أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب – العلاقات المصرية العربية.. دافئة رسميا وفاترة شعبيا

محمد أبوالفضل 3/12/2018

الدفء الرسمي في علاقات مصر بكثير من الدول العربية، لم يفلح في أن يؤدي إلى دفء مماثل على المستوى الثقافي والإعلامي، وتتذكر أجيال سابقة عندما كانت القاهرة تنبض بالعافية الفكرية العربية، ويتنقل الصحافيون من مؤتمر إلى آخر لملاحقة شخصيات مرموقة من دول مختلفة.

تغييب القضايا العربية في مصر لم تعد التفسيرات الخاصة باهتمامات وانشغالات وأولويات الحكومة الداخلية كافية لفهمه، لأنها تسعى إلى توطيد العلاقات الرسمية وتنخرط في ملفات إقليمية عديدة، وتستقبل قوى عربية من تيارات سياسية، بعضها يتخذ من القاهرة مقرا لاجتماعاته ومشاوراته.

الكثير من المثقفين والسياسيين العرب المقيمين في مصر ينتابهم شعور بالعزلة، وكأن القاهرة قبلت استضافتهم لأسباب تتعلق بظروفهم الاجتماعية أو وضعهم تحت المجهر ومراقبة تصرفاتهم في أزمات بلدانهم، في حين يتمنى قطاع كبير منهم إجراء حوارات مفتوحة مع النخب المصرية.

لم تفكر الحكومة في الاستفادة من الكثافة العربية الراهنة في القاهرة، لتكون حبلا يمكن توظيفه مستقبلا، فمصير معظمهم العودة إلى بلدانهم، لأنها أسندت إدارة الملفات العربية إلى جهات غلّبت فيها الأبعاد الأمنية على الفكرية، فكان من الطبيعي أن يتم تفويت الفرصة لتحويل القاهرة إلى ساحة أو منارة تجمع عددا كبيرا من الأطياف والنخب العربية.

غالبية من استقروا في القاهرة وضواحيها يملكون حنينا جارفا لأهلها، واختاروا الإقامة عن قناعة، ولديهم تصورات حالمة في التلاقي مع القوة الناعمة المصرية، وهي زاوية لم تنتبه لها الحكومة لتتخذ منها مدخلا لإحياء فكرة الشراكة على قواعد شعبية، بما يؤدي إلى مردودات رسمية لاحقا.

الوفد الإعلامي الذي زار القاهرة صحبة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، الأسبوع الماضي، قام بجولة في عدد من المؤسسات الصحافية المصرية، كانت رسالته اللافتة تدور حول جدوى تطوير التعاون الثقافي والإعلامي، على اعتبار أن النخب سوف يعول عليها في القيام بدور في التصدي للتحديات التي تواجه البلدين، والعمل على إنشاء مراكز بحثية لوضع تقديرات موقف للأزمات المستمرة والطارئة.

الكلام في ظاهره إيجابي ويحمل معنى عميقا، لكن جانبا منه يدخل في إطار المجاملات الرقيقة التي طغت على بعض ملامح الزيارة، ونجدها في غالبية اللقاءات العربية من دون أن تكون لها نتائج في واقع يموج باستقطابات من الواجب أن تكون دافعا للتلاقي بدلا من التنافر.

المسؤولون في مصر لديهم شعور بأهمية توطيد العلاقات مع الدول العربية، وعلى اقتناع بأن التباعد الشعبي يقلل من دور القاهرة ويعرقل تطلعاتها إلى القيام بأدوار إقليمية مؤثرة، ويسمح لعواصم أخرى أن تتقدم الواجهة الثقافية والإعلامية، ما يضع مصر في خانة تبدو هامشية أحيانا، لا تتناسب مع طموحاتها العربية ولا تتواءم مع أدوارها التاريخية.

النظام المصري يثمّن علاقاته العربية، لأنها من محاور الدفاع عن الأمن القومي، وأطلق عبارات رنانة في هذا المجال، وينقصه أن تتحول الشعارات إلى تصورات وممارسات، وامتلاك قوى واعية بأهمية أن يكون الدفء الشعبي العربي رديفا لنظيره الرسمي.

منذ حوالي عامين تحدث معي مثقف مصري، قريب من دوائر صناعة القرار في القاهرة، حول تصور حالم لنسج علاقات قوية مع نخب عربية (إعلامية وثقافية ومراكز بحوث)، وأخذ النقاش طابعا جديا من جانبه في استعراض قائمة بالأسماء المؤثرة، لكن لم نر شيئا يتبلور في هذا الاتجاه حتى الآن.

كانت مصر (الرسمية) وصلت إلى قناعة مفادها أن استرداد مكانة قوتها الناعمة قد يمكنها من التوسع المعنوي في الدائرة العربية، وهي تحتاج إلى عناصر مساعدة أو قاطرات صلبة تمهد لها الطريق، لكن عيون الجهات المنوط بها القيام بالمهمة الخارجية لم تفارق التركيز على الجبهة الداخلية، وكبلتها بقيود تمنعها من مد بصرها بجدية إلى الساحة العربية.

القاهرة تدرك أن حضورها في الفضاء الثقافي والإعلامي العربي عملية إيجابية، لكنها عاجزة عن تمتين أواصر العلاقات في ظل الافتقار إلى رؤية واضحة وشاملة، وترك الأمور في أيدي أشخاص لا يزالون مبهورين بفكرة الريادة والقيادة، ولا يعلمون أن هناك ريادات جديدة في دول عربية عدة، تتسلح بالعلم والتكنولوجيا والحنكة في الربط بين السياسة والثقافة.

لك أن تتخيل قيام صحافي ومسؤول كبير باستضافة الوفد الإعلامي السعودي في المؤسسة التي يرأسها من دون دعوة كبار كتابها، ويقتصر الأمر على حاشيته، فهل هذه العقلية تستطيع وضع حجر أساس لدعم العلاقات المصرية العربية شعبيا؟

الأمثلة التي تؤكد ضيق الأفق كثيرة ومتشعبة، وتؤدي إلى زيادة مساحة الانسداد، وكأن هناك تيارين في الإدارة المصرية؛ أحدهما مع الانفتاح، والآخر مع الانزواء، وتذهب الغلبة إلى التيار الأخير، لأن أذرعه الطويلة تقف حائلا أمام فتح الأبواب والنوافذ لدخول الهواء الطلق محليا، فما بالنا إذا كان خارجيا؟

الاتجاه العام يقول إن التمدد الثقافي والإعلامي ناحية العالم العربي يحتاج إلى تهيئة البيئة الداخلية أولا من خلال إطلاق الحريات وتشجيع النخب على التفاعل مع المشهد السياسي العام والتأسيس لدولة ديمقراطية حقيقية، الأمر الذي تفتقر له مصر في الآونة الأخيرة، ما يكبل حركتها ويعرقل أمنياتها الخارجية.

التقدير السابق مردود عليه بعدم وجود تعارض بين حدود الحرية وما تمتلكه الدولة من مخزون علمي وثقافي وفني وإعلامي، والدليل أن القاهرة ارتقت علاقاتها الشعبية إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، والنوافذ السياسية كانت شبه مغلقة لكن الإرادة كانت قوية.

المسألة تتوقف على وجود رشد سياسي يعي أهمية القوة الناعمة لتعزيز البعد العربي، فلن تكون العلاقات الرسمية متينة ما لم تكن هناك جذور شعبية، ففي ذروة المد المصري خلال العهد الناصري، كان هناك رواج وتبادل وتأثير وتأثر، حافظ على مكانة القاهرة في الوجدان العربي.

لكل زمان ظروفه وطقوسه وقياداته ونخبه وناسه، ومن الصعوبة تكرار التجارب ذاتها، لأن الشخص لا ينزل النهر مرتين، لكن من الضروري الاستفادة من دروس الماضي وإيجاد الوسائل اللازمة لزيادة التواصل المصري العربي، ذلك أن عائدات القوة الناعمة تتجاوز حدود النفوذ التقليدي إلى جني مجموعة من الثمار السياسية والاقتصادية.

التكنولوجيا، وما توفره من سرعة فائقة، قلصت دور النخب بصورتها السابقة، غير أنها وفرت فرصا أخرى تتعلق بتصاعد القدرة على التأثير عندما تتوفر لها الأدوات النشطة والأهداف الواضحة، ومن يجيدون قراءة الواقع وفقا لمعطياته.

إذا افترضنا أن الحكومة المصرية لديها نية كبيرة للانفتاح العربي، فهي تفتقر إلى القنوات التي تمكنها من تفريخ نخب قادرة على استيعاب أهمية هذا البعد، لذلك تلجأ إلى القريبين من توجهاتها، بحكم العادة وليس بحكم الكفاءة، وهي ثغرة تضاعف من خطورة الانطباعات التي تكونت حول تدهور مواهب مصر، بعد أن خضع جزء كبير فيها للتنميط والتصحر، وبات العمل في الفضاء العام رهينة لإرادة غير المتخصصين والمحترفين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى