أقلام وأراء
ماجد كيالي: في تعريف مكانة غزة في العملية الوطنية الفلسطينية
ماجد كيالي 13-5-2023: في تعريف مكانة غزة في العملية الوطنية الفلسطينية
روّجت الحروب التي شهدتها غزة، منذ هيمنة حركة “حماس” عليها (2007)، مع حيازتها قوة صاروخية، لانطباعين خاطئين ومضرّين، أولهما، التصوير أن حركة “حماس”، مع باقي الفصائل (بخاصة حركة الجهاد الإسلامي)، باتت بمثابة جيش مسلح وقوي، يوازي الجيش الإسرائيلي، أو يشكل تحدياً له. والثاني، أن قطاع غزة بإمكانه التحول إلى منطقة، او قاعدة عسكرية لتحرير فلسطين، أو لكسر إسرائيل.
في الواقع فإن النزعة الأولى، عاطفية ورغبوية وغير صحيحة، بل ومضللة، ولا تسهم في تكوين وعي مناسب لواقع القدرات الفلسطينية ومحدوديتها، أو في تكوين صورة صحيحة عن قدرات العدو. أما النزعة الثانية، فهي تحمّل قطاع غزة الذي يقطن فيه مليونا فلسطيني، في 1,3 في المئة من مساحة فلسطين، أو 6 في المئة من مساحة الدولة الفلسطينية المفترضة، عبء التحرير، وهزيمة إسرائيل؛ علماً أن هذه القطاع محاصر ويفتقد إلى الموارد، ويعتمد في امدادات الكهرباء والمياه والطاقة والمواد الصيدلانية على الدولة الإسرائيلية.
أيضاً، فإن هاتين النزعتين “الاحتفائيتين” تفضيان بدوريهما إلى اشاعة وهم بنوع من التكافؤ بين إسرائيل والفلسطينيين، ما يترتب عليه حجب صورتهم كضحايا، وكمستضعفين، وكمستعمَرين، بالتالي حجب صورة إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية وعدوانية.
بديهي إن رواج انطباعات كهذه هو نتاج تلهّف الفلسطينيين، والعالم العربي، لأي انتصار على إسرائيل، ونتاج التعطّش لأي ضربة توجه لها، بيد أن انطباعات كهذه قد تفيد في تقوية المعنويات وبث روح الصمود والمقاومة، لكن في ما يخص استراتيجيات الصراع ضد عدو كإسرائيل لا تكفي، إذ إنها لا تؤثر في معادلات موازين القوى والخطط العسكرية، بدليل ضعف قدرة الفلسطينيين على استثمار تضحياتهم وبطولاتهم طوال 58 عاماً من عمر حركتهم الوطنية، مع الانتفاضتين الأولى (1987 ـ 1993) والثانية (2000 ـ 2004)، ومع كل الحروب التي شهدتها غزة.
بل لعل من المفيد هنا لفت الانتباه إلى أن إسرائيل، مع تميّزها بترسانة عسكرية متفوقة، تمكّنها من مواجهة عدة جيوش عربية، فهي تتمتع أيضاً بميزات عدة تشكل قيمة مضافة لها، الأولى، ضمانة الولايات المتحدة، والغرب لأمنها ووجودها، والثانية، احتكارها التسلح النووي في المنطقة، ما يجعلها تهدد بما يسمى “الخيار شمشون”، أو “خيار يوم الدين”، في حال استشعارها بتهديد وجودي، والثالثة، قدرتها على إدارة مواردها بطريقة مثمرة وناجعة، عكس الفلسطينيين، تضاف إلى ذلك قوتها الاقتصادية والتكنولوجية، إذ لا يمكن عقد مقارنة البتة، بين امكاناتها وقدرتها على التحمل، وبين الفلسطينيين.
على ذلك، فإن المقاومة الفلسطينية يمكن أن تؤلم إسرائيل، وأن تزيد كلفة وجودها، وأن تزعزع استقرارها، علماً أن ذلك يتطلب أثماناً باهظة يدفعها الشعب الفلسطيني، لكن شرطها توافر بيئة عربية ودولية مناسبة، أو حاضنة للفلسطينيين، وهي غير متوافرة راهناً. أما الحديث عن هزيمة تاريخية لإسرائيل، كلية، أو جزئية، على ما تروج بعض الفصائل فذلك يحتاج إلى عوامل أخرى، أهمها، تغير البيئتين الدولية والعربية لمصلحة الفلسطينيين، وتخليق جبهة عريضة من الإسرائيليين المعادين للصهيونية، ومن الذين يتعاطفون مع كفاح الفلسطينيين، وهذا ما يجب إدراكه أو تمييزه بدل الاستكانة للحماسة والعواطف والرغبات.
في متابعة حروب غزة، وخطابات الفصائل، لا سيما المسلحة، تمكن ملاحظة قصور الوعي بشأن مغزى الانسحاب الأحادي الإسرائيلي من قطاع غزة، فهذا الانسحاب لم يأت بنتيجة عمليات المقاومة المسلحة وفقط، على أهميتها، بدلالة أن الخسائر البشرية الإسرائيلية في غزة، منذ احتلالها إلى حين الانسحاب منها (1967 ـ 2005) بلغت 230 إسرائيلياً، فقط، ضمنهم 124 إسرائيلياً قتلوا خلال مواجهات السنوات الخمس من الانتفاضة الثانية، في حين قتل 29 إسرائيلياً خلال الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993). (هآرتس 23/8/2005).
المعنى من ذلك أن الخسائر الإسرائيلية البشرية ليست هي لوحدها التي حفزت على انسحاب إسرائيل من هذا القطاع، مع كل التقدير لتضحيات الفلسطينيين ونضالاتهم في غزة، إذ إن مقتل 230 إسرائيلياً في القطاع، خلال ما يقارب أربعة عقود من الزمن لا يشكل ثمناً أو دافعاً معقولاً لوحده للانسحاب. ثم إذا كان الأمر يحتسب بالخسائر البشرية، وبعمليات المقاومة الفلسطينية المسلحة لكان الأولى بالنسبة الى إسرائيل الانسحاب من الضفة، التي خسرت فيها نحو 900 من الإسرائيليين خلال سنوات الانتفاضة الخمس.
على ذلك، فإن انسحاب إسرائيل من غزة أتى للتحرر من السيطرة على مليوني فلسطيني، وفق مخطط استراتيجي لإسرائيل، يستهدف إفقاد حركة التحرر الفلسطينية جدواها، وإفراغ القضية الفلسطينية من مضامينها السياسية، والتحرر من ما يسمى الخطر الديمغرافي الفلسطيني، والتخلص من تبعات الاحتلال السياسية والمادية والأمنية والأخلاقية، وتحسين صورتها على الصعيد الخارجي، ونقل الأزمة إلى الطرف الفلسطيني، وهو ما حصل فعلاً، بقيام كيانين سياسيين لهم، واحد في الضفة بقيادة “فتح”، والثاني في غزة بقيادة “حماس”، ما يعني تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مجرد سلطة ذاتية، أو كسلطة على شعبها.
عموماً، فإن مجمل هذه المعطيات تثير مسألة ملحة تتعلق بتحديد مكانة القطاع في العملية الوطنية، والذي تم السكوت عنه من الفصائل الفلسطينية، منذ انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، ما يفضي إلى أسئلة من نوع: هل قطاع غزة ما زال تحت الاحتلال؟ أم بات منطقة محررة؟ وهل يمكن تحويل غزة إلى قاعدة لمصارعة إسرائيل بالصواريخ وغيرها وتحميلها عبء التحرير؟ أم الأجدى تحويلها إلى نموذج لمنطقة محررة، يستطيع الفلسطينيون فيها تنمية أوضاعهم كمجتمع، في التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة؟
في كل الأحوال، لا ينبغي تحميل فلسطينيي غزة أكثر مما يحتملونه، فهم يعيشون في سجن كبير، ويكابدون الضيم والحصار المشدد. فقد نجمت عن الحروب الأربع السابقة (2008، 2012، 2014، 2021) خسارة بشرية بأكثر من أربعة آلاف شهيد، وعشرات ألوف الجرحى، وهدم ألوف البيوت، وحتى اليوم فإن المواجهات الراهنة نجم عنها 30 شهيداً، في ثلاثة أيام فقط، ولا أحد يعرف متى سيتوقف هذا النزيف… ولنأمل الخير والسلام لغزة وأهلها.