أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب –  لماذا تنشط مصر إقليميا من بوابة الاقتصاد

محمد أبوالفضل *- 11/10/2021

انتظر الكثيرون أن تنشط مصر سياسيا لتطوير علاقاتها مع الدول العربية وتظهر كلاعب مؤثر في المنطقة ضمن تطلعاتها للقيام بدور إقليمي، لكنها طرقت هذا المجال بحذر شديد السنوات الماضية ما أوحى بأن هناك ممانعة نسبية أو أن هناك مصدات لن تساعدها على تحقيق هذا الهدف بسهولة، لذلك بدأت تنسج شبكة من العلاقات الاقتصادية مع دول عديدة تقوم على تعظيم المصالح المشتركة.

أكد مشروع الربط الكهربائي بين مصر والمملكة العربية السعودية الذي أعلن عنه الأيام الماضية أن الاقتصاد هو بوابة أساسية تريد القاهرة الدخول منها لتوسيع دورها الإقليمي، الأمر الذي وجد أصداء إيجابية ومشجعة مع دول مختلفة.

يقلل هذا الطريق من حجم المماحكات إذا حاولت التمدد سياسيا أو أمنيا لاحقا، فالمصالح الاقتصادية يمكن أن تقود إلى روابط استراتيجية من دون ممانعات قوية أو تذكير بمشروعات مصرية سابقة حملت أحلاما للقيام بدور إقليمي معتبر.

نجحت مصر في تطوير علاقاتها مع عدد كبير من الدول وقت أن انتبهت مبكرا إلى منطقة شرق البحر المتوسط الغنية بالغاز، وباتت دول مثل اليونان وقبرص وإيطاليا تشترك معها في حزمة واحدة من المصالح الاقتصادية، وجذبت إليها دولا من خارج المنطقة مثل فرنسا والولايات المتحدة وروسيا، وبلورة رؤيتها لغاز شرق المتوسط التي أجبرت تركيا على عدم التمادي في خروقاتها وقيامها باستدارة لخطب ودها.

تعود مصر تدريجيا إلى العراق وتطور علاقاتها مع الأردن من بوابة الاقتصاد عبر تحالفها الجديد المعروف بـ”الشام الجديد”، ثم قذفت بالكرة نحو سوريا ولبنان من باب تصدير الغاز، ومدت بصرها إلى كل من قطاع غزة وليبيا بعزمها على المشاركة في مشروعات إعادة الإعمار، ناهيك عن القفزة التي أحدثتها مع السودان من خلال مشروعات تنموية متعددة.

لا تزال هناك تطلعات لتطوير العلاقات مع دول عربية وأفريقية من قاعدة اقتصادية لا تثير توترا مع أي من القوى الكبرى التي تخشى من تمدد القاهرة في المنطقة وتبنّي طروحات تعيد التذكير برغبة سالفة للسيطرة على مقاليد أمور متباينة في الإقليم، يمكن أن تمثل عائقا لمصالح بعض القوى في المنطقة.

استوعب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي دروس الماضي وفهم طقوس الحاضر وقاموس المستقبل، وتعمد اللجوء إلى الاقتصاد وما ينطوي التركيز عليه من إشارات سياسية تؤكد أن الرجل على استعداد للتعامل مع الجميع انطلاقا من فكرة المنافع المتبادلة، وهمومه الظاهرة لا تحمل مضمونا توسعيا.

أدرك السيسي عقب توليه مهام منصبه منذ حوالي سبعة أعوام أن خيار تطوير العلاقات مع الدول العربية على أساس روابط الدم والأخوة والتاريخ والجغرافيا غير مجد، فمصر اليوم ليست مصر الأمس، والعرب كذلك، والاقتصاد هو العنصر الذي أصبح يتحكم في جانب كبير من مفاصل السياسة، لذلك يحاول الاستفادة من الطفرة الحاصلة في مجالي الطاقة الكهربائية والغازية لتطوير علاقات القاهرة الإقليمية.

تفتقر مصر إلى فائض كبير في رؤوس الأموال يمكنها من ضخ استثمارات في دول أخرى، على غرار دول الخليج، لكنها باتت تملك رؤى للتعاون في بعض المشروعات الحديثة، ولديها تجربة تنموية واعدة تراها بعض الدول العربية التي عانت من ويلات الحروب وتبعات الثورات مثل العراق وسوريا وليبيا نموذجا يمكن إتباعه، وهو ما تحاول القاهرة تسويقه كمدخل لتعزيز روابطها الاقتصادية.

وجدت القاهرة نفسها في هذه الزاوية التي لا تمثل منغصا لأي من القوى الشقيقة المنافسة التي تراودها أمنيات لتتبوأ دور الزعامة في الإقليم، ولا تحمل تهديدا لمصالح أي من القوى الكبرى التي لا ترتاح لأي مشروعات إقليمية تتبناها مصر، ما وفر لها فرصة للحركة بقدر عال من الديناميكية، فهذا التوجه مريح للجميع ويمكن توظيفه من قبل قوى حلمت بشرق أوسط جديد يعتمد على المصالح الاقتصادية المتنامية.

فهم النظام المصري الأدبيات الرائجة على الساحة الدولية ويسعى لمسايرتها، ليس خدعة أو للتغطية على أجندة خفية، لكن هذا هو الواقع الذي بُنيت عليه تصورات كثيرة فرضتها تداعيات خلفتها ثورة شعبية أزاحت نظام حكم الإخوان في القاهرة وأزعجت روافدها قوى متباينة، لأنها أجهضت أحد المشروعات الإقليمية المهمة في المنطقة التي تعتمد على صلابة تنظيم الإخوان.

كان التركيز على التوجهات السياسية في هذه اللحظة يعد من الكوابح التي تعوق تثبيت النظام المصري الصاعد، حيث سقط الإخوان ومشروعهم ولا توجد رفاهية لمناكفات مع قوى وفرت للجماعة دعما ملموسا، ولأن هذه القوى يهمها الحفاظ على مصالحها في المنطقة بدا البعد الاقتصادي أداة لإعادة صياغة علاقة مصر مع العالم.

تلاقت مجموعة من المصالح المشتركة، مصريا وعربيا ودوليا، وأخذت القاهرة تعمق منها بالتركيز على المقومات الاقتصادية في الداخل لحد الإسراف في إعادة بناء الدولة بصورة شاملة لقطع الشكوك التي صاحبت وصول السيسي إلى السلطة بشأن تصوراته مستقبلا، فالرجل أكد عمليا أن ما يهمه أن تصبح بلاده متوافقة مع مقتضيات العصر، ولا تهمه طموحات لقيادة الدول العربية أو استنزاف قدراته في حروب تاريخية، وبرهن على رفض الدخول في معارك عسكرية ما لم تكن مفروضة عليه في إطار الدفاع عن الأمن القومي.

أجهض هذا المحدد الكثير من الاستنتاجات التي ذهبت إلى أن تراكم القدرات العسكرية يهدف إلى توسيع نفوذ مصر في المنطقة، بالتالي من السهولة أن يتعرض لضربة استباقية تحت أي ذريعة، وتمكن من نسف ذرائع عدة كان تنفيذها إحداها يكفي لإعادة مصر سنوات إلى الوراء، وضاعف مكتسباته على المستوى الاقتصادي الذي بات مريحا للمنزعجين في المنطقة من أي دور للقاهرة في الإقليم.

لا يعني الاهتمام بالاقتصاد خلو التصرفات المصرية من السياسة تماما، فقد تظهر كنتيجة منطقية لحاصل جمع ما تتم مراكمته من مشروعات مشتركة تؤدي في النهاية إلى شبكة من التوجهات المتقاربة، لأن نمو الاقتصاد إلى مستوى معين وحمايته من خلال روابط أو منتديات أو منظمات إقليمية ربما يمثل أزمة لبعض الدول.

زاد القلق على تركيا عندما قادت مصر دول شرق المتوسط إلى تكوين إطار جامع لها تحول من منتدى إلى منظمة جذبت إليها أنظار قوى إقليمية ودولية حرصت على أن تكون قريبة منها بالتفاعل مباشرة أو الانخراط في هياكلها بصفة مراقب.

تشكل هذه المعادلة عنصرا مفيدا للقاهرة يمكنها من الحفاظ على مصالحها الاقتصادية ويخلق لها دورا سياسيا حيويا في المستقبل، فالتوازنات التي تقيمها رشيدة وحكيمة ولا تنطلق من مناطحة قوى كبيرة أو صغيرة.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى