أقلام وأراء

ماجد كيالي يكتب – حركة فتح في ذكرى انطلاقتها الـ54

ماجد كيالي 31/12/2018

تحتفي حركة “فتح”، التي أرّخت لتأسيسها في 1/1/1965 وهي كبرى المنظمات الفلسطينية، بذكرى انطلاقتها الـ54، في هذه الأيام، وهو عمر مديد بالطبع، بيد أن هذا الاحتفاء، كما جرت العادة، يخلُو من أيّ وقفة مع الذات لمراجعة، ونقد، تلك المسيرة الحافلة، المليئة بالتضحيات والبطولات والإنجازات، لكنها، في الجانب الآخر، مليئة أيضا بالتراجعات والتحوّلات والإخفاقات.

معلوم أن هذه الحركة كانت استطاعت، طوال تاريخها الطويل، ومسيرتها الصعبة، التحكمّ بصياغة التاريخ المعاصر للشعب الفلسطيني، وطبعه بطابعها، فًهي التي استنهضت هويته وعززّت وحدته وشكلّت حركته السياسية وقادت كفاحه ضد إسرائيل، على الرغم من كل ما اعترضها من تحديات ومشكلات وضغوطات في الواقعين العربي والدولي، وعلى رغم تعقيدات الصراع ضد إسرائيل.

بيد أن تلك الحركة التي أسّست للوطنية الفلسطينية المعاصرة، وأطلقت الكفاح المسلح، قبل أكثر من نصف قرن، وقادت مسيرة النضال الفلسطيني، من خلال موقعها القيادي في منظمة التحرير وفي مختلف الكيانات الجمعية الفلسطينية، طوال الفترة السابقة، باتت منذ زمن في مواجهة أزمة كبيرة في البنية والسياسة والقيادة، وبديهي أن تلك الأزمة انعكست على مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، بكياناتها وخطاباتها وعلاقاتها وأشكال عملها.

ربما يمكن اعتبار ذلك أمراً عادياً، فالحركات السياسية، أيضا، مثلها مثل أي ظاهرة، تشيخ وتترهّل وتستنزف، فوق ذلك فهي تستهلك وتتعب وتصبح متقادمة، بأًفكارها وصيغها التنظيمية وأشكال عملها. إلا أن تحديد وضع حركة “فتح”، في هذا الإطار، يبدو أكثر تعقيدا، وصعوبة، بل إنه يضعنا أمام نوع من التناقض، بالنظر إلى أن هذه الحركة تكاد تكون هي ذاتها، من حيث الطبقة القًيادية المسيطرة فيها، أو لجهة محافظتها على إطاراتها، ونمط علاقاتها، وتقاليد عملها، وشعاراتها العامة، بالرغم من كل المتغيرات التي حصلت على صعيد خياراتها السياسية، وتحولها من حركة تحرر وطني إلى سلطة، ومن حركة تعمل في الخارج إلى حركة بات مركز ثقلها في الداخل، وإدارتها لأحوال جزء من شعبها، ناهيك عن التغيّرات الحاصلة في المجتمعات الفلسطينية في الداخل والخارج.

وفي الحقيقة فإن مشكلة هذه الحركة تكمُن في أنها لم تهضم تماما التطورات والتغيّرات والتحوّلات السياسية والمجتمعية الحاصلة في السياسة والمجتمع الفلسطينيين، وفي المنطقة وفي العالم، أو لم تتكيّف معها، باستثناء تحوّلها إلى سلطة على جزء من شعبها، فهي لم تشتغل على تطوير أوضاعها، أو تجديد شبابها، كحركة تحرر وطني، وهذا يشمل حقل الأفكار والسياسات ونمط البني والعلاقات الداخلية وأشكال العمل.

هكذا، فمنذ الخروج من لبنان 1982، وانتهاء العمل المسلح في الخارج، ولا سيما بعد التحوّل إلى سلطة، في إقليم متعيّن في الضفة وغزة 1994، أي منذ ربع قرن، أضحت هذه الحركة تبدو أقرب إلى جماعة غير واضحة المعالم من الناحية التنظيمية، وغير واضحة الهوية من الناحية السياسية، إذ لم تعد ذاتها الحركة التي ألهمت الروح الكفاحية عند الفلسطينيين، ووحدتهم، وصاغت هويتهم الوطنية، بل إنها في السلطة شيء وفي حركة التحرر الوطني شيء آخر.

حتى على الصعيد الوطني العام فإن حركة فتح مسؤولة عن تهميش منظمة التحرير، إلى درجة أنّ المجلس الوطني لم يعقد سوى دورتين عاديتين له في ربع قرن، بعد إقامة السلطة، الأولى في 1996 والثانية في 2018، أي بعد 22 عاما (دورة 2009 عقدت فقط لترميم عضوية اللجنة التنفيذية)، بل إنها من خلال ذلك نقلت مركز الثقل السياسي الفلسطيني من المنظمة إلى السلطة، ما افقد الفلسطينيين مرجعيتهم الكيانية والتمثيلية والكفاحية، واخرج اللاجئين من معادلات الصراع مع إسرائيل، بحصر ولاية القيادة الفلسطينية بفلسطينيي الضفة وغزة، وبالتركيز على هدف الدولة على حساب حق العودة للاجئين.

إضافة إلى ما تقدّم، فقد أضحت هذه الحركة، التي كانت دائمة المبادرة، والتي طالما استمرأت التحايل على التناقضات العربية والإقليمية والدولية، رهينة خيارات سياسية أحادية، كخيار المفاوضة وإقامة سلطة أو دولة في الضفة والقطاع المحتلين، رغم انسداد هذا الخيار، منذ ربع قرن، ولم تعُد قادرة على تجديد شبابها وحيويتها ورؤاها، بل إن مكانتها القيادية والتمثيلية في المجتمع الفلسطيني آلت إلى انحسار، وهو ما ظهر واضحا في الانتخابات التشريعية 2006، في الضفة والقطاع، التي أفضت إلى فوز “حماس”، وصعودها إلى سدّة القيادة والسلطة، وسيطرتها الأحادية على قطاع غزة منذ 2007، وبالتالي انقسام النظام السياسي الفلسطيني.

بديهي أننا عندما نتحدث عن حركة “فتح”، على هذا النحو، لا نقصد التقليل من قيمتها التاريخية والنضالية، ولا من الروح الكفاحية للمنضوين في إطارها، منذ انطلاقها في منتصف ستينات القرن الماضي، وإنما القصد هو تعيين المحصلة التاريخية لدور هذه الحركة، بالشكل الذي أُديرت فيه من قبل قيادتها، أو الطبقة السياسية المتحكمة فيها، لأن كثيرا من الأمور توقفّت على القرارات التي اتخذتها، والخيارات التي انتهجتها، والطريقة التي أدارت بها أوضاعها الداخلية، وصراعها ضد عدوها.

ولعل ما ينبغي لفت الانتباه إليه هنا تحديدا، وبشكل جيد، أن معظم إنجازات هذه الحركة، تحققت في منتصف السبعينات، أي بعد عشرة أعوام من قيامها، فقط، وذلك باستنهاض الشعب الفلسطيني، وتعزيز هويته ووحدته كشعب، وبجلب الاعتراف العربي والدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثّل شرعي وحيد لشعب فلسطين، وككيان سياسي يمثّلهم ويعبّر عنهم، ويقود كفاحهم، بمعنى أن تلك الحركة، ومعها الحركة الوطنية الفلسطينية، لم تُضف شيئا بعد ذلك.

ففي الواقع فإن “فتح”، ومجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، باتت منذ منتصف السبعينات تأكل أو تعيش على الإنجازات المتحققة، بأثمان باهظة من كفاحات ومعاناة شعبها، في الخارج والداخل، إلى حين اندلاع الانتفاضة الأولى (1987ـ1993)، التي أسست لوضع آخر، لم يجر دراسته او استثماره على نحو صحيح، وهو ما أودى إلى اتفاق أوسلو، ثم إقامة السلطة الفلسطينية 1993.

ما يؤكد ذلك، تآكل الإنجازات الفلسطينية، فمقابل نهوض الشعب الفلسطيني، فنحن إزاء إحباط في كافة تجمعات الفلسطينيين، ومقابل وحدة الشعب الفلسطيني، ثمة تفكك مع تهميش الكيان المتمثل بمنظمة التحرير ومع الافتقاد لبرنامج إجماع وطني، ومقابل الاعتراف العربي والدولي، ثمة انحسار في مكانة القضية الفلسطينية. باختصار تأخّر الفلسطينيون في مراجعة أوضاعهم والعالم المحيط بهم، وقصّروا في نقد تجربتهم واستنباط الدروس المناسبة منها، وفتح تتحمّل مسؤولية أساسية عن كل ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى