أقلام وأراء
ماجد كيالي: التقديرات الخاطئة للحسابات الروسية في الحرب الأوكرانية
ماجد كيالي: التقديرات الخاطئة للحسابات الروسية في الحرب الأوكرانية 22-10-2022
لم يشكّل غزو روسيا لأوكرانيا مفاجأة للعالم، إذ كان ذلك واضحاً في العديد من المعطيات والممهدات، لكن المفاجأة الكاملة تقريباً تمثلت بحجم التقديرات الخاطئة، أو الأوهام الخطيرة، التي عشعشت في أذهان صانعي القرار في روسيا، لا سيما الرئيس فلاديمير بوتين، باعتباره صانع القرار الوحيد، أو الأساسي في ذلك البلد.
مثلاً، بدل أن تنتهي تلك الحرب، أو الغزو، في أوكرانيا خلال أيام معدودة، فإذا بها تستمر لأشهر (هي تكاد تختم الشهر الثامن الآن)، ولا أحد يعرف متى ستضع أوزارها، أو إلى ماذا ستنتهي. وبدل أن تؤدي إلى انهيار النظام السياسي في أوكرانيا، وإخضاع الأوكرانيين، بحسب توقعات سيد الكرملين، فإذا بهذا النظام متمثلاً برئيسه يغدو كملهم لصمود الشعب الأوكراني، ومقاومته للغزو، وكعنوان له لدى معظم الأطراف الدولية، بل يمكن القول إن تلك الحرب أدت إلى فتح صفحة جديدة في تاريخ الشعب الأوكراني، وفي صوغ هويته القومية المستقلة عن روسيا.
وعلى الصعيد الدولي، بدل أن تؤدي تلك الحرب إلى إبعاد حلف “الناتو” عن روسيا إذ بهذا الحلف يغدو أكثر قرباً لها من ذي قبل بما لا يقاس، وبدل أن تؤدي إلى تعزيز علاقة روسيا مع أوروبا، وفك علاقة تلك القارة بالولايات المتحدة، وتالياً بحلف “الناتو”، إذا بها بتداعياتها تشتغل بعكس ذلك، أي تؤدي إلى نهوض وتوحّد أوروبا ضد الغزو الروسي، باعتباره يشكل تهديداً لها ولقيمها ونمط عيشها، وإلى تعزيز علاقاتها بالولايات المتحدة، كما إلى دفعها للتحول نحو زيادة موازناتها العسكرية، للدفاع عن نفسها، مع تعزيز وجودها في الحلف المذكور.
فوق كل ذلك فإن تعثّر العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا أدى إلى تضعضع صورة روسيا كدولة قوية، وتزعزع مكانتها الدولية، بعدما كان الرئيس الروسي يطمح، من مدخل تلك الحرب، إلى فرض بلده كقطب أو كقوة عظمى، إذ بدا السلاح الروسي غير كفؤ، وأقل فاعلية، حتى مقابل مستوى متوسط من السلاح الغربي الذي قدم لأوكرانيا، كما بدت التكنولوجيا الروسية أقل قدرة مما أتاحته الأقمار الاصطناعية الأميركية (إيلون ماسك مثلاً) لأوكرانيا.
وفي كل الحالات، فإن هذا الغزو في مساراته المتعثرة أدى إلى عزل روسيا، كما شهدنا في تصويت 141 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ هناك فقط أربع دول صوتت إلى جانب روسيا هي سوريا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وإريتريا، في حين حتى الصين وإيران امتنعتا عن التصويت، بل إن وقائع “قمة شنغهاي للتعاون” (سمرقند في أيلول/سبتمبر الماضي) كشفت عن ابتعاد موقف الصين والهند عن روسيا، في تعبير الرئيس الصيني عن قلقه مما يجري، وفي كلام الرئيس الهندي الذي خاطب به نظيره الروسي، أن هذا ليس زمن الحروب.
عدا عن كل تلك التقديرات والتوهمات التي ثبت وهنها، فإن مشكلة روسيا تكمن في أنها أكبر وأغنى دولة في العالم بمساحتها وثرواتها الباطنية، الا أنها ليست بين الدول العشر الأقوى اقتصادياً في العالم (إيطاليا وكوريا الجنوبية أقوى منها)، وهي ليست بين الدول العشر الأقوى بالتصدير (هولندا تفوقها)، وأغلب صادراتها من النفط والغاز والفحم الحجري والأسمدة والقمح والسلاح، أي لا طائرات ولا سيارات ولا كومبيوترات ولا تلفزيونات ولا غسالات ولا برادات، ولا سلع استهلاكية عادية؛ فما تنتجه من كل ذلك لا يضاهي البتة الصناعات الكورية الجنوبية والإيطالية والفرنسية والبريطانية والألمانية واليابانية والأميركية.
على ذلك فإن مشكلة روسيا الأساسية إنها لا تدرك حدود قدراتها، وفقاً للمعطيات الآتية:
أولاً: تظن روسيا أن قوتها العسكرية، ومساحتها الشاسعة (17 مليون كلم مربع)، وغنى ثرواتها المعدنية، تتيح لها أن تفرض ذاتها كقوة عظمى، أو كقطب دولي، وأن تفرض على الآخرين احترامها وفقاً لذلك بعضلاتها، التي جربتها في سوريا (لم يكن ثمة أحد يقف في وجهها)، لكن تلك العضلات لم تثبت في التجربة أو في المغامرة الأوكرانية، على نحو ما شهدنا في الأشهر الثمانية الماضية.
ثانياً: تأخرها في مجال العلوم والتكنولوجيا وفي إدارة مواردها البشرية وبالطبع في نظامها السياسي، الذي يفتقد للديموقراطية، والتعددية الحزبية، وحقوق المواطنة، وتلك هي الفجوة الأساسية بينها وبين الدول الرأسمالية الأخرى. هكذا فإن الأوكران استطاعوا تبديد هجماتها وقوتها العسكرية، بفضل الأسلحة المتفوقة نوعاً (رغم تدني قدراتها)، وأيضاً، بفضل تمتعهم بنظام معلومات واتصالات أفضل؛ بمعنى أنه ليس ثمة تطابق ميكانيكي بين المساحة والغنى بالمواد الخام وعدد أفراد الجيش مع القوة الفعلية لدولة ما.
ثالثاً: من مراجعة الاحصاءات، والمعطيات الاقتصادية، يمكن الاستنتاج أن عهد بوتين لم يكن عهد تطور اقتصادي وتكنولوجي وعلمي في روسيا، بل كان عهد ركود، على كل الأصعدة، إذ تحكمت فيه الصادرات من النفط والغاز والأسمدة والقمح، ففي تلك المجالات فقط تطور الناتج المحلي لروسيا بين الأعوام 2000 ـ 2022، مع ملاحظة التركيز على قطاع السلاح، كونه الأكثر نمواً بين القطاعات الاقتصادية، وهذا هو سر النمو الكبير في السنوات الأولى من عهد بوتين، لكن ذلك توقف منذ العام 2008، ثم تراجع أكثر بعد احتلال شبه جزيرة القرم ومع العقوبات الاقتصادية الغربية منذ العام 2015.
ولتوضيح ذلك يمكن المقارنة بين روسيا والصين، فبينما كان الناتج المحلي الإجمالي للصين يناهز 1.2 تريليون دولار في العام 2000، كان في العام ذاته في روسيا يناهز 1.1 تريليون دولار، فيما وصل الناتج المحلي الاجمالي الروسي إلى 1.8 تريليون دولار، في 2008، وفي العام 2014 وصل إلى 2.1 تريليوني دولار، لكنه في العام 2021 تراجع إلى 1,6 تريليون دولار. في حين إنه في العام ذاته أي 2021 بلغ في الصين 17 تريليوناً من الدولارات وكان في 2016، 11 تريليون دولار، وقبلها في 2010، 6 تريليونات، بمعنى أن الصين تقدمت ونمت وتطورت بفضل تركيزها على التكنولوجيا والتجارة والاقتصاد وإدارة الموارد، وليس بناء على الحروب واستخدام العضلات العسكرية، وأنها تطورت بقفزات ملحوظة، في مقابل الركود في الاقتصاد الروسي.
اللافت أن روسيا تروّج إلى أن تعثرها في أوكرانيا لكونها تواجه الغرب بأكمله (أميركا وأوروبا)، وفي ذلك تصميم على عدم رؤية حقيقة أو حدود قدراتها، ودليل على غطرسة ونرجسية وانفصام عن الواقع، إذ إن ذلك الغرب يحرص على تجنب توسيع الحرب، وعدم خروجها عن السيطرة، ويحرص على تقديم أسلحة متوسطة المدى، والفعالية، بحيث لا تمكّن روسيا من الفوز، وبحيث تمكّن الأوكرانيين من الدفاع عن أنفسهم داخل حدود بلدهم، إلى حين اقتناع بوتين أن اللعب في أوكرانيا يختلف عن اللعب في سوريا، كي يجلس إلى الطاولة.
أخيراً، ما يفترض أن تدركه القيادة الروسية إنها وضعت روسيا كشعب وكبلد وكموارد وكتاريخ في مواجهة العالم، بمحاولتها تقويض مبدأ من مبادئ السلم الدولي، وبمحاولتها ضم أراض من دولة أخرى ذات سيادة، أما حق تقرير المصير فله قواعد وأصول، وضمن ذلك ثمة مخارج لإيجاد حلول للأقليات (دينية أو قومية) في أي بلد، ليس على غرار ما فعل في الشيشان وفي جورجيا وأوكرانيا ومالدوفيا، وإنما على غرار سويسرا وبلجيكا وتجربة الحكم الذاتي للأكراد في العراق، مثلاً.
وعليه، فمن غير المعقول تمرير فكرة حق تقرير المصير بواسطة الدبابات، وتحت الاحتلال، فهذا النموذج لن يجذب حتى الصين، التي تحاول إيجاد حل لمسألة تايوان، كما لن يكون ذلك مناسباً في العالم العربي إلا لإسرائيل التي سنّت قانون ضم للقدس والجولان، وربما لإيران التي تدعي الهيمنة على عواصم عربية عدة، أو لتركيا التي تريد منطقة آمنة في الشمال السوري، وذلك بعد طي تجربة صدام حسين المأساوية والكارثية في ضم الكويت للعراق.
لنأمل بأن تنتهي هذه المحنة لصالح الشعبين الروسي والأوكراني ولصالح السلم والاستقرار في أوروبا والعالم.



