أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: استدارة مصرية للتعامل مع تفكيك علاقتها بغزة

محمد أبو الفضل 2024/05/19: استدارة مصرية للتعامل مع تفكيك علاقتها بغزة

نجحت إسرائيل في أن تجعل أصوات عديدة تختزل علاقة مصر بالقضية الفلسطينية في معبر رفح البري، وساعدتها بعض وسائل الإعلام في تسليط الضوء على توقيتات فتحه وإغلاقه، والإثارة التي صاحبت ذلك خلال الفترة الماضية، والسخونة التي حملها الاهتمام لجذب انتباه الناس إلى المعبر وتجاهل الكثير من التطورات الحيوية.

وتعود السخونة التي اكتسبها الملف إلى بداية سيطرة حركة حماس على قطاع غزة منذ حوالي سبعة عشر عاما، ومن وقتها يجري توظيف المعبر سياسيا وإعلاميا للضغط على مصر، وتجاهل أن هناك ستة معابر تربط القطاع بالضفة الغربية وتهيمن عليها إسرائيل، ورسخ في قناعات البعض أن مصر هي من تفرض الحصار وليس إسرائيل.

وأدت الحرب الحالية على قطاع غزة إلى استخدام معبر رفح في عبور الشاحنات التي تحمل مساعدات إنسانية لسكانه المحاصرين، وخضعت لعمليات تفتيش دقيقة من قبل إسرائيل، وكان السماح أو المنع الفترة الماضية يتوقفان على إرادتها العسكرية والسياسية، وتحولت القضية الفلسطينية ومعاناة غزة إلى ملف إنساني بالدرجة الأولى سقطت أمامه ملفات أكثر أهمية تتعلق بوقف الحرب والبحث في شكل اليوم التالي لها، بعد أن عاد المجتمع الدولي يفكر في مصير هذه القضية بقدر ظاهر من الجدية.

وسعت إسرائيل عمدا وبطريقة تدريجية إلى الإيحاء بأن دور مصر يتوقف عند معبر رفح وتحويلها إلى بوابة من غزة وإليها، وعندما أنجزت إسرائيل هذه المهمة أو حققت جزءا كبيرا منها وتثبيتها نسبيا في الوجدان العربي، أرادت أن تتحكم بنفسها في البوابة بعد أن قامت بالسيطرة على معبر رفح من الجانب الفلسطيني بذريعة حرمان حماس من أيّ متنفس، وعلى القاهرة أن تتعامل مع الأمر الواقع الجديد، وهو ما رفضته.

أعادت إسرائيل مرة أخرى سرديتها التي زعمت فيها أن مصر ترفض إدخال المساعدات من معبر رفح، المخصص أصلا لعبور الأشخاص، وليس الشاحنات وهي مهمة مسؤول عنها معبر كرم أبوسالم وتسيطر عليه إسرائيل منذ سنوات.

وأوجدت اتهامات تعرضت لها شركة مصرية خاصة (هلا) بتحصيل رسوم مُبالغ فيها لمن يمرّون من خلال معبر رفح باتجاه سيناء بيئة خصبة للتشكيك في دور مصر والإيحاء بوجود مكاسب مادية ورشاوى وفساد، واستفاد من وقفوا خلف هذه الدعاية السوداء من عدم وجود إجابات حاسمة على الكثير من الأسئلة التي دارت حول هذه المسألة، ما ضاعف من اللغط حول معبر رفح، وخلق أجواء مناسبة لتدشين ممر بحري مثير للانتباه، شيدته الولايات المتحدة لدخول المساعدات إلى غزة، بالتالي تقليص دور مصر في عملية دخول وخروج المساعدات والأفراد من قطاع غزة وإليه.

ويرى بعض المتابعين أن محاولة حصر دور مصر في هذه المهمة شجّع إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة على نزع سلاح معبر رفح لإيجاد قطيعة مباشرة بين مصر وغزة، وربما تكون هذه الخطوة من التحركات الضارة النافعة للقاهرة إجبارها على تبني توجهات أشد خشونة للتعامل مع هذه التطورات.

تغيرت الأوضاع في غزة، وسوف تتغير أكثر مع مرور الأيام، والمرونة والمواءمات والتوازنات التي حكمت الكثير من تصورات مصر في التعاطي مع إسرائيل وحماس يجب تعديلها، لأن دور مصر أكبر من كونها بوابة للقطاع، وعمل (اللسان) البحري بكل ما يحمله من أهداف خفية يفرض على القاهرة التفكير في رؤى بديلة.

سعت إسرائيل سرا إلى إحداث قطيعة بين مصر والقضية الفلسطينية، وهي واحدة من الدوافع الأميركية التي أدت إلى رعاية مسار السلام منذ نحو نصف قرن، وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد لم تتحقق القطيعة كاملة، حيث عادت مصر إلى القضية الفلسطينية وإلى العرب بأشكال متباينة، ولم تحقق فكرة العزل أغراضها تماما، وأوجدت القاهرة مساحة للحركة من داخل معسكر السلام ذاته، والذي تمسكت بثوابت معينة فيه، ودعمتها دول عربية عدة على أمل أن يأتي الوقت للتوصل إلى تسوية سياسية عملية.

اختبرت مصر قبل الحرب على غزة في مشروع اتفاقيات التطبيع مع بعض الدول العربية ولم تتجاوب معه، وأبدت تحفظات واعتراضات، وبعد الحرب بدأت تجهيزات وترتيبات للمرحلة اللاحقة عليها، تنطلق من مؤشرات ظهرت قبلها بشأن رعاية الولايات المتحدة لحلف عربي- إسرائيلي، عنوانه الظاهر التصدي لطموحات إيران، ومحدداته غير المعلنة تمهيد الطريق لتصبح إسرائيل قوة رئيسية في المنطقة بالمعنى الشامل، وهو ما تتحفظ عليه مصر في تعليقاتها غير المباشرة، حيث يخل بثوابت عديدة وقد يحوي هروبا من تسوية القضية الفلسطينية بصورة عادلة أو شبه عادلة.

وكما كانت مصر عقبة أمام إسرائيل وقت الحرب، يبدو أنها كذلك عند الشروع في تعميم مشروع السلام، أو التطبيع بكلام آخر، ما يتطلب ممارسة ضغوط قاسية عليها، لإجبارها على القبول بسيناريوهات إسرائيل أو تخفيف ممانعتها.

ويتأتى ذلك من خلال تجريدها من أسلحتها، وأبرزها تفكيك الروابط بينها وبعض الدول العربية عبر خلق قوسم إقليمية مشتركة بعيدا عنها، ومحاولة إنهاء علاقتها المباشرة بقطاع غزة، ممثلة في معبر رفح، وإيجاد معابر بديلة يسهل التحكم فيها.

تفرض هذه المعادلة قبول مصر بسيناريو العزل والتجريد والتجاوب مع ما يجري التخطيط له إقليميا، أو الرفض والبحث عن بدائل تدعم دورها في منطقة الشرق الأوسط وتعظّم فوائدها الإستراتيجية. وفي الحالتين هناك تكلفة سوف تتحملها الدولة المصرية، والتي لا تستطيع بتركيبتها التاريخية الحياة على الهامش فترة طويلة.

تفرض هذه المفارقة التخلي عن جزء من التوازنات التي أقامتها القاهرة وجعلتها تحافظ على علاقاتها بقوى مختلفة، في مقدمتها الولايات المتحدة، وتتمسك بضوابط السلام مع إسرائيل كخيار إستراتيجي، ولا يعني قطع الصلة مع غزة أو تقليصها إلى الحد الأدنى بإيجاد منافذ تتحكم فيها كاملة تل أبيب، أن مصر سوف تستسلم لما يتم عرضه عليها من أدوار محدودة، لأن هذا يتعارض مع جغرافيتها الممتدة، والتي تقوم على أن كل تهديدات الأمن القومي تأتي من الخارج، وتبدأ بتحجيم دورها الإقليمي.

من الواضح أن القاهرة تستعد للقيام باستدارة قوية حيال التعامل مع إسرائيل، ظهرت تجلياتها في خطاب التصعيد الجديد الذي تبنته مؤخرا، فمهما كانت صعوبة الأوضاع الاقتصادية لن تمنعها من التفكير في الدفاع عن مصالحها، فالقبول بقطع شريان الوصل (معبر رفح) مع غزة ثم تاليا القضية الفلسطينية برمتها سوف يفضي إلى قطع شرايين أخرى في المنطقة، ما يقود إلى حكم بالموت الإكلينيكي على مرتكزات الدولة، والتي تعلم مؤسستها العسكرية أن الانكفاء الطويل يؤدي إلى موت بطيء، وهو ما يستحيل القبول به، مهما تصاعدت حدة الضغوط التي تتعرض لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى