أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب – رسالة وثيقة القاهرة للفلسطينيين

محمد أبوالفضل * – 23/9/2018

يحمل التوقيت الذي خرجت فيه وثيقة القاهرة جملة من الرسائل والإسقاطات السياسية، ويؤكد أن مصر ثابتة على مواقفها حيال القضية الفلسطينية، وسباقة في البحث عن الفرص المتاحة في ظل خلل كبير في التوازنات بين العرب وإسرائيل.

فتح الإعلان عن هذه الوثيقة جراحا سياسية عميقة تتعلق بما يمكن وصفه “ملف تفويت الفرص العربية” الحافل بالمواقف والتحركات التي تسبب إخضاعها لحسابات أيديولوجية في عدم تحقيق مكاسب ممكنة أو في متناول اليد.

وما كان مطروحا للتفاوض قبيل توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في سبتمبر 1978، جرى قبول أقل منه عبر اتفاقيات أوسلو في سبتمبر أيضا، لكن بعد 15 عاما، راح فيها المئات من الشهداء وقضمت خلالها مساحات شاسعة من الأرض الفلسطينية.

يبدو أن إفراج القاهرة في شهر سبتمبر أيضا عن هذه الوثيقة جاء عن قصد، والغرض منه إشعار القوى المختلفة، خاصة حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين، أن سياسة المناكفات التي يتبعها كلاهما حاليا سوف تقود إلى مزيد من الخسائر، وفِي النهاية يضطر من يقبض على زمام القرار إلى الرضوخ للتفاوض مع إسرائيل، بعد أن يتم تجاوز ما يمكن أن يمثل فرصة جديدة لتحسين الموقف الراهن.

تبذل مصر جهدا مضنيا على مستوى المصالحة الفلسطينية، التي دخلت نفقا مظلما مع اشتراط حماس منح أولوية لملف التهدئة مع إسرائيل قبل إنهاء ملف المصالحة، بينما ترى فتح العكس، وتصمم على أن تمكينها من السيطرة على قطاع غزة يتقدم على كل الخطوات الأخرى، وهي إشكالية تبحث القاهرة عن مخرج يوازن بينهما دون جدوى حتى الآن.

تشير المناوشات الجارية بين الحركتين، فتح وحماس، ومن لف لفهما، إلى التركيز على المصالح الشخصية وتجاهل الأبعاد الوطنية، في وقت تقوم فيه إسرائيل بتكريس إجراءاتها على الأرض، والتي أدت إلى الاستحواذ على مساحات كبيرة من الضفة الغربية، وتكاد تكون تاهت معالمها التاريخية، مع ذلك لم تتراجع القوى الفلسطينية عن ممارساتها وأفكارها الضيقة.

رغم المواقف الأميركية المنحازة لإسرائيل، والتي ظهرت معالمها في ديسمبر الماضي مع الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل وقرار الرئيس دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إليها في مايو الماضي، غير أن مصر تتمسك بوجود فرصة للانخراط في محادثات جديدة مع إسرائيل.

بالطبع هي فرصة محدودة، مقارنة بالحد الأدنى المقبول فلسطينيا وعربيا، لكن يظل هذا الحد أفضل من لا شيء، لأن التمادي في توجهات الرفض العمياء يقود إلى مزيد من الخسائر، وربِما يتم إنتاج كامب ديفيد أو أوسلو أخرى بنسخة أكثر سوءا بعد 15 عاما أخرى، فوقتها لن تكون هناك قضية فلسطينية أصلا.

تتبنى مصر دوما سياسة واقعية منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، وهي نتاج طبيعي لأحلام وردية روادت سلفه جمال عبدالناصر، وكبّدت البلاد مجموعة كبيرة من الخسائر الباهظة التي قدمت دروسا قاسية لمن جاءوا بعده، نتيجة عدم الاتساق بين الأمنيات والقدرات.

هكذا كان ولا يزال حال الفلسطينيين. لديهم طموحات خيالية، بينما واقعهم يضج بالمرارة والقسوة والخلافات. بدلا من أن يجبرهم ذلك على التعامل بقدر من المرونة أضحت غالبية القوى الفلسطينية تنساق وراء تصورات واهية، لا تقيم وزنا كبيرا للمعادلات المادية الصارمة على الأرض، وما تنطوي عليه من مضامين ومعان سياسية.

وجدت مصر نفسها الآن في موقف شبيه بما واجهته قبل أربعة عقود. عندما نجحت في انتزاع اعتراف ضمني يمنح الفلسطينيين حكما ذاتيا قابل للتوسع ليكون نواة لدولة لاحقا. وقتها اتهمت بالانحياز السافر للولايات المتحدة وإسرائيل، وتعرضت لمقاطعة عربية، اعترف أخيرا السفير نبيل العربي الأمين العام السابق للجامعة العربية، وعضو وفد المفاوضات المصرية مع إسرائيل آنذاك بأن هذا الموقف كان من قبيل “الغباء السياسي” العربي.

تبذل القاهرة حاليا جهودا مضنية على خطوط متوازية، مع دول عربية رئيسية مثل السعودية والإمارات والأردن، ومع إسرائيل والولايات المتحدة، وبالطبع مع الفصائل الفلسطينية، أملا في بلورة رؤية عامة تكون مقبولة من جميع الأطراف تصلح للتفاوض بشأن الدولة الفلسطينية.

وترى في تبني ترامب سياسة تميل نحو عقد صفقة أو عملية قيصرية تحت مسمى صفقة القرن من الممكن البناء عليه عن طريق المحادثات، لأن الخيارات الأخرى (مثل المقاومة) أصبحت مغلقة، وتعتقد أن إصرار بعض القيادات الفلسطينية على تبني مواقف “عنترية” أو متشددة اعتقادا أن التاريخ قد يذكرهم أنهم رفضوا تقديم تنازلات، هو بمثابة ضرر بالغ لأن الأجيال القادمة قد تلعنهم بسبب عدم قدرتهم على الحفاظ على الحدّ المقبول من الأرض الفلسطينية.

قال مصدر فلسطيني كبير لـ”العرب” إن أعظم إنجاز حققه الشعب الفلسطيني في مسيرته هو اتفاقيات أوسلو عام 1993، بعدما فوت فرص عام 1948 و1978، ومع أن الاتفاق لم يلب طموحات الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبوعمار) لكنه سيظل نقطة فاصلة لأنه رسخ قاعدة فلسطين التي كانت تريد إسرائيل محو اسمها من على الخارطة، بعدها تغيرت الكثير من المواقف الدولية، وظهر اتجاه عام يدعم عملية السلام.

أوضح المصدر، الذي شارك في مفاوضات أوسلو، أن القوى الفلسطينية تكرر حاليا نفس المأساة وتعيد الأخطاء ذاتها التي ارتكبها قادة سابقون وقعوا أسرى رؤى حركيّة ضيقة لم تكبدهم وحدهم الخسائر، بل كبدت شعبا بأكمله مجموعة كبيرة من الخسائر، كان من الممكن تلافيها جميعا، أو تلافي جزء منها.

ونصح المصدر، وهو خبير في فنون التفاوض السياسي، القوى الوطنية حاليا التمسك بأي بارقة أمل للسلام، لأن هناك أدوات كثيرة يمكن توظيفها لإحراج المجتمع الدولي وإجباره للضغط على إسرائيل وفرملة إجراءاتها المتعنتة، شريطة وقف حالة الانقسام الحالية، وتبني رؤية جامعة لا تخضع لحسابات فصيل بعينه، والوقوع تحت رحمة التقديرات الأيديولوجية يعيد إنتاج الماضي بحذافيره، مع فارق جوهري، أن مساحة الفرص تتقلص بصورة عامة، وما يبدو قليلا الآن لن يكون متاحا في المستقبل.

تعتقد القاهرة أن الالتحام الفلسطيني نقطة مركزية لإحياء القضية، وما تقوم به الفصائل من حروب إعلامية يؤدي إلى مزيد من الهدم ويقطع خط الرجعة للتوصل إلى تفاهمات وطنية، الأمر الذي يكبلها في التجاوب مع تطلعات قوى دولية راغبة في السلام، لن تتحرك عمليا قبل أن ترى قيادة فلسطينية منتخبة تتبنى رؤية واضحة ومحددة وشاملة.

أرادت القاهرة من وراء توقيت الإعلان عن وثيقتها الالتفات لعبر الماضي ومقارنتها بالحاضر، لكن ثمة تصميم على تغليب المصالح الحركية على غيرها، لذلك أصبحت إسرائيل على يقين أن العرب لن يستوعبوا الدروس، ما يجعلها تتمادى في ممارساتها دون اعتبار لردود الأفعال.

كما أن التصرفات الأميركية بشأن رفع الدعم عن الأونروا مؤخرا ينهي ما تبقى من ملف اللاجئين، بعدما جرى إنهاء قضية القدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطينية، وقبل كل ذلك لم تعد هناك إمكانية للحديث عن حدود قبل أو بعد 4 يونيو 1967، فقد أكلت المستوطنات غالبية الأراضي الفلسطينية.

لذلك تقدم الوثيقة المصرية درسا عمليا مفاده إذا لم يتم التعامل بجدية مع أي فرصة تلوح للسلام لن تصبح هناك قضية من الأساس، وقد نجد شعبا حائرا ومشتتا بين دويلة مزعومة في قطاع غزة وكانتونات في الضفة الغربية.

*العرب –  محمد أبوالفضل – كاتب مصري

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى