أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب – انتهاء مفعول العقوبات الفلسطينية على غزة

محمد أبوالفضل 12/11/2018

عندما وصلت العلاقة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس إلى طريق مسدود، زادت التكهنات بشأن صعوبة المصالحة الوطنية، وجرت مياه سياسية كثيرة حول الآليات الواجب العمل بها لتصويب المسارات الخاطئة، لأن الأواصر تكاد تتقطع بين الضفة الغربية والقطاع.

في هذه اللحظة اتخذ الرئيس الفلسطيني محمود عباس سلسلة من الإجراءات الصارمة، لحض حماس على القبول برؤيته بشأن السيطرة على غزة، وتمادى في فرض العقوبات عليها، أملا في إجبار الحركة على الرضوخ لمطالبه كاملة، لكنها وجدت في مواصلة الضغوط عليها متنفسا للحصول على مكاسب سياسية.

بالفعل انفرجت أمامها أبواب إقليمية ودولية، وانصب جوهر الحوارات المتعددة حول تخفيف الحصار المفروض على القطاع، ومنع نشوب حرب، وأصبح التوصل إلى تهدئة بينها وبين إسرائيل معلقا بحجم المساعدات المقدمة لغزة، باعتبارها الوسيلة التي تخفف تلقائيا الضغوط الشعبية على حماس، وتردعها من الإقدام على مناوشات مسلحة.

الجهود المصرية التي بُذلت باتجاه السلطة الفلسطينية مؤخرا لم تفتّ في عضد قيادات الحركة، وأخفقت في تليين موقفها، وصممت على رفض التجاوب مع هدف العقوبات، ولم تستوعب السلطة التحذيرات التي تلقتها من أن هذه الطريقة لن تثني حماس بل تزيدها تصلبا، فقد اعتبرتها مدخلا للابتزاز السياسي.

القاهرة وجدت نفسها بين خيارين، الأول: عقوبات فلسطينية وحصار إسرائيلي وأزمة اقتصادية وإنسانية مركبة في غزة يمكن أن تؤدي إلى انفجار جديد في المنطقة. والثاني العمل على تفكيك الحصار بشتى الطرق، وتقليص العوامل التي تهدد الأمن القومي، بالتعاون الضمني مع الدوحة، والقبول بتدخلها في حزام على مشارف الحدود المصرية.

الوقود القطري الذي بدأ يتدفق على غزة، والأموال التي جرى حملها في حقائب للقطاع وتسليمها لموظفي حماس وعشرات الآلاف من الأسر الفقيرة، قد يخففان من وطأة الأزمة الاقتصادية، لكن تداعياتهما يمكن أن تكون خطيرة.

فلسطينيا تبين أن العقوبات التي فرضتها السلطة الوطنية على غزة لا قيمة حقيقية لها، ومكنت حماس من الثبات ونجحت في استثمارها للمساواة بين حصار قوات الاحتلال وحصار أبومازن، وجلب تعاطف مع الحركة بعد أن فقدت جزءا كبيرا منه، جراء احتدام الأزمة الاقتصادية، لأن نسبة كبيرة من المواطنين رأتها ناتجة عن سوء تقديرات وممارسات حماس.

في الوقت الذي اعتقدت فيه السلطة الفلسطينية أن الحركة سوف تضطر للتسليم لها عنوة، قلبت الأخيرة الطاولة على الأولى، ولجأت إلى رفع حالة التصعيد مع إسرائيل تحت شعار مسيرات العودة التي تنطلق كل جمعة، وضحّت بعدد من الشباب والأطفال في سبيل إحراج أبومازن، وإجبار قوى إقليمية ودولية على خطب ودها.

الأهم الدخول في مفاوضات مع إسرائيل لتحقيق تهدئة عسكرية، ألحت عليها الأمم المتحدة والدول المتعاونة مع مبعوثها للسلام في المنطقة، ما أثر سلبا على الدور الرمزي للسلطة الوطنية، وجعلها تتمسك بضرورة الحفاظ على الشرعية التي تمثلها، وحاولت القاهرة العمل عليه، لكن الأمر الواقع فرض طقوسه على الجميع وجعل حماس ندا سياسيا للرئيس الفلسطيني، من دون حاجة لإجراء انتخابات جديدة.

حل أزمة الموظفين وتخفيف حدة الحصار على غزة، نزعا عن السلطة الورقة التي ساومت بها، وأفقداها مفعولها تماما، لأن الخطوات التي اتخذت في هذا الاتجاه عن طريق مصر وقطر والأمم المتحدة، وافقت عليها إسرائيل، وهي تعلم أن حماس المستفيد الأول، ما يكرس الانقسام على الساحة الفلسطينية ويقوض فرص المصالحة الوطنية.

الخطاب الحاد الذي تبناه أبومازن حيال إسرائيل والمواقف التي اتخذها ضد حماس، أثرا على صورته ورشده السياسي، فهو لا يملك تنفيذهما، ولم يعد أمامه سوى إعادة تقويم توجهاته، كي لا يستمر حشره في زاوية ضيقة فترة طويلة، تفضي لعواقب تفقده القدرة على الإمساك بزمام الأمور، وتنفلت بما يصعب السيطرة عليها لاحقا.

عليه الآن البحث عن طريقة تنقذه من مأزق العقوبات التي فرضها بعد ثبوت عدم فاعليتها، وتغيير التصورات التي أخفق في فرضها على الأرض، والدعوة إلى اتخاذ خطوات كبيرة تعيد الأوضاع إلى نصابها الصحيح، وفتح المجال لمصالحة حقيقية، فالقنوات التي تسلكها حماس تمنحها اليد الطولى في الانفراد بإدارة غزة، وتشويه صورة السلطة في الضفة الغربية.

على الصعيد المصري، يبدو التعامل بواقعية سياسية وقى القاهرة من بعض المطبات، فالدولة التي تجاهلت كل خروقات الجناح العسكري لحماس لأمنها القومي، لن تغلب في التجاوب مع ما تقوم به قطر حاليا وتحوله إلى مكسب لها، لأن تخفيف الحصار، بمساعدات الدوحة أو غيرها، يرفع عن كاهلها عبئا ضخما تحاول رفعه عن طريق المصالحة تارة، والتهدئة تارة أخرى، ولم تتمكن من الوصول لنتيجة جيدة.

الصمت المصري على تحركات الدوحة يأتي كعلامة رضا، طالما يخفف حدة الاحتقان في غزة، ويرفع عن القاهرة مسؤولية أخلاقية متداولة بشأن فتح وإغلاق معبر رفح، ويوجه أصابع الاتهام إلى إسرائيل التي تجاهلها الإعلام القطري عند حديثه الدائم عن حصار غزة، علاوة على أنه يدق جرس إنذار للسلطة الفلسطينية، وقد يدفعها إلى مراجعة تصرفاتها، فالعقوبات التي فرضتها فقدت مفعولها المادي وارتدّت عليها سياسيا.

حسابات القاهرة المهمومة بحل أزمة حصار غزة، ولو جاءت عن طريق قطر، تفتح الأبواب والنوافذ أمام الدوحة لتكريس حضورها في غزة، وتعيد لحماس ورقتها الأثيرة (الدوحة)، والتي لم تفرّط فيها خلال الأشهر الماضية، لكنها تعمدت تقليل الاعتماد الظاهر عليها كي تقفز على الممانعات المصرية.

اللافت للانتباه أن الأوضاع في غزة مثل غيرها في المنطقة، تتسم بسيولة عالية ولا يستطيع أحد القطع باستقرارها عند درجة معينة من الغليان أو البرودة، فإذا كانت الدوحة تقدمت خطوة في القطاع عبر مساعداتها المادية المتسارعة، ويمكن أن تقترب من ملف التهدئة أو حتى الأسرى، فهذا لا يعني أن وسائل كبحها باتت معدومة.

المشكلة أن القضايا الإقليمية متشابكة، وحدوث تطور ما يحدث صدى كبيرا، ويصعب أحيانا عزل إحداها عن الأخرى، ما يستوجب على القوى المنخرطة فيها المزيد من التريث والحذر، والقبول بسياسات قد تتعارض مع مصالحها إلى حين تأتي الفرصة للانقضاض عليها أو تطويرها، هكذا يبدو حال الموقف المصري من قطر.

الدوحة التي ملأت الدنيا ضجيجا لإعادة إعمار غزة منذ حوالي تسعة أعوام، وعينت مندوبا مقيما لها في القطاع، لم تتمكن من تحقيق تقدم على هذا المستوى وتعثرت خطواتها، بسبب بعض الأحداث المحلية والإقليمية، كما أن الفيتو المصري لعب دورا مهما، لأن أغراضها تتجاوز حدود الإعمار، ولا يعني الصمت الراهن حيال ما تقوم به قطر في غزة الإقرار بدورها المشبوه في منطقة تمثل رمانة ميزان للأمن القومي المصري.

الخطوة المقبلة التي ستدفع القاهرة باتجاهها، هي حض السلطة الفلسطينية على إبداء مرونة كافية للتعامل مع حماس وما يدور في غزة، قبل أن تجد القيادة المصرية وأبومازن نفسيهما في مواجهة واقع يصعب تغييره مستقبلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى