المشهد بما يتواءم مع مصالحهم، التي تتناقض مع مصالح قوى منافسة، في طرابلس ومصراتة وبنغازي، لم تتوقف عن الحديث عن انتهاء صلاحية حكومة الوحدة الوطنية وما اقترفته من خروقات سياسية وأمنية واقتصادية تجعلها خارج الحسابات الجديدة في ليبيا.
وثمة صفقات غير ظاهرة، من نوعية إعادة تكرار مشهد هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) في الوصول إلى السلطة في سوريا وتعيين قائد الهيئة أبومحمد الجولاني (أحمد الشرع) رئيسا للدولة، ثم تعويمه إقليميا ودوليا، ولا أحد يعلم من هو جولاني ليبيا القادم، لكنه ليس بالضرورة أن يكون ذا وجه إسلامي فاقع، أو ينحدر مباشرة من جماعة الإخوان أو تنظيم القاعدة، فقد تمكنت الجماعة من نسج تحالفات سياسية مع قوى مدنية مختلفة، ساعدتها على توطيد علاقاتها مع عدد منهم، وأبرزهم عبدالحميد الدبيبة، وقد تظهر هيئة شام أو جبهة نصرة في ليبيا، كما أن وجود تركيا كعنصر مشترك في سوريا وليبيا، يوفر مصداقية كبيرة لإعادة تطبيق خيار جولاني ليبيا.
يجد هذا السيناريو عثرات، لأن ليبيا ليست سوريا، والجماعات المسلحة والميليشيات النشطة في الأولى ذات خصوصية قبلية ومناطقية وجهوية، تجعل التحكم فيها من قبل قوى خارجية على الدوام مهمة صعبة، كما أن التركيبة الجغرافية من حيث طبيعة القوى التي تسيطر على مناطق بعينها ليس من السهولة أن تقودها إلى تغيير تحالفاتها، ناهيك عن القوة العسكرية التي يملكها الجيش الليبي تحت قيادة المشير خليفة حفتر، ما يجعلها عصية على تفكيكها من جانب من يحركون ميليشيات طرابلس أو يريدون توجيهها إلى هدف محدد، كما حدث في سوريا.
تزامنت اشتباكات طرابلس مع معلومات نشرتها وسائل إعلام أميركية حول ترتيبات تجريها واشنطن مع حكومة الدبيبة في طرابلس تقضي بتهيئة الأجواء لاستقبال مليون شخص من سكان قطاع غزة في ليبيا، مقابل الإفراج عن المليارات من الدولارات التي صادرتها الولايات المتحدة بعد سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي، وما زاد هذه المعلومات أهمية هو الإصرار الأميركي على إيجاد مكان مناسب يستقبل مهجري غزة، فلم يتخل الرئيس دونالد ترامب عن مقترح إخراجهم من القطاع بتوافق مع إسرائيل، التي دشنت خططا شاملة للوصول إلى هذا الغرض.
وكلما توارى مقترح التوطين أو ظهر ما يفيد بتجميده يكشف الرئيس ترامب عن تمسكه به والعودة إليه، وكانت المعلومات التي أشارت إلى ليبيا كفيلة للقول إن هناك قوى خارجية استشعرت خطورة ما يتم التدبير له في ليبيا، ويتعلق بخلط أوراقها الداخلية وتعويم ملف التوطين إقليميا والمساهمة في استكمال خطوات تصفية القضية الفلسطينية، ما دفع هذه القوى إلى تحريك المياه الراكدة في نهر الميليشيات بعد أن وصلت إلى درجة مرتفعة من الاستنفار، وسعت هذه القوى لتوظيف أدواتها لإرباك أحد حلقات سيناريوهات التوطين في المنطقة.
هناك حكمة عربية متداولة تقول إن لم تستطع تحقيق أهدافك فلا تمكّن خصومك من الوصول إلى أهدافهم، بمعنى السعي إلى تخريبها، وكلما كانت عملية التخريب منظمة وفي وقت مبكر حققت أغرضها، فاشتعال الموقف الميليشياوي في طرابلس قد يقطع الطريق على من فكروا في نقل مليون فلسطيني إلى ليبيا، ويفرض على من يفكرون في قبول العرض من فلسطيني غزة والمصحوب بإغراءات مادية ومعنوية رفضه أو عدم التجاوب معه، وربما عدم التفكير فيه، فهل يخرجون من جهّنم قوات الاحتلال للعيش في كنف جهّنم كتائب مسلحة تدمن القتل على أهون سبب؟
قد تكون عملية ليبيا انتهت قبل أن تكتمل فصولها، وهي إشارة سلبية لمن يفكرون في قبول مخطط التوطين، وعلامة قاتمة لمن يجتهدون في البحث عن ملاذ للفلسطينيين كبديل عن القطاع، فمع أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو تحدثا عن تلقي وعود من دول لاستقبال سكان غزة، إلا أنه حتى الآن لا توجد دولة أبدت استعدادها للتنفيذ، وكل الجهات التي قيل إنها مستعدة اختفت فجأة، وإن وُجدت فإن مناطقها لا تقل سخونة عن غزة، والتي قال مسؤولون في الولايات المتحدة إن عددا كبيرا من سكان القطاع يريدون الرحيل.
ربما يكون ذلك صحيحا بسبب مواصلة القصف على رؤوسهم لنحو 19 شهرا، كما أن مغادرة بعضهم وفقا لنتائج استطلاع رأي أجرته إسرائيل جاءت مشروطة بالذهاب إلى عدد من الدول الغربية الغنية، وليس إلى دول ينتشر فيها الفقر والاقتتال.
تنطوي اشتباكات طرابلس الأخيرة على دروس خاصة بالليبيين، فالقوى المحلية التي لدى بعضها امتدادات خارجية عليها التفكير في وقف هذه المعاناة، فمهما تعاظمت المكاسب سوف تظل قليلة أو ضيقة، ويمكن أن تنقلب على أصحابها، والحكمة التي تستشف من مصرع غنيوة أنه لا يوجد قائد ميليشيا يستطيع امتلاك الحماية الكاملة، وزيادة عدد المقاتلين لن يكفي لهزيمة آخرين إذا تكاتفوا ضده، ولعل شرارة الاحتجاجات التي انطلقت في طرابلس أكبر درس للدبيبة، والذي لم يتوان عن السعي لمد فترة رئاسته للحكومة بأيّ ثمن، وعبر الإخلال بالتركيبة الاجتماعية في ليبيا.
كما أن القوى الخارجية التي لم يكفها ترك ليبيا نهبا للكتائب المسلحة وتريد تغيير هويتها بإرسال فلسطينيين إليها، عليها أن تعلم كما تتدبر مؤامرات فهناك من يمكنهم أن يتآمروا عليها، ويستطيعون تفشيل المخططات، من هنا يأتي الارتباط الواضح في العنوان بين اشتباكات طرابلس وبين الحديث عن استقبال مليون فلسطيني في ليبيا.