مباط عال: مبدأ التناسبية في القتال: حرب غزة نموذجاً
مباط عال 2023-05-29، بقلم: عنات شابيرا وعيديت شفران غيتلمان*: مبدأ التناسبية في القتال: حرب غزة نموذجاً
يأمر القانون الدولي وقواعد أخلاق الحرب بالتفريق ما بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية، ويسمحون بالهجوم على أهداف عسكرية فقط. هذا المبدأ القانوني والأخلاقي يسمى “مبدأ التفريق”، ويشكل حجر أساس في قواعد أخلاق الحرب. وعلى الرغم من الانتقادات لهذا التفريق، فإن هناك اتفاقاً عاماً ينصّ على أن المدنيين غير المتورطين بقضايا الحرب يتمتعون بنوع من أنواع الحصانة، ويجب عدم توجيه الضربات إليهم. ولكن، على الرغم من حصانة غير المقاتلين، فإنه من المتعارف عليه تفسير قوانين الحرب بشكل يسمح بإلحاق الضرر غير المقصود بالمدنيين، أو بأهداف مدنية، نتيجة لضرب أهداف “شرعية”، ما دامت تحترم شروط التناسبية، التي تقضي بضرورة وجود توازُن ما بين الفائدة المتوقعة من تنفيذ العملية وبين الضرر المتوقع الذي سيلحق بالمدنيين خلالها، وفي حالات الضرورة، بحيث لا توجد طريقة أُخرى أقل ضرراً من أجل تحقيق الهدف.
العقيدة المركزية التي تعالج حالات تتعلق بعملية محددة تؤدي، بشكل لا يمكن تفاديه، إلى نتيجة غير مرغوب فيها، بالإضافة إلى النتيجة المرغوب فيها، تسمى “عقيدة النتيجة المضاعفة”. وهذه العقيدة تميز بين نتيجة مقصودة ونتيجة متوقعة، لكنها غير مقصودة. وكيف يمكن فحص ما إذا كان الضرر المرافق للعملية يتماشى مع هذه الظروف، وهل الضربة فعلاً تتماشى مع مبدأ التناسبية؟ هذه الأسئلة المركّبة، لا نجد إجابة واحدة مقبولة لها. ومع غياب معادلة عامة لقياس “التناسبية”، يتم الوصول إلى هذه الإجابات، غالباً، بقياس مجمل التبريرات والاعتبارات المطروحة. ومع ذلك، وحتى من دون صيغة حساب شاملة، فإنه يمكن طرح عدة توضيحات بشأن مبدأ “التناسبية”، وطريقة تفسيره.
أولاً، بحسب “مبدأ التناسبية”، يجب أن يكون هناك توازُن بين الفائدة المتوقعة جرّاء تنفيذ العملية وبين الضرر المتوقع أن يلحق بالمدنيين. الأضرار الأُخرى التي يمكن أن تنتج عن العملية، وبصورة خاصة الأضرار التي ستلحق بمقاتلي العدو، لا تُحسب فقط مقارنةً بفائدتها، إنما تؤخذ أحياناً في إطار حسابات الفائدة من تنفيذ العملية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الضرر الذي سيلحق بالمدنيين يجب أن يكون “عرضياً”، بما معناه أنه حتى لو كان متوقعاً، يجب ألا يكون مقصوداً. الادّعاء المتعارف عليه هو أننا “لم نقصد” قتل الأطفال، إذا كنا نعلم بوجودهم في محيط الهدف الذي يُعتبر “شرعياً”، ومن الواضح أن الضربة ستؤدي إلى مقتلهم؟ لقد جرى اختبار هذا الادّعاء كثيراً. أحد الاختبارات المقبولة هو “اختبار الحاجة”، وبحسبه، يجب فحص ما إذا كان يمكن تنفيذ العملية من دون الوصول إلى النتيجة غير المتوقعة. وللتعامل مع حالتنا – هل كانت إسرائيل ستستهدف قيادات “الجهاد” إذا كانت تعلم بأن هناك مدنيين سيُقتلون خلال الضربة. إذا كان الجواب نعم، فإن الحديث يدور عن ضرر متوقع، لكنه غير مقصود. وفي المقابل، إذا كان المسؤول عن العملية امتنع من تنفيذها لأنها لن تؤدي إلى أضرار جانبية، فهذا يعني أن العملية كانت تستهدف النتيجة السيئة وتقصدها.
بُعد إضافي لطلب مبدأ “التناسبية”، وعلى عكس التفسيرات السائدة لهذا المبدأ في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، هو حقيقة أنه يتطرق إلى المستقبل، وليس إلى الماضي. فبحسب قوانين الحرب كما جاءت في البروتوكول الإضافي لـ”وثيقة جنيف”، فإن أنواع الضربات التي يتم التعامل معها على أنها لا تفرّق، كالتالي: ضربات من المتوقع أن تؤدي إلى سقوط قتلى مدنيين عرضياً، وإصابة مدنيين، وأضرار تلحق بأهداف مدنية، أو مزيج من هذه الضربات، بشكل يكون مبالَغاً فيه نسبةً إلى الفائدة العسكرية الضرورية والمباشرة المتوقعة. وهو ما يعني أن الإجابة عن سؤال ما إذا كانت العملية المحددة تتماشى مع مبدأ التناسبية، لا يتعلق بالمقارنة ما بين الضرر الذي جرى سابقاً وبين الضرر المتوقع من العملية. المقارنة المقبولة هي بين الوضع القائم من دون تنفيذ العملية، وبين الضرر الذي يمكن منعه أو تقليله نتيجة الوصول إلى الفائدة العسكرية المرجوة من تنفيذها. لذلك، فإن اتخاذ القرار، مثلاً، باغتيال قائد تنظيم “إرهابي”، لا يتعلق بحجم الضرر الذي قام به هذا القائد سابقاً نسبة إلى حجم الضرر الذي سيؤدي إليه اغتياله في صفوف المدنيين، إنما الأضرار التي سيمنعها هذا الاغتيال، مستقبلاً، في صفوف المدنيين. لذلك، فإن عناوين على نمط “إغلاق الدائرة”، أو بثّ مقولات عن الانتقام، لا تتماشى مع “مبدأ التناسبية”. وأكثر من ذلك، فإن المقارنة يجب ألا تكون مع الأضرار التي حدثت فعلاً، إنما مع الأضرار المتوقعة في وقت اتخاذ القرار، استناداً إلى المعلومات المتوفرة لدى متّخذي القرار. وعلى الرغم من ذلك، فإنه تقع على متّخذي القرار مسؤولية محاولة تقليل الضرر المتوقع أكثر ما يمكن.
ثمة قضية إضافية مهمة في إطار الحديث عن “التناسبية” في مجال الأضرار “الجانبية” تتطرق إلى الادّعاء الذي نسمعه دائماً عن أن النشطاء “الإرهابيين” يختبئون في أوساط المدنيين، ويستخدمونهم كدروع بشرية. وفي الحقيقة، فإن الضربات التي تم تنفيذها يوم 9 أيار، لا تندرج في إطار الحالة “الكلاسيكية” لاستخدام الدروع البشرية، فاستهداف “المخربين” جرى وهُم في منازلهم، ولكن هذه القضية تحتاج إلى توضيح. ففي الوقت الذي يُعَد فيه الامتناع من إلحاق الضرر بالمدنيين الأبرياء أساساً طبيعياً وعادلاً، فإن قيام “العدو” ذاته بتعريض مدنيّيه للخطر، كجزء من استراتيجيا مقصودة، يجعل الالتزام بمبدأ التفريق مترافقاً مع شعور بالظلم الواضح: العدو ذاته يخرق القواعد ويستغل التزام الطرف الآخر، ومَن يدفع الثمن هو الطرف الملتزم بقواعد الحرب. صحيح أن المدنيين لدى العدو الذين يُستخدمون كدروع هم مدنيون أبرياء، ولذلك، ممنوع استهدافهم، لكن عندما يضعهم العدو في خطر، قصداً، منذ البداية، يجب عليه هو تحمُّل مسؤولية إسقاطات ذلك. هذا بالإضافة إلى أن الحفاظ على مبدأ التفريق في حالات كهذه، يدفع الأطراف المشارِكة في الحرب إلى استخدام المدنيين في القتال، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى ضرر أكبر بالمدنيين.
على الرغم من أن القانون الدولي يمنع منعاً باتاً استخدام الدروع البشرية، فإنه لا يعطي إجابات واضحة عن سؤال: كيف يجب التصرف في حالات يقوم فيها العدو بخرق القواعد ويستخدم المدنيين كدروع. وهنا يجب الإشارة إلى مبدأين ينطبقان على هذه الحالات: المبدأ الأول هو أن المدنيين يُستخدمون كمدنيين أبرياء؛ والمبدأ الثاني هو أن المسؤولية ليست محصلتها صفرا، بمعنى: حقيقة أن “التنظيم الإرهابي” يتحمل المسؤولية المركزية عن موت المدنيين، لا تلغي مسؤولية الطرف الآخر المهاجم عن موتهم. قيام العدو باستغلال النساء والأطفال كدروع، لا يعني أن هؤلاء النساء والأطفال ليسوا أبرياء، وهذا لا يعفي المهاجم من ضرورة أخذ هذا الضرر بعين الاعتبار. لذلك، فإن استعمال “الدروع البشرية” لا يمنح السماح، تلقائياً، بتنفيذ ضربات تُلحق بهم بالضرر، إنما يتطلب الاستمرار في تقييم التناسبية في تنفيذ العملية بسبب هذا الضرر.
أحياناً، يصرّح السياسيون وذوو المناصب المختلفة، بفخر، بأن “إسرائيل سترد على كل هجوم عليها بشكل غير متناسب.” طبعاً، يقصدون التحذير من اليد الطولى للجيش وجاهزيته لرد عنيف. ولكن تشير أقوال بهذه الروح، عملياً، إلى أن إسرائيل ستخرق القانون الدولي الملتزمة به، والأسوأ – مبادئ الأخلاق الأساسية. هناك فرق بين رد قاس وجدّي، وبين رد “غير متناسب”، على الرغم من صعوبة تعريف التناسبية وفحصها. لذلك، من المفضل أخذ هذا الفرق بعين الاعتبار والتعامل مع التحديات التي يفرضها، وخصوصاً أن الحروب ضد “التنظيمات الإرهابية” تجعل مهمة التفريق بين المقاتلين وغير المقاتلين صعبة، وأحياناً، لا يمكن تحقيق الهدف العسكري الشرعي من دون أضرار جانبية في صفوف المدنيين. وأكثر من ذلك، وكما في جميع الهجمات التي جرت خلال حملة “درع وسهم”، ومن أجل الإقرار ما إذا كان الضرر الذي سيلحق بالمدنيين “شرعياً”، أحياناً، يجب الوصول إلى معلومات مخفية عن الجمهور. وعلى الرغم من أن الضرر الذي سيلحق بالمدنيين سيكون “شرعياً” أحياناً، فإن إلحاق الضرر بالمدنيين يجب الامتناع دائماً من حدوثه، ولا يمكن أن يتم تشريعه باسم الانتقام، أو نزع البراءة عن المدنيين، بسبب انتمائهم إلى مجتمع “العدو”.
* باحثتان في مركز أبحاث الأمن القومي.