ماجد كيالي: الفلسطينيون يحاولون استعادة روح انتفاضتهم الأولى
بقلم: ماجد كيالي 8/4/2018
استطاعت التظاهرات الشعبية على الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل، في ذكرى يوم الأرض (30/3)، وما بعده، تحريك الشارع الفلسطيني، ولفت الأنظار إلى حيوية قضية الفلسطينيين، التي تكاد تختفي عن جدول الأعمال العربي والدولي، والتأثير في الرأي العام الإسرائيلي، الذي عبرت قطاعات منه، بواسطة التظاهرات، عن استهجانها ورفضها قتل المتظاهرين السلميين بالرصاص، ما يذكّر بتظاهرات مماثلة سابقة، وضمنها تظاهرة الـ 400 ألف الذين خرجوا ضد غزو جيشهم للبنان (1982)، بدعوة من حركة «السلام الآن».
بيد أن هذا التحرك، الذي كان وليد فكرة ومبادرة تولدت لدى مجموعة من النشطاء الشباب، يتوخّون استعادة روح الانتفاضة الشعبية الأولى، وجه رسالتين، أولاهما إلى العالم بأن الفلسطينيين لا ينسون قضيتهم وحقوقهم. وثانيتهما، إلى الفصائل الفلسطينية المهيمنة، والتي باتت بمثابة سلطة احتلال، ومفادها أن الجيل الجديد من الشباب الفلسطيني بإمكانه أن يشق طريقه بنفسه، بعد أن ثبت انسداد الخيارات القديمة، سواء المتمثلة في المفاوضة، أو بالعمل المسلح.
من الواضح هنا أن المبادرين الشباب انحازوا، كما تظهر مداخلاتهم وتعليقاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أشكال الكفاح الشعبية، كما مثلتها الانتفاضة الأولى (1987ـ1993)، باعتبارها الشكل الأكثر تناسباً مع إمكانات الشعب الفلسطيني، وقدرته على التحمل، والأكثر تحريكاً للرأي العام الدولي والعربي وحتى الإسرائيلي، وكونها الشكل الذي يحيّد إلى حد كبير القوة العاتية للجيش الإسرائيلي، ويجنّب الفلسطينيين أثماناً باهظة، ليس لديهم القدرة على استثمارها سياسياً، لا سيما في المعطيات الدولية والعربية الراهنة.
طبعاً لا حاجة هنا لتأكيد أن الكفاح السلمي، أو الشعبي، لا يحرر فلسطين، وحده، على ما يدعي مريدو الفصائل، في ردهم على نشطاء الحراك الشعبي في غزة، لكن هذا يطرح على الفصائل ذاتها السؤال عن الأراضي التي حررها الكفاح المسلح، في واقع يمتد على سبعة عقود، ظلت فيه إسرائيل مطلقة القوة في مواجهة ضعف الفلسطينيين، وفي وضع دولي وعربي لا يسمح بتمكينهم حتى من استثمار تضحياتهم، ولا على أي صعيد، هذا أولاً.
ثانياً، لعل أهم ما ينبغي أن تدركه الفصائل أن الكفاح ضد إسرائيل في الظروف الفلسطينية الخاصة لا يقتصر على مصارعتها فقط، إذ هو يشمل، أيضاً، بناء المجتمع الممزّق والمشتت، وتعبئة طاقاته وتطوير كياناته السياسية والمجتمعية وتنمية موارده البشرية واستثمارها بأفضل ما يمكن، وهذا بدوره أمر لم تفلح فيه القيادات التي تصدّت للعمل الوطني منذ أكثر من نصف قرن. وعلى الأقل، فإن الكفاح الشعبي السلمي يضمن ذلك، ويكفل عدم هدر أرواح الشباب، وتحييد الآلة العسكرية للعدو ما أمكن، كما يضمن تقوية مجتمع الفلسطينيين، الذي هو الأساس لأي عملية وطنية ونضالية في المستقبل.
على أية حال، وكما جرت العادة، فإن القوى المهيمنة لم تترك الحراك الشبابي ـ الشعبي يتحرك وفقاً لمداركه ومفاهيمه، تماماً كما حصل في الانتفاضة الأولى، حيث عملت القيادة الفلسطينية في الخارج بمداخلاتها على فرض رأيها آنذاك، والحؤول دون بروز قيادة في الداخل، وهو ما توّج، بعد الانتفاضة، بإزاحة الوفد التفاوضي إلى المفاوضات المنبثقة من مؤتمر مدريد للسلام (1991)، برئاسة حيدر عبد الشافي، والذهاب إلى مفاوضات أوسلو (1993)، بقيادة وفد من منظمة التحرير، ما نجم عنه دفع السلطة ثمن تأجيل البت بمصير المستوطنات والقدس واللاجئين والحدود، من دون معرفة ماهية الحل الانتقالي، وهو ما يدفع ثمنه غالياً الفلسطينيون حتى الآن.
وكانت تكررت هذه المسألة في الانتفاضة الثانية، التي انطلقت كانتفاضة شعبية، على نمط الانتفاضة الأولى، وإذا بمداخلات الفصائل، لا سيما «فتح» و «حماس»، تحولها إلى مواجهات، مسلحة، لا سيما بانتهاجهما نمط العمليات التفجيرية، التي سهلت على إسرائيل إعادة احتلال مدن الضفة، وزعزعة كيان السلطة، وفرض الحصار على غزة، وإقامة السور الفاصل، وتقطيع أوصال الضفة، وتعزيز عزل القدس عن محيطها.
الجدير ذكره أن مسيرة العودة في غزة أعادت التذكير بتجربة أخرى مريرة تتمثل في مسيرة العودة في الجولان (حزيران/يونيو 2001)، التي أهدرت فيها حياة 26 شاباً فلسطينياً، وجرح المئات، من دون تحقيق أي انجاز. ففي ذلك الوقت، أي في ذكرى هزيمة الخامس من حزيران (2011) سهل وشجّع النظام السوري، والفصائل التي تدور في فلكه، على تكرار مسيرة العودة السابقة (15 ايار 2011)، واستدرج لذلك بعض الشباب الوطنيين المتحمسين، لأغراض استغلال قضية فلسطين، وصرف الأنظار عما يجرى في الداخل السوري. وقد تمخض ذلك في حينه عن مذبحة، لأن اسرائيل كانت احتاطت لإجهاض هذه الحركة، وفق تجربة المسيرة السابقة.
والمشكلة أن ذلك حصل في غزة ايضاً، إذ قضى ضحية المسيرة 18 شاباً، وجرح المئات، بسبب توحّش إسرائيل، ولأن العقليات الفصائلية، وعقليات الاستثمار السياسي الضيق ذاتها اشتغلت للتأثير في هذا الحراك.
هكذا، ومع التقدير لروح المبادرة والتحدي عند منظمي الحراك في غزة، كان يجدر بهم ملاحظة أن هذا الحراك سيبقى مقيداً، ومحدوداً. فهذا الحراك، مثلاً، اقتصر على غزة، كما حصل في ظل وضع فلسطيني رث، يتمثل في الانقسام، وفي شعور فلسطيني عام بالإحباط، وثمة توظيفات سلطة «حماس» في غزة، إذ كان الأفضل لو ظل هذا الحراك شعبياً، وتركه كي يتطور بفضل دينامياته الذاتية.
كذلك تم هذا الحراك في ظل انهيار المشرق العربي، من العراق إلى سورية، بمعنى أنه حصل في ظل وضع تعتبر إسرائيل نفسها فيه الدولة الأقوى والأكثر استقراراً في المشرق العربي، ناهيك بالدعم المطلق لها من الإدارة الأميركية الحالية، الأمر الذي ينبغي إدراكه والتحوط له، لا سيما بعد الدخول في مغامرات غير محسوبة ومدروسة أو لا يوجد قدرة على تحملها أو استثمارها.
وقد كان الأجدى للناشطين الفاعلين في هذا الحراك مراقبة رد الفعل الإسرائيلي لحظة بلحظة، والتأكد من قدرتهم على السيطرة، وضمن ذلك تجنيب الشباب المتحمس المغامرة، غير المحسوبة، لأن اسرائيل سترد بكل الوسائل، وهذا ما ينبغي الانتباه اليه.
أخيراً، تظل ثمة مشكلة للفلسطينيين مفادها أنهم في غمرة تقديسهم العمل المسلح، بعفويته وتجريبيته، وافتقادهم لإمكانياته، أهملوا أشكال النضال الأخرى، الشعبية والسلمية، حتى أنهم نسوا الانتفاضة الأولى التي شكلت معلماً مهماً في كفاح الفلسطينيين المعاصر، ولعل الحراك الشعبي في غزة محاولة في تدارك هذا الأمر باستعادة روح الانتفاضة الأولى.