أقلام وأراء

ماجد عزام يكتب – فلسطين .. وساطة مصرية بخريطة طريق أميركية

ماجد عزام *- 5/6/2021

بدأت مصر، أخيراً، وساطةً مكثّفةً بين إسرائيل وحركة حماس ضمن جهد متعدّد الأطراف، يضم أيضاً السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة وجهات إقليمية ودولية أخرى، وتندرج هذه الوساطة ضمن الخطوط العريضة لخريطة طريق أميركية وضعها وزير الخارجية أنتوني بلينكن في أثناء زيارته المنطقة أخيراً بناء على توجيهات الرئيس جو بايدن ورؤاه. وتتضمن أربعة بنود رئيسية: تثبيت وقف إطلاق النار بين “حماس” وإسرائيل، وتقديم مساعدات إغاثية وإنسانية عاجلة لقطاع غزة بعد مآسي المعركة أخيراً، ثم الشروع في حملة دولية لإعادة الإعمار فيها، وأخيراً إيجاد أفق سياسي يسمح باستئناف عملية التسوية بين إسرائيل والسلطة وفق ما يعرف بحل الدولتين في فلسطين. وثمّة بنود فرعية مهمة منبثقة عن البنود الرئيسية تبدو أصعب وأكثر تعقيداً، وفق القاعدة الشهيرة، والصحيحة، أن الشياطين تكمن في التفاصيل.

البند الأول من خريطة الطريق الأميركية التي تتولى الحكومة المصرية تنفيذها يسير بشكل جيد، ولا خلاف عليه أصلاً في ظل موافقة الطرفين، إسرائيل وحركة حماس، على وقف إطلاق نار متزامن وغير مشروط أنهى فعلاً معركة سيف القدس في 21 الشهر الماضي (مايو/ أيار الماضي)، ولا رغبة أو إرادة لأي منهما، ولأسباب مختلفة تماماً، في تجاوزه أو نقضه، مع شعور كل طرف أنه حقق أهدافه من المعركة، فإسرائيل تظن أنها نجحت في تدمير شبكة أنفاق “حماس” وقتل عشرات المقاومين منها، وفيهم قادة رئيسيون، وتدمير البنى التحتية على نطاق واسع، خصوصاً في قلب غزة النابض، حيّ الرمال وشارع الوحدة، ولكن من دون تحقيق شارة نصر واضحة. أما حركة المقاومة الصامدة فتؤمن أنها انتصرت في معركة الوعي والرواية محلياً ودولياً، كما نجحت في دحر العدوان، ولم تستسلم أمام آلة البطش الإسرائيلية، حتى الساعات بل الدقائق الأخيرة للمعركة، فضلاً عن إعادة توحيد الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده المختلفة. غير أن الهدف الأصعب يتمثل بتحويل وقف إطلاق النار إلى تهدئة وهدنة طويلة، أو حتى متوسطة المدى، ما يحتاج إلى عمل كبير، مع الانتباه إلى أن الأجندة أو خريطة الطريق أميركية أساساً، ما يعني أنها بالضرورة مدعومة إقليمياً ودولياً، وبالتالي تسهيل المهمة أمام الوسيط المصري.

الهدف الأصعب تحويل وقف إطلاق النار إلى تهدئة وهدنة طويلة، أو حتى متوسطة المدى، ما يحتاج إلى عمل كبير .

بتفصيل أكثر، كي يصمد وقف إطلاق النار، لا بدّ من تحسين الأوضاع في غزّة بشكل ملموس وجدّي، ولو على المدى المنظور، وفي السياق الإسعافي العاجل. ولكن لا بد أيضاً من وقف الممارسات الإسرائيلية في القدس، تحديداً في المسجد الأقصى، ووقف تهجير المواطنين الفلسطينيين من بيوتهم في حي الشيخ جرّاح وسلوان، باعتبار أن ذلك كان أصلاً سبب إشعال النار التي امتدّت إلى غزة فيما بعد، وفق قناعات أميركية مصرية ودولية معلنة، وحتى وفق اعتراف قائد الشرطة الإسرائيلية، الجنرال يعقوب شبتاي، الذي قال إن النائب المتطرّف عن تيار الصهيونية الدينية، إيتمار بن غفير، حليف“رئيس الوزراء” بنيامين نتنياهو، أشعل النار متعمّداً، فيما تجمع التحليلات الإعلامية، وحتى تصريحات السياسيين، من شرائح إسرائيلية مختلفة، أن نتنياهو تغاضى عن ذلك، لتحقيق أهداف سياسية خاصة به، تتعلق أساساً برصّ صفوف اليمين خلفه، وبالتالي منع خصومه في كتلة التغيير من تشكيل الحكومة الجديدة.

يبدو البند الثاني من خريطة الطريق أيضاً في متناول اليد، حيث بادرت عدة جهات عربية وإسلامية ودولية إلى تقديم مساعدات إنسانية عاجلة إلى غزّة، وتبرعت أميركا نفسها بخمسة ملايين دولار لهذا الغرض، ومع 33 مليون أخرى لمنظماتٍ إنسانيةٍ، يفترض أن تساهم في تقديم المساعدة لغزة مباشرة. وعلى الرغم من تحايل وتلاعب إسرائيلي معهود، عبر إغلاق معبري كرم أبو سالم وبيت حانون، إلا أنها ستفتح بالتأكيد، وسيتم إدخال مواد إنسانية طارئة، حسب تعريف وزير الحرب الإسرائيلي، الجنرال بيني غانتس، نفسه، والتي تشمل الكهرباء والوقود متعدّد الاستعمالات، سولار وبنزين وغاز الطهي والغذاء والدواء، وربما حتى مواد بناء لمشاريع أممية عاجلة.

عملية إعادة إعمار غزّة تبدو معقدة أكثر، تحديداً فيما يتعلق بالجهة المشرفة والآليات المتبعة والميزانيات المطلوبة .

تقوم مصر من جانبها بجهد خاص في هذا المجال، عبر إدخال مساعدات إنسانية من جهات أهلية مصرية، كما معدات وآليات ضخمة لرفع الأنقاض والمساعدة في إيواء النازحين عن بيوتهم، مع سعي مدعوم أميركياً ودولياً إلى دفع إسرائيل للقيام بمسؤولياتها، بوصفها قوة احتلال، لفتح المعابر من جهتها، وإدخال مساعدات ومواد إنسانية مماثلة.

بموازاة ذلك، تستمر القاهرة في تخفيف الحصار عن غزّة، عبر إبقاء معبر رفح مفتوحاً أمام المواطنين، وإدخال مزيد من التحسينات والتسهيلات على عمله، مع إبقائه مفتوحاً أيضاً أمام مساعداتٍ إنسانيةٍ وإغاثيةٍ من دول عربية وإسلامية، لا تقيم علاقات مع إسرائيل.

أما البند الثالث في خريطة الطريق الأميركية التي تعمل عليها مصر، فتبدو أكثر صعوبة، إذ إن عملية إعادة إعمار غزة تبدو معقدة أكثر، تحديداً فيما يتعلق بالجهة المشرفة والآليات المتبعة والميزانيات المطلوبة (نتحدث عن خمسة مليارات على الأقل، إضافة إلى شروط إسرائيل شبه التعجيزية التي تربط العملية برمتها باستعادة جنودها ومواطنيها الأسرى لدى “حماس”). وهنا تعمل القاهرة على خطين، حيث تسعى إلى بلورة توافق فلسطيني من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو في الحد الأدنى التفاهم على الجهة التي ستشرف على إعادة الإعمار، بالتنسيق مع مصر وقطر والأمم المتحدة وجهات مانحة أخرى.

في سياق آخر، تسعى مصر إلى إطلاق مفاوضاتٍ غبر مباشرة بين “حماس” وإسرائيل، من أجل التوصل إلى صفقة تبادل أسرى، بالتوازي مع عملية الإعمار التي ستستغرق أصلاً من سنتين إلى خمس تقريباً، وتبلغ كلفتها مليارات الدولار، ستدفع أيضاً على مدى زمني مَرِن نسبياً. وهنا في وسع القاهرة العودة إلى تفاهم 2018 الذي أعقب إفشال “حماس” توغل القوات الخاصة الإسرائيلية في خان يونس، والذي جدول عملية إعادة الإعمار إلى مراحل ثلاث، شبيهة بما يجرى العمل عليه حالياً، بحيث تكون مرحلة وسيطة بعد فتح المعابر وإدخال مساعدات ومستلزمات إنسانية أساسية، يمكن البدء خلالها بإطلاق مشاريع بنى تحتية معتبرة، ترعاها الأمم المتحدة وجهات مانحة عربية ودولية، وتتعلق أساساً بقطاعات الصرف الصحي والكهرباء والمياه، وتخفيف القيود عن العلاقات التجارية لغزة مع الضفة الغربية والخارج بشكل عام، بينما تتضمن المرحلة الأخيرة مشاريع استراتيجية ضخمة، مثل الميناء والمطار ومناطق صناعية ورفع الحصار نهائياً عن غزة.

تسير الوساطة المصرية بشكل جيد فلسطينياً، وتحقّق تقدّماً مرحلياً لا بأس به، لكن نجاحها على المدى الطويل غير محسوم .

البند الأخير في خريطة الطريق الأميركية، والمتعلق بإيجاد أفق سياسي، يسمح باستئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، يرتبط مباشرةً بنجاح تطبيق البنود السابقة، علماً أنه يبدو نظرياً فقط، في ضوء أن الملف الفلسطيني لا يحتل حيّزاً مهماً في أجندة الرئيس جو بايدن والمجتمع الدولي، وهم اضطروا للتدخل بعد انفجار الأوضاع إثر هبّات القدس ومعركة سيفها، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار السياسي في إسرائيل، حيث أجريت أربع دورات انتخابية في غضون عامين، بينما تبدو الخامسة مسألة وقت، والقصّة هنا عن الموعد وليس غير، علماً أن القضية الفلسطينية غابت عن أجندة الحملات الانتخابية السابقة، كما عن حوارات تشكيل الحكومة الجديدة. وقبل ذلك وبعده، يبدو حلّ الدولتين نفسه ميّتاً سريرياً، والأوضاع تسير باتجاه دولة واحدة، وربما يحتاج العالم فترة للتأقلم ومواجهة واقع قتل إسرائيل الحلّ مع ضرورة اتباع نهج سياسي فلسطيني مختلف، خصوصاً على المستوى القيادي.

تقدّم المعطيات السابقة مجتمعة فكرة عن طبيعة الوساطة المصرية. أما في الخلفيات والآفاق، فلا تخفي القاهرة سعيها إلى إرضاء الرئيس جو بايدن الذي اتصل بالرئيس عبد الفتاح السيسي في أثناء معركة سيف القدس مرتين خلال أربعة أيام، بعد تجاهل استمر شهوراً، طالباً منه الانخراط في جهود ضمان وقف إطلاق النار، وبحضور مصري قوي في غزّة ضمن خريطة الطريق المرسومة أميركياً، علماً أن صحيفة يديعوت أحرونوت قالت، الخميس 3 يونيو/ حزيران، إنّ الفكرة إسرائيلية أصلاً، بينما نقلت صحيفة إسرائيل اليوم، الاثنين 31 مايو/ أيار، عن دبلوماسي مصري قوله إن بايدن وحكومته عهدا إلى القاهرة بتفويض تحقيق اتفاق في غزّة واستقرار المنطقة، وهذه فرصة للسيسي، كي يثبت لبايدن مدى أهمية دور مصر المحوري في الاستقرار الإقليمي.

تسعى مصر إلى مفاوضاتٍ غير مباشرة بين “حماس” وإسرائيل، للتوصل إلى صفقة تبادل أسرى، بالتوازي مع عملية الإعمار .

واضحٌ طبعاً أن السيسي المأزوم تلقف الدعوة لنيل رضى سيد البيت الأبيض، وتخفيف الضغوط عليه في ملفات حقوق الإنسان والديمقراطية، على أمل نيل المساعدة الأميركية أيضاً في أزماته الخارجية، تحديداً فيما يتعلق بملف سد النهضة، بينما غزّياً سيضرب عدة عصافير بحجر واحد، إرضاء واشنطن وتل أبيب واستئثار شركات مصرية، خصوصاً تلك التابعة للجيش، بمشاريع إعادة الإعمار، كما احتكار سوق مواد البناء والمستلزمات الأخرى ذات الصلة، وفرض وصاية على غزّة، والملف الفلسطيني بشكل عام، لمساعدة النظام على كل المستويات، بما فيها الداخلية، كون القضية الفلسطينية كانت ولا تزال محل إجماع في الشارع المصري.

في كل الأحوال، تسير الوساطة المصرية بشكل جيد فلسطينياً، وتحقق تقدّماً مرحلياً لا بأس به، لكن نجاحها على المدى الطويل غير محسوم، في ظل تعقيد الملفات، وتعدّد اللاعبين. وفي أفضل الأحوال، ستنجز تهدئة على المدى المنظور القصير، وربما المتوسط، وستحقق بالتأكيد مكاسب ومنافع فئوية للنظام، ولكن من دون حلّ أزماته العميقة والمعقدة، الداخلية والخارجية، والناتجة أساساً عن طبيعته البوليسية الاستبدادية، ورفضه الاعتراف بالأزمات نفسها، فضلاً عن القدرة على معالجتها وحلّها.

*ماجد عزام – كاتب فلسطيني، رئيس تحرير نشرة المشهد التركي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى