أقلام وأراء

ما بعد (داعش) ؟ كما يكتب بكر أبوبكر

بكر أبوبكر يكتب – 28/10/2017
كان السؤال من بعض الفضائيات متركزا نحو (ما بعد “داعش”)، وذلك على فرضية أن الضربات الموجعة للتنظيم الاسلاموي المتطرف في سوريا والعراق (وربما في أوربا) قد تعمل على انهائه أو أنها بصدد فعل ذلك ؟
ولما كان مثل هذا السؤال الذي وجهته إحدى الفضائيات لي يقتضي برأيي فهم ما هي (داعش) أصلا لنتمكن من الإجابة على سؤال (الما بعدها)، وبناء عليه جازفت “من الآخر” كما يقولون، بأن ذكرت لسائلي:
أن “داعش” حالة لا تنتهي؟
وما بين عجب السائل على الخط قائلا: أوف! إلى هذه الدرجة ؟
قلت له نعم.
وعليه شرحت أسباب النشوء ، للنظر في أسباب الأفول لهذا التنظيم وليس أفول الاداة والفكرة، وهوالذي لم يكن نبتا شيطانيا وانما زرعا أثمر، لقي البذار والرعاية من سقاية وحرث.
انطلقت داعش بالقدرة والقوة الساحقة التي عبّرت عن نفسها باحتلال الموصل عام 2014 بشكل مثير، وتمددها على مساحة سوريا والعراق، فلم تكن هذه حالة طارئة كما قلنا، وإنما جاءت بكل وضوح نتيجة تقاطع مصالح إقليمية مع مطامح محلية، استخدمت واستغلت قلّة من أصحاب الفكر الماضوي المتطرف لخدمة تلك المصالح والمطامع، فتعانقت الفكرة الذي أسبغت قيما ومبادئ للتوسع على الطموح للفئات المحلية التي كانت تترقب أي فرصة للوثوب ضد الحكم الاستبدادي في سوريا، أو الحكم المغلف بالطائفية وتقاسم النفوذ والامتيازات في العراق، فأقصى فئات من الشعب وأهلك فئات أخرى.
مع مطامع الفئات المحلية (مطاريد حزب البعث في العراق ، وتهميش ثلث العراقيين، وجلّ الشعب السوري في سوريا) للانعتاق من أسر الاستبدادي والإقصائي والطائفي اتجه كثير منها للتحالف مع فلول (القاعدة) وجماعة الزرقاوي في العراق فكانت (داعش).
لاشك لدينا أن المخابرات السورية (بل والعراقية) كان لها الدور البارز في تعميق دور التنظيم المتطرف، لاسيما وأنها تضع الصورة الوحشية للتنظيم في مقابل النظام، الذي حاول أن يظهر بمظهر المعتدَى عليه من المتطرفين، وهم من أطلقهم من سجونه بالآلاف لتحدث مثل هذه المقارنة، فيظل النظام رابضا على صدور السوريين (والعراقيين) حتى لو هاجر من الشعب داخليا وخارجيا ملايين عشرة.
يثير الكثير من الكُتّاب الدور الكبير لحكومة المالكي بالعراق في اطلاق العفريت من القمقم، لاسيما واحتلال الموصل والمناطق المجاورة عجز الكثيرون عن تفسيرها بعيدا عن أيادي ذوي المصالح سواء في العراق أو إيران أو تركيا.
في ظل طموحات الفئات المظلومة في العراق والتي عملت جهدها ديمقراطيا لتغيير الوضع السائد لشهور وسنوات، لم تجد فئات منها الا التحالف مع الشيطان القادم من عمق التاريخ، فتم تقاسم النفوذ والهيمنة على الأرض والتنظيم، ووقفت كل الأنظمة الاقليمية والعالمية (روسيا وأمريكا، واوربا) موقف المتفرج أو الداعم ل”داعش” بلا مواربة إما بشكل علني أو سري، إما عبر التسهيلات التي قدمت لهم في سجن “بوكا” الامريكي في العراق، أوعبر رصدهم روسيا وهم يخرجون من أواسط آسيا الى مناطق القتال دون أي تصرف يمنعهم، فاستفادت الدول الكبرى وانتعشت دول الاقليم اقتصاديا وسياسيا، وفي تقاسم النفوذ، ولنا أن نقرأ خريطة الافتراقات والتقاطعات الاقتصادية (النفط والغاز والمنتجات الاقتصادية وخطوط التجارة والسيطرة) والنفوذ السياسي، الطائفي بين ايران وتركيا ونرى حجم التباعد ثم التقارب، حين وحدهم خطر “داعش” مرتبطا باستفتاء اقليم كردستان العراق وطموحات أكراد سوريا.
إن تنظيم (داعش) ليس تنظيما متطرفا محضا أبدا، بل هو خليط من الفئات التي ذكرناها، لذلك تختلف الفئات التي شكّلته أوساهمت في تكوينه ما بين العقول المدبّرة (وهم غالبا القيادات المحلية) وما بين أصحاب الفكرة الماضوية التي كانت تبحث عن أمل الظهور (فلول القاعدة ومتطرفو السعودية والخليج)، وما بين المخدوعين الذين لا يملكون من العلم بحقائق المنطقة أو بالدين الاسلامي الا الشعارات الرائجة والمزيفة خاصة من الذين انضموا لداعش من وسط روسيا الاسلامي، ومن المغرب العربي (من تونس خاصة وأولئك في اوروبا خاصة فرنسا) .
ولك أن تعلم أن اتباع “القاعدة”(النصرة/هيئة تحرير الشام لاحقا) كانوا ينكّتون على مقاتلي (داعش) بالقول أنهم لا يفرقون بين القرآن وأشعار عمر الخيام!
وراجت اقتباسات من كِتاب الحمقى والمغفلين لابن الجوزي تشبيهات لهم ببعض الحوادث المذكورة فيه تعريضا من “النصرة” بمجندي “داعش” خاصة الاجانب مثل الروايات التالية الواردة في الكتاب: كان رجل كثير المخاصمة لامرأته، وله جار يعاتبه على ذلك، فلما كان في بعض الليالي خاصمها خصومة شديدة وضربها، فاطلع عليه جاره، فقال: يا هذا،اعمل معها كما قال الله تعالى: إما إمساك إيش اسمه أو تسريح ما أدري إيش.(؟!)
وفي طرفة متداولة أخرى: وجه حاكم البصرة رجلاً يوماً في حاجة فقضاها ورجع إليه، فقال أنت كما قال الله تعالى: إذا كنت في حاجة مرسلا … فأرسل حكيماً ولا توصه (!) (هذا بيت شعر) وفي غيرها: قال رجل لابنه وهو في الكُتّاب: في أي سورة أنت؟ قال: في أقسم بهذا البلد ووالدي بلا ولد (!)فقال أبوه: لعمري من كنت ابنه فهو بلا ولد، واليكم الطرفة الأخيرة حيث خرج رجل إلى قرية فاستضافه خطيبها فأقام عنده أياماً، فقال له الخطيب: أنا منذ مدة أصلي بهؤلاء القوم وقد أشكل علي في القرآن بعض مواضع، قال: سَلني عنها، قال: منها في” الحمد لله ” (يقصد سورة الفاتحة)، ” إياك نعبد وإياك ” أي شيء تسعين أوسبعين؟ أشكلت علي هذه فأنا أقولها تسعين، آخذ بالإحتياط(!)
اذا كانت “داعش” (اختصار تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام والتي اصبحت لاحقا الدولة الاسلامية فقط) قد تشكلت نتيجة تحالف محلي بين السوريين المقموعين والعراقيين المسحوقين والبعث المهدور دمه بلا تمييز نتيجة خطل المعادلة وعبث السلطات فإن التحالف بين هؤلاء و(الثوار)الاسلامويين الماضويين قد وقع برعاية وسقاية واحتضان اقليمي عالمي كاد يدعه فترة يستمرأطول، لولا بروز التحالف العربي، والصحوة التي وزعت الثقل لمقاومة العفريت والتخلي عن دعمه، مما كان يفعله بعض الدول العربية الخليجية لاسيما وأن النتيجة قد أصبحت عكسية فطالت السعودية كما طالت أوروبا التي وقفت لوهلة لا تدري ماذا تفعل؟ (أهو سبعين أو تسعين)!
إن المساحة الواسعة التي تركتها أمريكا لحركة الروس في سوريا لاشك قد أثرت في التراجع الحاصل ل”داعش”، كما أن التدخل الايراني السافر والتحشيد الطائفي في العراق قد أعطى ثماره، كما كان للدعم الامريكي الواضح لأكرد سوريا (ليس لسواد عيونهم وانما لسواد عيون “اسرائيل”) أن استقرت المنطقة فأعيد تركيب المعادلات على حساب الانتقال بالإقليم من رعاية تنظيم (داعش) الي محاربته صونا للمصالح، التي أصبحت تفوق مصلحة بقاء “التنظيم” أو الاستفادة منه في المعارك التناحرية والتي لم تخدم الا تفتيت وتجزئ المنطقة ودعم نفوذ الاحتلال الصهيوني.
اذا كانت هذه “داعش” ؟ المخلوق الهجين والمشوه حقا، فكيف يكون ما بعد “داعش”، ونحن قررنا من البداية أنها حالة لا تنتهي، وشرحنا كيف ذلك واستنادا ايضا لنشوء (القاعدة) بتحالف امريكي عربي سرعان ما انقلبت فيه على المشغّلين واختطت طريقا مغايرا.
إن ما بعد “داعش” بلا شك يحتاج لتركيز الجهد العسكري/الأمني، وهذا تحدث وكتب فيه الكثيرون من المختصين، ولكن هذا لا يكفي إن أهملنا الظروف الاقتصادية والثقافية والنفسية في بلاد المنشأ للظاهرة (العراق وسوريا والخليج والمغرب العربي والغرب ووسط آسيا، وفي افريقيا)، لكل حالته التي يجب أن تشخّص، فلا يتم استخدام الناس كوقود لصراعات لا يعلمون حقيقتها، فهم يظنون-خاصة ذوي الاحلام الماضوية- أنهم على أعتاب الجنة في أحضان حور العين اللواتي لا يعرفن عنهم شيئا.
لا ينفصل الصراع السياسي عن الاقتصادي بتاتا، وكذلك الاجتماعي، فالتغيير في هذا مدخل لذلك، وهنا يقع دور مؤسسات المناصحة كتلك التي تم انشاؤها بكفاءة في السعودية والامارات، وهنا يأتي دور مراكز الابحاث والدراسات في الغرب ولدينا في المشرق، والتي بالتعاون مع المؤسسات الدينية الرسمية يجب أن تُناطح الفكرة المنحرفة، وتمارس التناصح بالقلب والوجدان والعاطفة أيضا.
إن العفريت أو الغول الطائفي أو الماضوي في أي قومية أو ديانة او فكرانية (ايديولوجيا) قابل للتحول لتيار متطرف إرهابي ضد الآخر متى ما قُدست الصورة ودُنست تلك مقابلها، فلا يُصبح عكس البياض الا السواد وتحلل الدماء دون ألوان، وهنا تبرز مدرسة الفسطاطين أو المعسكرين حيث النور والخير والقداسة والحق المطلق والصواب الاوحد في جهة وكل ما عداه حصيد جهنم.
إننا بحاجة لعملية حضارية ثقافية نهضوية عربية واسلامية، وبحاجة للتصدي للأسباب في المحليات، وللحوار فيها كما هو الحوار المطلوب بين دول الاقليم التي مآلها التآكل والتدمير والتفتت في مقابل تعملق الدول الكبرى والاسرائيلي إن ظلت تتساوق معه، وهي تدري أو لا تدري، وقد أعمتها صراعات النفوذ والمطامح الاقليمية، ومن هنا فإن ما بعد “داعش” متوقف على القدرة على فكفكة الالغام أو تركها بلا علاج.
إن التغيير يجب أن يطال الفكرة والبيئة والتعليم والثقافة السائدة ليتحول لخطاب حضاري منفتح متسامح ديمقراطي تعددي سواء رسميا او حزبيا او مؤسساتيا، كما يجب أن يطال المنهج والنظرة للقولى الاقليمية التي بدلا من خوض الصراع تنتشل ذاتها من المستنقع فتواجه العبث القادم من الخارج وبقدمه التي تدوس على رقابنا يوميا في المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى