أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: أين تنتهي جغرافيا الاهتمام المصري بشمال أفريقيا؟

محمد أبو الفضل 4-11-2024: أين تنتهي جغرافيا الاهتمام المصري بشمال أفريقيا؟

أعادت زيارة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى القاهرة الأسبوع الماضي بما حظيت به من حفاوة من نظيره المصري عبدالفتاح السيسي، طرح سؤال حول جغرافيا الاهتمام في البلدين، فمصر تجد نفسها في الشرق العربي، والجزائر في غربه.

ومن وقت إلى آخر تظهر معالم تركيز من الأولى على شمال أفريقيا، وفي القلب منه ليبيا التي تمثل فضاء حيويا لها، وملامح تركيز من الثانية على الشرق العربي، خاصة القضية الفلسطينية التي لا تزال الجزائر توليها اهتماما ملحوظا، ويظل المحيط القريب من كل بلد يحظى وبدرجات متفاوتة من التفاعل، وفقا للتطورات الإقليمية والمعطيات الدولية.

يمكن فهم زيارة عبدالمجيد تبون إلى القاهرة في سياق عام، حيث أراد الرئيس الجزائري تدشين ولايته الثانية بانفتاح عربي، واختيرت مصر بسبب موقعها والروابط الجيدة بين نظامي الحكم في البلدين، والدور الكبير الذي تلعبه المؤسسة العسكرية فيهما وربما تكون هذه النقطة هي الرافعة الحقيقية أو الأداة التي وفرت قدرا من الانسجام بينهما، ومنعت حدوث توتر في بعض الملفات الخلافية التي تطفو على السطح أحيانا.

أما السياق الخاص فهو يتعلق بطموح الجزائر في أن تجد لنفسها مكانا في الشرق العربي، يعزز دورها في المغرب العربي، ويشي بأنها قادرة على نسج علاقات قوية تمكّنها من البروز على الساحة في بعض القضايا الإقليمية.

ولا تزال نظرة الجزائر إلى ما هو وراء الشرق محكومة بنظرة قيادته ذات البعد الأيديولوجي، والساعية للقيام بدور من دون تحديد أفق واضح لمكوناته وأهدافه، وقد تكون الأحداث تجاوزت ذلك، لأن الشرق العربي الذي عرفته الجزائر منذ عقود طويلة تغيّر، ويمكن أن يشهد تحولات كبيرة الفترة المقبلة، على ضوء ما سوف تتمخض عنه الصراعات الراهنة في المنطقة.

وبالتالي فأيّ تمدد أو طموح جزائري غير مألوف للانخراط في أزماته سيكون عملية صعبة، إن لم تكن مستحيلة، لأن المتطلبات التي يفرضها الانخراط لن تتمكن الجزائر من الوفاء بالتزاماتها، لأن نظرتها للتعامل مع الملفات والقضايا تتحكم فيها رؤى نمطية غالبا، ما يعني أن التداخل مع الفضاء الجغرافي للجزائر خارج المنطقة القريبة لن يكون ناجحا، بل غير مسموح به، وتقف في طريقه مصدات سياسية عديدة.

بينما مصر لديها رؤية تخص تقسيم دوائر أمنها القومي الجديدة إلى قسمين فقط، الأول ويتعلق بالأمن القومي المباشر، ومحدداته معروفة وجغرافيته ممتدة بطول وعرض الدول المجاورة لها، يضاف إليها البحر الأحمر ومدخلاه من الجنوب والشمال، بعد أن عززت تهديدات جماعة الحوثي في اليمن أهميته، وشرق البحر المتوسط بامتداداته المختلفة بعد ثروة الغاز في مياهه، وبالطبع دول حوض النيل.

والقسم الثاني يوصف بالأمن القومي غير المباشر ويشمل ما وراء الدوائر السابقة وملحقاتها وكل ما له علاقة بها، فلم تعد التأثيرات والمخاطر تأتي مباشرة وبطرق تقليدية، فقد تكون لها مكونات خفية أو بعيدة أشد ضررا.

يتقاطع مع القسمين ملف الإرهاب بكل جوانبه، والذي يمثل تهديدا وجوديا لمصر ودول كثيرة، ولم تعد بؤره تتركز في منطقة معينة، لكن منطقة شمال أفريقيا والفناء الخلفي لها المعروف بالساحل الأفريقي يمثلان خطرا داهما على مصر ودول كثيرة، لأن الإرهاب الذي تمارسه جماعات متطرفة عابر للحدود، ولا يقف عند منطقة محددة.

ومن هذه الزاوية زادت جغرافيا الاهتمام المصري بشمال أفريقيا في الآونة الأخيرة، ناهيك عن الأطر التاريخية التي جعلت منها رافدا حيويا للقاهرة، بسبب النتائج القاتمة التي ضختها داخل ليبيا، وتضاعف الاهتمام بها عقب تفجر أزمتها، والتي كانت مسرحا للكثير من العوامل التي تمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري.

كادت الرؤية المصرية تنحصر في منح اهتمام واضح وكبير لشرق ليبيا، بحكم الحدود والروابط الاجتماعية والتهديدات القادمة منه، لكن ما فجرته الأزمة الليبية بكل مشتملاتها من مشكلات على مدار أكثر من عشر سنوات أجبر القاهرة على توسيع مروحتها السياسية والأمنية والاقتصادية لتمتد إلى غرب ليبيا، ومع اتساع نطاق التأثيرات في ما وراء ذلك، امتد البصر بشكل لافت مؤخرا إلى تونس والجزائر وحتى موريتانيا، وبقيت علاقة مصر مع المملكة المغربية لها خصوصية لطبيعة نظامها، وتشهد عموما هدوءا مستمرا، لم يصل إلى مرحلة الدفء أو البرودة، ووفرت هذه المعادلة درجة عالية من الحفاظ على المصالح بلا صدام يعكر العلاقة مع أنظمتها الحاكمة.

دخلت دول شمال أفريقيا بؤرة الاهتمام المصري وخرجت من حصرها في إطار العلاقات الودية العادية، لكنها لم تصل مستوى التقارب والقول إن هناك روابط إستراتيجية قوية أو تحالفات معها، وبقيت هذه المسألة منصبّة على بعض القضايا التي تحظى باهتمام مشترك، بمعنى أن التطور، خارج ليبيا، يمضي بالقطعة، فإذا كانت هناك تفاهمات في قضية معينة نرى نموا في العلاقات أو تطورا يعكسه، وهي صيغة تتزايد ملامحها في التفاعلات الإقليمية والدولية، فلم تعد دول كثيرة تؤمن بمبدأ التفاهم في كل القضايا، فقد يكون الانسجام في قضية والخلاف في أخرى، وهذا الأمر وفّر مساحة جيدة لمصر وغيرها من الدول للحركة والاختيار.

رأينا مقاطع لهذه الظاهرة مع تونس، فالتطور الذي شهدته العلاقات مع القاهرة كان في جزء كبير منه ينبع من القواسم المشتركة التي جمعت الرئيسين عبدالفتاح السيسي وقيس سعيد في الموقف من جماعة الإخوان، وعلى هذه القاعدة أصبح هناك تقارب بينهما، حيث استفاد الرئيس التونسي من التجربة المصرية في تقويض أجنحة وأذرع الجماعات الإسلامية عموما، والتي منحته قوة في التعامل معها بجرأة، وتأكد أن الليونة معها سوف تؤدي إلى مشاكل قد تهز هياكل الدولة، ورغم التعاون والمنافع المتبادلة في هذا الملف، لكن ثمة تفاوت في آليات الحكم وخلافات نسبية في قضايا متباينة.

ما يهم القاهرة حاليا أن تضمن ألا تمثل دول شمال أفريقيا إزعاجا كبيرا لها، فيكفي ما كادت تفضي إليه الأزمة الليبية من انعكاسات على مصر، حتى وصلت إلى صيغة مكنتها من تجنب حدوث خسائر مباشرة على الأمن القومي، ففي ظل وجود جبهات إستراتيجية أخرى مشتعلة، شمالا وجنوبا وشرقا، تحتاج مصر إلى أن تظل الجبهة الغربية، أي ليبيا أولا، وكل دول المغرب العربي ثانيا، تحافظ على مستوى جيد من الهدوء.

فكل قلق أو توتر يحدث في دولها أو إحداها من المتوقع أن تكون له روافد على مصر، لاسيما على صعيد تغوّل الجماعات المتطرفة، التي يضع بعضها عيونه على الشمال الأفريقي كبوابة للوصول إلى أوروبا، والعودة إلى مصر واستعادة الأجواء التي تغلغلت فيها داخل سيناء، قبل أن تتمكن أجهزة الأمن المصرية من دحرها، في معركة شرسة خاضتها ضد الإرهاب وفلوله.

 

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى