أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب – القاهرة تستعد لموسم حقوقي عاصف مع واشنطن

بقلم محمد أبوالفضل ١٥٠٣-٢٠٢١م

بدأت مصر تستعد للموسم الحقوقي الساخن مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي مرت على الملف السعودي من الزاوية نفسها مؤخرا، مع اختلاف في الأسباب والدوافع والتفاصيل، فهل تنحني القاهرة للعواصف وتغير من سياساتها الراهنة لتحاشي تكرار الانتقادات، أم تواصل الرد من خلال استكمال الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وترك الملف السياسي لمستقبل بعيد؟

أصبح هذا النوع من الأسئلة الدقيقة يحتل حيزا كبيرا في تفكير المتابعين للعلاقات بين البلدين، فواشنطن في خضم تثمينها للشراكة الإستراتيجية والأهمية التي ينطوي عليها الدور المصري في مكافحة الإرهاب والسعي لدعم الاستقرار الإقليمي لم تأل جهدا للتذكير بعدم رضاها عن ملف حقوق الإنسان، وتميل للتعامل معه بوصفه بوصلة رئيسية في تقييم العلاقات، والقاهرة لا تريد الانحناء أو تغيير طريقتها وتتشبث بالقناعات التي تراكمت لديها وأدت إلى التشكيك دوما في نوايا كل من يتطرقون إلى هذا الملف، ما يعني حدوث صدام لا محالة بسبب التباين في الرؤى والمفاهيم والتقديرات.

تستعد القاهرة لمواجهة العقد الأميركية بإجراءات سياسية محدودة، وتميل إلى ترحيل المعالجة للمستقبل البعيد، أملا في تغير حسابات الملف الحقوقي، وهذا رهان يصعب الثقة فيه

عندما سئل المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، الخميس الماضي، عن صفقات الأسلحة لصالح مصر ووضع حقوق الإنسان، قال “لن يكون هناك شيك على بياض لأي دولة، سواء كانوا شركاء أمنيين مقربين أو منافسين أو خصوما.. واشنطن لديها قلق عميق من سجل حقوق الإنسان في مصر، بما في ذلك تقييد المجتمع المدني وحرية التعبير والاعتقالات”.

تعمد المسؤول الأميركي استخدام عبارة “شيك على بياض”، للتذكير بما قاله بايدن في أثناء الحملة الانتخابية وخلال حكم الرئيس دونالد ترامب الذي اتهم بأنه منح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أو “دكتاتوره المفضل” هذه الميزة التي لن يكون لها مكان في إدارة بايدن، كعلامة مهمة للتفرقة بين توجهات إدارتين وحسابات رئيسين وتفكير شخصين، وأيهما أكثر إخلاصا للقيم الأميركية.

أحدثت إجابة برايس صدى واسعا في مصر، وأوحت بأن المسألة على وشك الانفجار والدخول في مناح سلبية، فتصميم واشنطن على منح أولوية كبيرة للملف الحقوقي يشير إلى فجوة بين الجانبين، ومهما اتخذت القاهرة من إجراءات رمزية ومتقطعة لن تكون محل رضاء، فالمطلوب معالجة على الطريقة الغربية التي لا ترى في الإصلاحات الاقتصادية الاجتماعية بديلا عن نظيرتها السياسية الشاملة.

تنبع الخطورة من تأكيد الإدارة الأميركية على أنها تجري مراجعة لصفقات الأسلحة الحساسة للتيقن من تماشيها مع مصالحها وقيمها، وهو ما تقوم به مع مصر ودول أخرى، في إشارة واضحة إلى أن صفقة الأسلحة التي جرى تمريرها مؤخرا لمصر بقيمة 197 مليون دولار ليست دليلا قاطعا على استمرار الشيكات مستقبلا.

لا تتورع منظمات حقوقية دولية عن التركيز على ملف مصر الحقوقي لأسباب إنسانية أو سياسية ما يفرض على القاهرة الاستعداد لمواجهة موسم حقوقي عاصف

تكمن العقدة الأولى في عدم اقتناع القاهرة بفحوى الخطاب الأميركي الضاغط على عملية الإصلاحات السياسية والتعجيل بها، وتراه مغرضا ويصب في مصلحة جماعة الإخوان المسلمين، وتحاول مصر تصدير خطاب مضاد يتعلق بتسويق مفهومها الخاص لحقوق الإنسان بعيدا عن الشق السياسي وما يرتبط به من توسيع نطاق الحريات والإفراج عن المعتقلين وفرملة “التوقيف دون محاكمات قضائية سريعة”.

تأتي العقدة الثانية من رحم تأكيد مصر دوما عدم وجود معتقلين سياسيين، وكل من جرى توقيفهم، من صحافيين ومحامين وأكاديميين ونشطاء، من المتهمين الجنائيين وتورطوا في أعمال عنف وإرهاب، وهو المنطق الذي لا يلقى تجاوبا أو حتى استيعابا عند جهات كثيرة في دول غربية، ويبدو في نظرهم جميعا حجة لتبرير الاعتقال.

بات هذا التوجه أقل تأثيرا مع نجاح أجهزة الأمن في القضاء على جزء معتبر من الإرهابيين، وتنظيف جيوبهم الداخلية، وترديده في الوقت الحالي يشي بعدم الثقة في الحكومة المصرية، وتوظيفها السياسي من باب جعل جمرة الإرهاب ملتهبة.

في كل مرة يصدر تقرير دولي يتناول حقوق الإنسان في مصر وينتقد أحوالها، ينصب الرد على الرفض والشجب والإدانة والتبرير والتفسير، وآخرها البيان الذي أصدرته 31 دولة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الجمعة، وحوى انتقادات قاسية للسجل الحقوقي في مصر، حيث جاءت ردود وزارة الخارجية ومجلسي النواب والشيوخ بطريقة متشابهة، تستند على مفردات معتادة.

تخرج العقدة الثالثة من هذا البون الشاسع في طريقة التعامل مع الملف الحقوقي الذي لا تخلو دولة في العالم من انتهاكات متفاوتة، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، لكن بالتوازي هناك قيم يعتد بها ومحاسبات صارمة لكل من يرتكب تجاوزات.

كما لا تلغي الحقوق السياسية مثيلتها الاقتصادية أو الاجتماعية، فالدولة لا تستبدل حقا بحق أو دورا بآخر، وهي الثغرة التي تنفذ منها السهام الأميركية ولن تتوقف عن إثارتها، لأنها جزء من منظومة الشعارات التي ترفعها إدارة جو بايدن.

يؤدي التعويل على المصالح المشتركة وإجهاض التمادي في ملف حقوق الإنسان إلى عقدة رابعة بين واشنطن والقاهرة، فتعاظم المصالح لن يضع هذا الملف على الرف بعد أن أصبح في صدارة الاهتمامات السياسية، ومسؤوليته موزعة على مؤسسات مختلفة، فيمكن أن تتوتر العلاقات مع جهة مثل وزارة الخارجية، ولا تتأثر جهة مثل وزارة الدفاع (البنتاغون) بالتعاون والتنسيق المستمرين مع مصر.

واشنطن في خضم تثمينها للشراكة الإستراتيجية والأهمية التي ينطوي عليها الدور المصري في مكافحة الإرهاب والسعي لدعم الاستقرار الإقليمي لم تأل جهدا للتذكير بعدم رضاها عن ملف حقوق الإنسان

تستعد القاهرة لمواجهة العقد الأميركية بإجراءات سياسية محدودة، وتميل إلى ترحيل المعالجة للمستقبل البعيد، أملا في تغير حسابات الملف الحقوقي، وهذا رهان يصعب الثقة فيه، لأن القرار لم يعد في يد شخص، كما كان في عهد ترامب، فثمة مؤسسات متعددة ترصد وتراقب وتقيّم، وأملا في تكوين شبكة أمان داخلية تحصل عليها الحكومة المصرية من وراء المشروعات التي تبنيها لتخفيف الأعباء عن المواطنين.

في الحالتين سوف يظل ملف حقوق الإنسان منغصا، وإذا حاولت الإدارة الأميركية تبريده قليلا لدواع إستراتيجية لن تتغافل عنه وسائل إعلام لا تجد في مصر تقريبا قضية أكثر سخونة للحديث سوى تضييق الحريات وروافدها، ما ينعكس في شكل خسائر للدولة المصرية الحديثة التي يلعب فيها الاستثمار الأجنبي دورا حيويا.

ويتأثر حجمه والجهة الغربية القادم منها بأوضاع حقوق الإنسان ومستوى الحريات العامة، لأن الدعاية السوداء تهز ثقة المستثمرين في الدولة المستهدفة، وفي حالة مصر لا تتورع منظمات حقوقية دولية عن التركيز على الملف الحقوقي لأسباب إنسانية أو سياسية، ما يفرض على القاهرة الاستعداد لمواجهة موسم حقوقي عاصف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى