أقلام وأراء

ماجد كيالي يكتب – تطبيع «حماس» مع المنظومة السياسية الفلسطينية

ماجد كيالي  *- 9/10/2018

لا يمكن اعتبار الخطاب السياسي لحركة «حماس»، الذي يصدر عن قياداتها، وهيئاتها، خارج منظومة المفاهيم والشعارات السائدة في الخطاب السياسي الفصائلي، على رغم بعض التباينات الطفيفة أو المصطلحات المختلفة. وبالمثل فإنه لا يمكن اعتبار تلك الحركة خارج المنظومة السياسية الفلسطينية، ببناها وأشكال عملها وممارساتها، على رغم تمييزها ذاتها، إزاء الفصائل الأخرى، كجزء من تيار «الإسلام السياسي»، أو احتسابها من قبل الفصائل على هذا الأساس، أي النظر إليها كحركة وطنية، وكحركة «إسلامية».

على أي حال فإن مصدر تمايز «حماس» عن غيرها، من الفصائل السائدة، أولاً، أنها انطلقت في العام 1987، أي بعد أكثر من عقدين، من انطلاقة تلك الفصائل، بمعنى إنها حركة جديدة أو شابة وفقاً لهذا المعيار، وإنها أتت في طور أفول الحركة الوطنية الفلسطينية وتيار الكفاح المسلح بعد الخروج من لبنان (1982). ثانياً، أنها نشأت في الداخل ، لا سيما في قطاع غزة، في حين نشأت الفصائل الأخرى في الخارج في بلدان اللجوء أساساً (الأردن ولبنان وسورية). ثالثاً، أن تلك الحركة انطلقت في خلفيتها من منظور ديني، في حين أن الثانية يحكمها المنظور السياسي. رابعاً، أن «حماس» لم تنضو في إطار منظمة التحرير، ولم تخضع لأطرها، ولم ترتهن لمواردها، على خلاف الفصائل الأخرى. وخامساً، أنها الحركة الوحيدة التي بدا أنها تنافس «فتح»، التي قادت العمل الوطني الفلسطيني المعاصر، منذ نصف قرن، معتمدة في تعزيز مكانتها على ممارستها الكفاح المسلح، واستنادها إلى محاور عربية معينة، وحصولها مصادر مالية خارجية خاصة.

بيد أن ذلك التمايز لم يفد بتمييز «حماس» إيجابياً عن غيرها، من الأجسام الفلسطينية الموجودة، بل ربما أضرّ بها، أو حدّ من مكانتها في مجتمعات الفلسطينيين، في الداخل والخارج، وأضعف من قدرتها على منافسة «فتح»، بل إن هذا الوضع عزز من تطبيع «حماس» مع المنظومة السياسية السائدة من مختلف النواحي.

هذا الكلام يأتي بمناسبة تصريحات يحيى السنوار، قائد حركة «حماس» في قطاع غزة (4/9)، في المقابلة التي أجرتها معه الصحافية الإيطالية فرانشيسكا بوري (نشرت في «يديعوت أحرونوت» أيضاً»). ففي تلك المقابلة يمكن ملاحظة مسألتين، أولاهما، أن السنوار تحدث بلغة مختلفة عن واقع الشعب الفلسطيني، ووضعية «حماس» في غزة، بعيداً من اللغة المعروفة، لغة التهديد والوعيد وزلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل، ومعادلة الردع المتبادل، وحرب الصواريخ والطائرات الورقية، وذلك في قوله: «نحن شعب تحت الاحتلال ويمارس عليه العدوان في شكل يومي، وشعبنا يقاوم بأدوات بسيطة، الحرب ليست في مصلحة أحد. وبالتأكيد، ليس في صالح شعبنا، نحن نواجه قوة نووية بمقاليع.»

أما المسألة الثانية، فتتمثّل في محاولته تقديم «حماس» كحركة سياسية براغماتية، تتفهّم المعطيات المحيطة، في لغة بعيدة، أيضاً، عن الخطابات المعتادة التي تتحدث عن التحرير وإزالة إسرائيل، أو دحر الاحتلال من الضفة، في قوله: «واجبي حماية شعبي والدفاع عن حقوقه في الحرية والاستقلال… وقف النار، يعني تحقيق الهدوء ورفع الحصار… إذا رأينا غزة تعود تدريجاً إلى حالتها الطبيعية، إذا لمسنا وجود استثمارات وتنمية وليس فقط مساعدات، لأننا لسنا متسولين، نريد أن نعمل، نريد أن ندرس ونسافر… نريد أن نعيش، وأن نعتمد على أنفسنا، نؤكد أننا سنذلّل كل العقبات التي تقف في طريق نجاح هذه المهمة… التجربة أثبت أننا نحترم التزاماتنا… قمنا… بالتوقيع على وثيقة الوفاق الوطني عام 2006 (وثيقة الأسرى) والتي وضعت برنامجاً وطنياً موحداً، يشمل إقامة دولة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس.»

في هذا الإطار ثمة عدة ملاحظات، أولاها، أن السنوار لم يأت بجديد على صعيد الخطاب السياسي لـ «حماس»، وإن ظهر وكأنه يتحدث من خارج اللغة السائدة في حركته، لأن معظم الجمهور من المتابعين والمهتمين، ومنهم الحمساويين، إما لا يتمعّنون جيداً بخطابات حركة «حماس» وقادتها، أو إنهم غير مبالين بها، أو يعتبرونها مجرد شطارة، وتحايلاً، على الواقع، أي مجرد تكتيك لا أكثر، لتعزيز مكانة الحركة. وفي الحقيقة فإن خطاب السنوار هو ذاته خطاب «حماس»، بيد أن الاستقطابات والمزايدات الفلسطينية تحجب أو تشوش ذلك، فهكذا كان تحدث الشيخ أحمد ياسين، مؤسّس تلك الحركة، وهكذا تحدث مراراً خالد مشعل، الرئيس السابق لمكتبها السياسي، وحتى أن وثيقة «حماس» الجديدة، التي صدرت صيف العام الماضي، نصّت في البند (19)، على: «إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو/ حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها»، وهو ذاته البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير، لأكثر من أربعة عقود، والذي استندت إليه قيادة المنظمة في عقدها اتفاق أوسلو (1993)، المجحف والناقص، علماً أن ذلك البرنامج، في حينه، لم يستبعد الكفاح المسلح، وإقامة سلطة وطنية مقاتلة. أما مشعل فتحدث على هذا النحو، في مقابلة أجرتها مع كريستيان أمانبور (قناة «سي أن أن»، 21/11/2012)، بقوله: «أنا أقبل بدولة على حدود العام 1967، مع حق العودة للاجئين. أريد قيام دولة للفلسطينيين، وبعد قيامها ستقرر (هذه الدولة) موقفها (من إسرائيل)… بسبب ظروف الإقليم، وتوقاً لوقف الدماء، وافق الفلسطينيون، اليوم وفي الماضي، و «حماس»، على برنامج يقبل حدود العام 1967». وعن أشكال النضال المعتمدة، طرح مشعل لأول مرة حينها فكرة التمييز بين الإسرائيليين، بقوله: «المقاومة لا تستهدف المدنيين. أنا قائد «حماس» أقول عبر CNN: إننا على استعداد لسلوك سبل سلمية من دون سفك دماء أو استخدام أسلحة إذا حصلنا على مطالبنا الوطنية»، وهي أقوال أكد عليها في تصريحاته إبان الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة في العام 2014. (مراجعات خالد مشعل، «الحياة» 10/6/2014).

على ذلك ثمة أسئلة، من مثل، ألم يكن الوضع قبل هيمنة «حماس» على غزة على هذا النحو، أي هدوء واستثمارات وتنمية واحتمال مطار وميناء؟ فما الذي اختلف سوى أن سلطة «حماس» أضحت محل سلطة «فتح»؟ أيضاً ما هي رؤية «حماس» لكيفية قيام الدولة المذكورة في الضفة والقطاع المحتلين (1967)؟ أليست عن طريق المفاوضة؟ أم ثمة طريق آخر؟ وإذا كانت عن طريق المفاوضة، وهو ما يحصل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ألا يعني ذلك الخضوع لمساومات ومقايضات، وتالياً لأثمان سياسية معينة، حتى لو كان التعبير هدوء مقابل هدوء؟ ثم ألا يعني ذلك أن التاريخ يعيد نفسه، وأن هذه التصريحات عن التكيف مع الوضع العربي والدولي، هي بمثابة متابعة لمسيرة «فتح»، وإن بمصطلحات أخرى، التي وصلت إلى هذا الجدار، قبل ربع قرن، ما يعني أن «حماس» وصلت حيث انتهت «فتح».

الملاحظة الثانية، وهي تفيد بالتذكير أن السنوار ذاته، صاحب تلك التصريحات، التي اتّسمت بالعقلانية، كان أدلى بتصريحات مختلفة، وصارخة، قبل أسابيع (غزة، 29/8)، إذ قال: «الحصار على القطاع سيكسر قريباً… سنقلب مرجل الجمر في وجهه (الاحتلال) وستدوّي صفارات الإنذار في غوش دان (تل أبيب ومحيطها)، في حال فشلت جهود التهدئة وشن عدواناً جديداً على غزة… في حال «دفعونا إلى الحرب، فقوتنا أصبحت عشرات أضعاف عام 2014، موجات من الصواريخ، وما ضرب طيلة أيام عدوان 2014، على (تل أبيب) سيضرب في 5 دقائق، وسيتكرّر هذا الأمر مرات ومرات». («فلسطين اليوم»، 30/8) هكذا نحن إزاء تصريحات متناقضة لذات الرجل في فترة قصيرة جداً، كما ثمة تصريحات متناقضة لـ «حماس» ذاتها، ما يعني أننا إزاء مشكلة، سواء مع «حماس»، أو مع العقليات الفصائلية، بمختلف توجهاتها، التي تعتمد على الإنشاءات العاطفية الاستهلاكية، والروح القدرية، وطغيان نزعة التضحية عند بالفلسطينيين، والافتقاد إلى تقاليد المراجعة، كما لاستراتيجية سياسية أو عسكرية، مع تقديس العمل المسلح، وعدم إخضاعه للمساءلة والنقد ودراسات الجدوى، وتالياً عدم خضوع الفصائل الفلسطينية لتقاليد المحاسبة.

الملاحظة الثالثة، أن «حماس» في كل ما تقدم طبّعت مع السياسة الفلسطينية، من مختلف النواحي، لذا ليس صحيحاً القول بخطابين، واحد للشعب لنيل الشرعية وإثبات الصدقية، وآخر للغرب، للترويج ونيل الاعتراف، فلم يعد العالم يتقبل ذلك. وربما أن تفسير أن «حماس»، كغيرها من الفصائل، لديها قناعات مبطنة وخطابات معلنة، وأن خطابي السنوار، المتناقضان، يندرجان في ذلك، فالقناعات المبطنة مبنية على حسابات عقلانية واقعية، تختلف أو تتناقض مع الخطابات المعلنة، التي تتوخى الشعبية والمزايدة، في إطار المنافسات الفصائلية. لذا مصلحة «حماس» الآن، تأكيد ذاتها كجهة أو كسلطة قابلة للتكيّف والتطبيع مع المتطلبات الدولية والإقليمية، وكجهة مسؤولة ومرنة، مهيئة للتعاطي مع أي جديد، في شأن مستقبل غزة، في هذا الأوضاع الفلسطينية والعربية والإقليمية المضطربة.

قصارى القول، لم يعد للفصائل، وضمنها «حماس»، براءتها الأولى، ولا مبادئها التي انطلقت من أجلها، والمسألة لا تتعلق بعقلانية، أو بتطور في الفكر السياسي، بناء على التجربة والثقافة والمسؤولية الوطنية، للأسف، بقدر ما تتعلق بتحولات اضطرارية، وبتكيّف مع الواقع والمحيط، وضمن ذلك استمراء التحول إلى سلطة، في الضفة كما في غزة، فالسلطة تبرر ذاتها بذاتها، وفي كل ذلك فقد وصلت «حماس» إلى حيث سبقتها «فتح»، بغض النظر عن المصطلحات والتبريرات، فالنظام السياسي الفلسطيني، لشعب ضعيف وممزق، ليس معزولاً عن العالم وعن إكراهاته أو متطلبات التطبيع معه.

* عن الحياة اللندنية – كاتب فلسطيني

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى