أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب – المناورة بالتطبيع والتغطية على إخفاقات حماس

محمد أبوالفضل – 4/11/2019

لا يزال رفض التطبيع سلاحا سياسيا في يد بعض القيادات العربية، يظهر ويختفي، ويتقدم ويتأخر، حسب الحاجة إليه، رغم أن إسرائيل لم تعد تبالي به مثلما يتصور كثيرون. فقد مضى الوقت الذي كان فيه ظهور قائد إسرائيلي إلى جوار آخر عربي يعدّ مكسبا نوعيا، وانتهى زمن الرغبة في تطوير العلاقات السياسية والثقافية كمغنم أو مغرم مع الدول العربية.

الجمعة الماضي، دعا إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إلى إطلاق مبادرة لمواجهة التطبيع مع إسرائيل، خلال فعاليات “مؤتمر رواد ورائدات بيت المقدس” في دورته الـ11 في إسطنبول تحت شعار “معا ضد الصفقة والتطبيع”. لكن هنية لم يتحدث في كلمته المسجلة عن نماذج وخطة واضحة، وتجاهل الإشارة إلى ما يمثّله ذلك من فوائد سياسية لإسرائيل، وتعامل مع الأمر دون اهتمام بالتحولات التي دخلت على هذا الملف وغيره من الملفات الصاخبة.

يفسّر زمان ومكان المؤتمر جانبا من الصورة، التي ظهر عليها هنية، حيث أراد تقديم تركيا كدولة ممانعة، مع أن علاقاتها السياسية والعسكرية وطيدة مع إسرائيل. وقفز على حقيقة ما توفره من دعم ملموس في هذا السياق. ولم يكلّف رئيس حماس نفسه، عرض رؤية تُنهي حالة الخصام بين حركته وغالبية الفصائل الفلسطينية وتُعيد اللحمة الوطنية، وهي أعظم من الحديث عن مقاومة التطبيع، لأنها أفقدت القضية الأمّ في المنطقة غالبية ثوابتها.

اكتفى هنية بترديد عبارات مطاطة حين تطرّق إلى صفقة القرن، التي يكاد يطويها النسيان السياسي داخل الولايات المتحدة وخارجها، غير أنه أصرّ على التذكير بها، ولم يلتفت إلى أن تطبيقها من عدمه يتوقف على مدى الجهد الفلسطيني المبذول لمقاومتها، أو تحسين شروطها. ويعني ذلك أن الأولوية ينبغي أن تبقى لتضييق الهوة بين القوى الفلسطينية كشرط أساسي للصمود والتحدي وخوض مواجهة بقواعد عملية بعيدة عن الأساليب الدعائية.

انتقاد أسطوانة التطبيع ليس دفاعا عنه أو تقليلا من حجمه وخطورته، لكن لأنه بات بلا معنى أو جدوى سياسية. فإسرائيل لا تتمسك به ولا تسعى إليه، وهي تمضي في طريقها، حيث تجاوزت هذه المرحلة وتعقيداتها، وانفتحت أمامها أبواب وساحات عربية وغير عربية دون دفع أثمان باهظة. وفي الوقت الذي تتهرّب فيه من استحقاقات السلام، من الصعب أن تجري وراء تطبيع ما، وتتحمّل تكاليف هي في غنى عنها أصلا. كانت إسرائيل تطالب بالتطبيع حين كانت منبوذة وكانت هناك قضية عربية واحدة في إطار حسابات مترابطة. وعندما انتهى ذلك، لم تعد راغبة فيه.

يبدو أن زعيم حماس يتصور أن هذا النوع من الخطابات السياسية، لم يفتر مفعوله ولا يزال يجذب المشاعر ويخلب القلوب، وتناسى أن هناك هموما عربيةوإقليمية تشدّ انتباه الناس أكثر عشرات المرات من ملف التطبيع، الذي تقحمه قوى إسلاموية بمناسبة ودونها للتغطية على استمرار نزيف الإخفاقات، وترفعه من حين لآخر كشعار أو دليل على تمسكها بمركزية القضية الفلسطينية، بينما لفظها البعض، أي أنها ورقة للمتاجرة والمزايدة بها.

يدرك هؤلاء في قرارة أنفسهم أن تمتين الجبهة الداخلية أهم سلاح لمقاومة التطبيع والحد من تغوّل إسرائيل وتماديها في مواصلة الانتهاكات. ولضمان فعاليته من الضروري تبنّي خطوات توقف زحف الخلافات حول قضايا وطنية مفصلية، وتعظيم القواسم المشتركة، والتصدّي لإعلاء المصالح الحركية. لكنهم يتغافلون عن كل ذلك ويصرّون على التمسّك بإثارة ملف التطبيع خوفا من التنازلات المطلوبة في ملفات أخرى أكثر حيوية، وتقود في النهاية للصمود.

تتطلب هذه المسألة صدقا في النوايا والممارسات والأهداف، وبُعدا عن تبنّي تصورات تنطوي على رغبة في الهروب إلى الأمام، أو طرح قضايا ليس لها محلّ في جدول أعمال العديد من القوى العربية، لأن هناك ما هو أشدّ إلحاحا ويستحق التركيز عليه، مثل البحث بجدية عن مصالحة وطنية شاملة كأداة رئيسية في المواجهة المصيرية مع إسرائيل.

تخطّت الشعوب العربية نغمة النفخ في بعض الملفات الميتة، ولم تعد تتقبل أكاذيب أو مراوغات تنسيها متاعبها الحياتية مع قيادات تفتقر لقراءة الواقع والإمعان في عبره ودروسه، ولن تقبل سحبها نحو الإصغاء إلى مشكلات غير مطروقة عمليا، وينحصر الاهتمام بها في نطاق العلاقات الدبلوماسية في بعض المؤتمرات الإقليمية والحوارات الدولية.

عقدت مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل منذ أربعة عقود، ووقّع الأردن اتفاق وادي عربة قبل أكثر من عقدين تزامنا مع توقيع اتفاق أوسلو الذي قضى بتشكيل سلطة وطنية في رام الله وغزة، ولم تتهاون الشعوب العربية وقتها في ملف التطبيع، وتجاهلت نداءات رسمية مختلفة لحثّها على التجاوب معه، على الأقل لحفظ ماء وجه الحكومات المتعاقبة أمام العالم، حتى جاء الوقت الذي لم يعد البعض يلحّ فيه على طلب التطبيع، ولم تعد إسرائيل مكترثة برفع مستواه.

أيقنت الحكومات أن الرفض الشعبي أداة تعزز مواقف سياسية للتعبير عن عدم القبول بكثير من تصرفات إسرائيل في الأراضي المحتلة، وتحسبت إسرائيل من مخاطر التطبيع وانعكاساته، من زاوية ما يفرضه عليها من قيود والتزامات في محكات معينة، وحدوث اختراقات إعلامية تنقل صورة لواقع مؤلم، قد يجبرها على وضع حدّ لمواصلة جرائمها.

لم تنطل الألاعيب المتكررة بورقة التطبيع على الناس، لذلك فتركيز تركيا عليه حاليا ودعوة شخصيات للإدلاء بدلوها في مؤتمر حاشد بالإسلامويين في إسطنبول، يرمي إلى فتح ملف قديم لتوظيفه في هذا التوقيت، بما يخفّف من حدّة الضغوط الواقعة على حركة حماس بشأن تحميلها لجزء كبير من مسؤولية الانقسام الفلسطيني، ويمنح أنقرة أداة لتوجيه انتقادات لدول عربية قيل إنها ترتبط بعلاقات خفية مع إسرائيل.

في الحالتين، يتخطّى الهدف التطبيع بحد ذاته، ليرسو عند تفجيره فجأة لتوجيه اتهامات إلى جهات بعيدة عن حماس، بعضها تناصب تركيا العداء، ناهيك عن المساعي التي تبذلها أنقرة لتوسيع نطاق نشاطها في المنطقة، وإصرارها على القيام بدور في القضية الفلسطينية يفوق إمكانياتها، أملا في إعادة ترتيب أوراقها وفرض هيمنة سياسية غائبة.

يعتقد البعض أن إثارة الغبار حول التطبيع يمكن أن تعيد الاعتبار لمحور المقاومة، الذي سقطت معظم أقنعته السياسية بفعل التناقضات التي خيّمت على قواه الرئيسية. ويخطئ من يحاولون إعادة الحياة إليه، فقد ظهر في زمن سابق وله رجاله وطقوسه ونواميسه الإقليمية، ومحاولة إحيائه الآن لن تجدي، وسط حزمة كبيرة من تحولات أسقطت الكثير من أوراق التوت التي تدثر بها البعض لمداراة عوراتهم، خاصة بعد تصاعد الدور الذي تقوم به الشعوب لردع الحكام.

يضع استدعاء خطاب التطبيع من قبل حماس، وكل من لفّ لفّها من حركات ودول، في مأزق شديد، لأن من يقفون خلفه لهم علاقات مشبوهة، وعليهم أولا وقف المسارات الخفية والمعلنة قبل التصدي لملف يمكن أن تحرق نيرانه أصابعهم، إذا تم الكشف عن لقاءات جمعت بينهم وبين مسؤولين إسرائيليين أو وكلاء لها.

يحتاج ملف التطبيع وضعه ضمن سلّم أولويات ليس هو أهمها على الإطلاق، لأن القضية الفلسطينية تتعرّض لتهديدات إستراتيجية، وهو غير ذي جدوى بالنسبة لإسرائيل. قبل الحديث عن التطبيع، من الواجب الكف عن اللقاءات السرية مع إسرائيل كي يكون الخطاب منسجما مع الفعل ومقنع للجماهير العربية، بدلا من وضعه كقناع لتخطي فشل هنا وتقاعس هناك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى