أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب لا صدام ولا سلام بين مصر وتركيا

محمد أبوالفضل ١٢-٧-٢٠١١م

اختفت التصريحات المتبادلة بين مصر وتركيا في الأيام الماضية من ناحيتي الحديث عن صدام مفروض أو تقارب محتوم، وحل مكانهما الصمت الذي يبدو مريحا للطرفين بعد فترة من المعاناة صعودا وهبوطا، وأملا ويأسا، وانسجاما وفراقا.

لم يعد المتابعون لتطور العلاقات ينتظرون اختراقا قريبا حيث وصل الموقف العام إلى صيغة تجد فيها كل دولة غايتها لأنها تعفيها من تقديم تنازلات وتبعدها عن الحسابات المعقدة للمكاسب والخسائر، والتداعيات المنتظرة من المهتمين بها والرافضين لها.

تنطلق الصيغة التي يرتضيها الطرفان من تجنب الاحتكاك في هذه الأجواء التي يواجهان فيها تحديات إقليمية وعرة وبعيدة عن المعاناة التي وضعها كل طرف أمام الآخر. فالهموم تتخطى فكرة التقارب بعد أن فقدت بعضا من عافيتها على ضوء العراقيل التي وضعتها تركيا والشروط القاسية التي تتمسك بها مصر.

حملت الأسابيع الماضية رياحا إيجابية بشأن حتمية استئناف العلاقات وعُقدت محادثات استكشافية أمنية وسياسية مختلفة لكن الحصيلة حتى الآن لم تتجاوز الحرص على تجنب الاستفزاز الذي بات مقبولا وسط التباعد الحاصل في التوصل إلى قواسم مشتركة تنهي القضايا الخلافية بين البلدين.

يأتي القبول بما يمكن وصفه بـ”حالة اللاسلم واللاحرب” من رحم التكلفة العالية المترتبة عن السلام أو الحرب، فالأول يتطلب دفع فاتورة سياسية من تركيا يمكن أن تهز صورة النظام العقائدية في الداخل، والثانية (الحرب) تؤدي إلى خروجه خالي الوفاض من ليبيا وتهز طموحاته في شرق البحر المتوسط.

وأعلنت مصر أن عودة العلاقات إلى طبيعتها (السلام) يستلزم استجابة أنقرة لمجموعة من المطالب التي تراها عقبة رئيسية، وقد تكون الأخيرة أبدت تفهما مع بعضها لكنها غير مستعدة لتنفيذها بصورة كاملة، سواء الخاص منها بموقف النظام التركي النهائي من ملف جماعة الإخوان أو الوجود الطويل في ليبيا.

لا تميل القاهرة إطلاقا إلى تصعيد الموقف مع أنقرة بما يصل به إلى حافة الهاوية والدخول في مرحلة الصدام وقطع كل خطوط الرجعة في ظل التحديات التي تواجهها على مستوى أزمة سد النهضة الإثيوبي التي وصلت إلى مستوى خطر تتداخل فيه الخيوط السوداء والبيضاء، ولن تحتمل تشتيتا مضاعفا في المناكفات.

عندما أقدمت تركيا على إرسال إشارات متنوعة إلى مصر توحي بالتقارب كانت محكومة برغبة ظاهرة في إعادة التموضع الإقليمي، ورأت أن القاهرة قد تكون بابا مناسبا لتحقيق هذا الهدف العاجل، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن ووجدت تركيا نفسها في خضم محادثات صعبة بما يضع عليها أعباء لن تستطيع الوفاء بها بسهولة، ولم تجد المراوغات التقليدية معها نفعا.

يعفي القبول بصيغة الصمت والهدوء النظام التركي من مواصلة التضييق على جماعة الإخوان إلى مدى بعيد، وعدم رهن تصرفاته في ليبيا بإرادة النظام المصري، وتمنحه هذه الصيغة مساحة للحركة في شرق المتوسط بلا قيود سياسية أو خوف على مصير محادثات مجمدة مع القاهرة التي تصر على تلبية مطالبها الرئيسية.

قبلت تركيا مشروع التقارب السياسي مع مصر لتحقيق جملة من الأهداف الإقليمية، وفي إطار محاولة لوقف الارتباك الواضح بشأن مصير العلاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن، ولم تعد تلقي بثقلها خلف المحادثات عقب تيقنها من أن القاهرة تطلب منها ما لا تستطيع تلبيته على الفور، وتحسن العلاقة مع واشنطن بعض الشيء وثمة فرصة للتفاهم حول عدد من الملفات الخلافية في المنطقة.

ترى أنقرة أن انخراط مصر في أزمة سد النهضة يمنحها قدرة على مزيد من المرونة في ليبيا دون أن تجد مطاردة قوية من القاهرة أو عتابا سياسيا، وهو ما جعل تركيا تعلن عدم خروج قواتها العسكرية وتتمسك بتنفيذ نصوص مذكرات التفاهم التي وقعتها مع الحكومة الليبية السابقة، وتعتقد أن الفرصة أصبحت مواتية لذلك.

الواقع أن مصر لن تعطي أولوية لتركيا بالإيجاب أو السلب، والعكس صحيح، طالما أن كل طرف يتصرف بصورة تبعده عن الصدام مع الآخر، كأنهما وصلا إلى قناعة ضمنية بأن هذه الطريقة تعدّ أفضل نتيجة يمكن الوصول إليها في وقت يعيد فيه كل جانب حساباته الإقليمية التي على أساسها تتحدد التوجهات حيال الخطوة المقبلة.

من مفارقات العلاقات بين البلدين أنهما يحرصان على عدم المس بالثوابت الرئيسية، وحتى عندما أقدمت أنقرة على التدخل في الشأن المصري عبر أذرع جماعة الإخوان وتنظيمات متطرفة عديدة، الآن لم تعد هذه الأدوات قابلة للتوظيف الجيد، ووضعت المحادثات التي جرت بينهما في القاهرة الكثير من النقاط في أماكنها الصحيحة، لأن فكرة الإضرار ستطل برأسها فورا في مناطق مختلفة إذا جرى التخلي عن الهدوء.

لا تزال مصر عنصرا فاعلا على الساحة الليبية ولها أياديها الطويلة هناك، وتركيا تحافظ على نفوذها في القرن الأفريقي ومع إثيوبيا، وبالتالي فالإزعاج سيكون مكلفا للجانبين إذا تخلى الطرفان أو أحدهما عن الحد الأدنى من التفاهمات المبدئية.

يشير هذا الاستنتاج إلى أن كل دولة ينصب اهتمامها حول السعي نحو تحقيق مصالحها بعيدا عن المساس بالأخرى، وليبيا التي تمثل قضية حيوية لمصر جزء كبير من أزمتها يقع على عاتق قوى دولية تتحكم في كثير من تفاصيلها، وهذه القوى قادرة على الضغط عمليا لخروج القوات التركية منها.

في حين يندرج التصميم المصري المتعلق بالخروج في إطار حزمة من التنازلات المتبادلة، فقد وجدت أنقرة أن انصرافها حاليا عن ليبيا لن يلبي أغراضها السياسية والاقتصادية التي جاءت من أجلها، ولن تحصل في مقابله على شيء ملموس في شرق المتوسط مع تمسك القاهرة بعدم التفريط في المكونات الحاكمة لعلاقتها الاستراتيجية بالدول التي دخلت معها في تحالف إقليمي، تحديدا اليونان وقبرص.

كل الطرق تؤدي إلى الحفاظ على صيغة باردة للسلام بين القاهرة وأنقرة، فتسوية كلّ الملفات أو جزء منها والتي أفضت إلى احتدام الأزمة لا يعني الوصول إلى درجة عالية من الدفء أو وضع أطر واسعة ومشتركة للتعاون، فالمسافات المتباعدة تحتاج إلى نفس سياسي طويل، والهوة عميقة ويصعب ردمها عبر تنازل محدود من هنا أو هناك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى