أقلام وأراء
ماجد كيالي: فلسطينيّو غزّة بين هدنة موقّتة وحرب دائمة
ماجد كيالي 26-11-2023: فلسطينيّو غزّة بين هدنة موقّتة وحرب دائمة
بعد 47 يوماً من حرب إسرائيل الوحشية التي لم تتوقف فيها عن القصف المدمّر ساعة واحدة، على كل مدن قطاع غزة ومخيماته، تم التوصل إلى نوع من هدنة، أو تهدئة، موقتة، في مسمى غريب، وثقيل، ومأسوي، إذ إن تلك التسمية، تحت غطاء الإنسانية، تبدو كتشريع، أو كتسليم لإسرائيل، من الوسطاء والأطراف الدوليين المعنيين، في حربها العدوانية والفاشية التي تشنها على أكثر من مليونين من الفلسطينيين، المحشورين في ذلك الشريط الضيق في الزاوية الجنوبية لفلسطين.
إلى ذلك، فإن هذه الفترة لالتقاط الأنفاس، إن حصلت حقاً، وهو أمر مشكوك فيه لأسباب إسرائيلية عديدة، أهمها التوحش الإسرائيلي، أتت بفضل ضغوط عديدة، تمثل أهمها في الآتي: أولاً، عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ المهمة التي كُلّف بها، تحت غطاء دولي، رغم طول الفترة، وآلاف أطنان القنابل التي ألقيت على غزة، ورغم تشريد أكثر من مليون فلسطيني، وتدمير نصف عمران غزة وبيوتها. ثانياً، استمرار قدرة “كتائب القسام” على مواصلة المعركة، إن بالاشتباك المباشر مع جنود الاحتلال، كما بانتظام عمليات قصفها مدناً إسرائيلية. ثالثاً، تهدئة خواطر عائلات الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين في غزة، بعدما تزايدت الحراكات الداخلية لدفع حكومة نتنياهو لإيلاء قضيتهم أولوية على استمرار القتال حفاظاً على حياتهم. رابعاً، الاستجابة لطلبات الحكومات الحليفة، لا سيما في أوروبا والولايات المتحدة، التي تتوخى من وراء تلك التهدئة الاستمرار في إضفاء شرعية على حرب إسرائيل في غزة، بعدما باتت تتآكل، بسبب انتهاكها للقانون الدولي في انتهاجها سياسة العقاب الجماعي، والأرض المحروقة، واستهداف المدنيين، وقطع المياه والكهرباء والغذاء والدواء، بدعوى حقها في الدفاع عن النفس، وأيضاً للاستجابة لمطالبات الرأي العام، في بلدانها، الذي بات يلح على حكوماته للتحرك لوضع حد لهذه الحرب التي تبين أنها تستهدف الأطفال، والمشافي والمدارس والجوامع وأماكن الإيواء. خامساً، ضعف موقف إسرائيل بعد انكشاف زيف ادعاءاتها، بخاصة مع فضيحة اقتحامها مشفى الشفاء التي بيّنت للعالم أنه ليس فيها أي نفق عسكري، لدرجة أن إيهود باراك، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، فضح تلك الأكذوبة. هذا إضافة إلى الفضيحة الأخرى الكبيرة التي كشفت عنها صحيفة “هآرتس”، والتي كشفت أن طائرة عسكرية إسرائيلية هي التي قصفت الحفل الفني، في منطقة غلاف غزة، يوم السابع من تشرين الأول، فأودت بحياة مئات المشاركين فيه من الشبان المراهقين، لا مقاتلو “حماس”، وذلك بسبب الاضطراب الذي حل بالجيش الإسرائيلي، ومنظومة الاستخبارات فيه، بعد هجوم “حماس” في ذلك اليوم.
إذاً، تأتي تلك الهدنة، ولنأمل أن تحصل، في واقع يعيش فيه فلسطينيو غزة في مواجهة حرب دائمة تشنها إسرائيل عليه، منذ 15 عاماً، لذا فإن الهدنة، التهدئة، أو خفض الصراع، ليست فريدة من نوعها، إذ خبرها فلسطينيو غزة، مراراً، منذ انسحاب إسرائيل الأحادي من ذلك القطاع (2005)، بعدما كان قادتها يتمنون أن يصحوا ويجدوا غزة وقد غرقت في البحر، إذ منذ ذلك الحين شنت إسرائيل حروباً متواصلة على غزة، في الأعوام 2008، و2012، و2014، و2018، و2021، وهو ما حدث أخيراً أيضاً، في حرب لا أحد يعرف متى ستنتهي.
يمكن التأريخ لحرب إسرائيل على قطاع غزة منذ ذلك الانسحاب، عبر فرضها الحصار المشدد عليه، وتحويله إلى سجن كبير، أو أكبر سجن مفتوح في العالم، بحسب تعبير للكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي الذي يرى أن إسرائيل هي الاحتلال الوحيد في العالم الذي يقدم نفسه كضحية، بل وكالضحية الوحيدة، وأنه الاحتلال الوحيد الذي يطالب الذين يحتلهم بضمان أمنه.
تلك الهدنة، أيضاً، أتت بالضد من سردية حكومة إسرائيل المتغطرسة برفض التفاوض مع “حماس”، لوصمها بالإرهاب، لتفضح رياء إسرائيل بمحاولتها فرض سرديتها للتاريخ، كأن الصراع مع الفلسطينيين بدأ بيوم هجوم تلك الحركة، علماً أنها المرة الأولى من نوعها، ربما، في تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ناهيك بأن تلك السردية تحاول تقديم إسرائيل كضحية، فيما تحجب حقيقتها، كدولة استعمارية وعنصرية واستيطانية وعدوانية إزاء الفلسطينيين، إضافة إلى تملصها من كل مشاريع التسوية التي وقعتها مع قيادتهم.
تبعاً لكل ما تقدم، فإنه لا يمكن التعاطي مع تلك الهدنة، أو التهدئة، أو أي كان، جدياً، ولا أحد يعرف كيف تم ابتداعها، إذ بالكاد تكفي لالتقاط الأنفاس، أو لتمكين إسرائيل من تلقيم المدافع، إذ إن الحديث يتعلق بمليونين من الفلسطينيين، افتقدوا كل أساسيات الحياة، من ماء وغذاء وكهرباء ودواء ومأوى، في منطقة فقيرة بالموارد أصلاً، وقد تعمدت إسرائيل تحويلها إلى مكان غير صالح للعيش، بعدما تسببت بضياع حياة 50 ألفاً من الفلسطينيين، بين قتيل وجريح ومفقود؛ هذا عدا حصرها القضية بمبادلة أسرى ومحتجزين، وتقديم مساعدات إنسانية، بدل أن تكون القضية وقف الحرب الهمجية، نهائياً، وتمكين فلسطينيي غزة من العيش، وضمان أمنهم واستقرارهم وحقوقهم.
في كل الأحوال، مع هدنة، أو تهدئة موقتة، أو من دون ذلك، فإن إسرائيل تبيّت لاستمرار هجمتها الوحشية على فلسطينيي غزة، مستمدة الدعم من الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة، باعتبار الظرف الراهن بمثابة فرصة سانحة لها لتغيير معادلات الصراع مع الفلسطينيين، بدءاً من قطاع غزة، عبر تغيير الواقع الديموغرافي والسياسي فيه، بمحاولة اقتلاع مئات ألوف الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم، ودفعهم للجوء، وفك ارتباطه بالضفة الغربية، أو خلق معطيات تغير من شكل التعاطي مع الكيان السياسي للفلسطينيين في الضفة وغزة.
أما حساب صفقة الإفراج عن أسرى، فهو يختلف تماماً عن صفقات التبادل السابقة مع إسرائيل، فهذه المرة الثمن باهظ جداً، وهو ليس الإفراج عن 150 أسيراً فلسطينياً مقابل 50 إسرائيلياً فقط، إذ الثمن هو 50 ألف ضحية من الفلسطينيين (قتلى وجرحى ومفقودين) وتشريد مليون منهم، وكل ذلك الدمار الذي ألحقته الآلة العسكرية الإسرائيلية في غزة، مع الآلام والأهوال غير المسبوقة التي عاشها وعاناها فلسطينيو غزة، علماً أن إسرائيل اعتقلت إبان الحرب عدة الوف من الفلسطينيين، ثلاثة ألوف منهم في الضفة، وهؤلاء أضيفوا إلى الأسرى السابقين (حوالي 5000) في السجون الإسرائيلية، فقط الانكسار الوحيد لإسرائيل في تلك الصفقة انها لم تستطع تحرير أسير او محتجز إسرائيلي واحد بواسطة القوة.
كل المعطيات تفيد بأن ما بعد حرب غزة ليس كما قبلها، على الصعيد الفلسطيني، وعلى صعيد شكل العلاقات الصراعية بين إسرائيل والفلسطينيين، لكن الآن لنأمل أن تتحقق تلك الهدنة، ولنأمل أكثر انتهاء هذه المحنة نهائياً في أقرب وقت.