ترجمات أجنبية

لوموند ديبلوماتيك – الفلسطينيون الذين لم يغادروا أبدا.. انطباعات زائر غربي لمدينة يافا

لوموند ديبلوماتيك –  ستيوارت براون * – عدد حزيران (يونيو) 2018

ستون متظاهرا أعزل قُتلوا على يد الجيش الإسرائيلي الشهر الماضي عند حدود غزة، في اليوم الذي افتتحت فيه الولايات المتحدة سفارتها الجديدة في القدس، فيما أثار غضب العالم كله؛ وكان الفلسطينيون، في جزء منه، يحيون ذكرى النكبة، كارثة تشريدهم من دولة إسرائيل الناشئة حديثاً قبل 70 عاماً. وتطالب مسيرة العودة الكبرى المستمرة في غزة بحق اللاجئين في العودة إلى أرض الأجداد. ومع ذلك، لم تغادر بعض المجتمعات فلسطين أبداً.

بينما أقمتُ لبعض الوقت في منطقة عربية في جنوب تل أبيب (1)، أدركت أن المسيحيين والمسلمين العرب واليهود الإسرائيليين ما يزالون يعيشون معا، على الرغم من السياسات التقسيمية والذاهبة أكثر نحو اليمين للحكومة الإسرائيلية، في عالم مُصغر لما كان ذات مرة جزءا بالغ التنوع من العالم. وفي البداية، لم أكن مرتاحاً كثيراً إزاء السفر إلى إسرائيل، وكنا أنا وزوجتي الحامل قلقَين عندما سمعنا في أول مساء لنا هناك، أن رجلا فلسطينيا قاد شاحنة في اتجاه حشد في القدس وقتل أربعة جنود إسرائيليين. وكنا قد وجدنا للتو شُقتنا الواقعة في العجمي، الضاحية المتاخمة لميناء يافا، حيث رحبت بنا المضيفة التي تقطن في البيت المجاور مع أربعة أجيال من أسرتها العربية الفلسطينية، واستقبلتنا بلطف جم مع القهوة في فناء مشمس وسط أشجار الحمضيات. كان عمرها فوق السبعين، وربما كانت طفلة صغيرة عندما كفَّ وطنها عن الوجود. ولم أكن قد توقعت أن أجداً أحداً مثلها في إسرائيل الحديثة.

لأننا سمعنا في ذلك الوقت عن الهجوم، سرنا أنا وزوجتي بقلق إلى الميناء المجاور، حيث عُلقت على المباني شواخص من قبيل “القديس بطرس الرسول كان يقيم هنا”. وبينما نعبر إلى وسط يافا، وقفنا عندما سمعنا صوت نداء الصلاة الإسلامي يأتي من جامع على حافة المياه؛ كما سمعنا أيضا الأجراس وهي تشير إلى اكتمال الساعة من عدة كنائس. واستطعنا أن نرى مدينة تل أبيب إلى الشمال، وأبراجها الشبيهة بأبراج ميامي وهي تحف بالخط الساحلي للبحر المتوسط.

كانت يافا، التي عُرفت ذات مرة باسم “عروس البحر”، أكبر مدينة من حيث السكان في فلسطين، وظلت القلب الثقافي والاقتصادي للبلد تحت الحكمين العثماني والبريطاني. وقد اجتذبت الزوار، سواء من السياح أو الحجاج، الذين سلكوا في ذلك الحين الطريق شرقاً إلى القدس. ولكن، عندما تم إعلان قيام دولة إسرائيل في العام 1948، تم طرد نحو 120.000 شخص -95 في المائة منهم من الأغلبية العربية من سكان يافا- أو فروا من أوار الحرب. وقد أُجبر المهجرون المجردون من أملاكهم على الانضمام إلى الشتات الفلسطيني الذي انتشر في لبنان، وسورية، وغزة، والأردن، ومصر، وأبعد في تشيلي، والولايات المتحدة وأوروبا. وبعد ذلك، تم اقتياد الآلاف القليلة من الناس الذين ظلوا في يافا إلى منطقة العجمي، الضاحية السابقة المهملة للطبقة الوسطى في العهد العثماني، والتي أصبحت “غيتو” فلسطينياً تحت الحكم العسكري الذي فرضته دولة إسرائيل الجديدة، في نموذج مبكر لغزة المحاصرة اليوم. وتم حرمان الفلسطينيين العرب هناك من الحقوق المدنية والإنسانية، وتم سجنهم من دون تمييز، وتمت مصادرة أملاكهم أو تدميرها.

وعندما أصبح هؤلاء الذين ظلوا مواطنين إسرائيليين (وهم يشكلون الآن نحو ثلث سكان يافا)، فإنهم ظلوا مواطنين من الدرجة الثانية، مع وصول محدود إلى التعليم والوظائف، ومن دون الحق في الانضمام إلى الجيش، شأنهم في ذلك شأن كل الفلسطينيين المقيمين خلف خط إسرائيل الأخضر.

ما كنا لنعرف أننا سنقيم في العجمي، الذي يُعتبر واحداً من أسوأ الأحياء في منطقة تل أبيب، الفقير والذي يعاني من معدلات الجريمة المرتفعة والعصابات التي تتعامل بالمخدرات القوية. ومثل غزة، كان يُنظر إلى العجمي منذ وقت طويل على أنه منطقة محظورة، وهو السبب في أن أجزاءها أصبحت متداعية نسبياً، وفي أن كاميرات المراقبة فيها –على النقيض من وسط تل أبيب- منصوبة على الأعمدة في كل زاوية من كل شارع.

البرتقال إلى كل العالم

لا تجد في يافا شيئاً يذكر النكبة على شواخص المعالم التاريخية حول المدينة، ومع ذلك ما تزال الثقافة الفلسطينية فيها تزدهر. ويدير ابن شقيق مضيفتنا مقهى عند حدود المدينة القديمة، بجوار كنيسة القديس جورج، وهو مملوء بالتحف القديمة والأفاريز والصور المؤطرة الرائعة بالأبيض والأسود لزمن الذروة في يافا القديمة. ويشكل المقهى مزاراً لثقافة لم يجعلها الزمن تتلاشى تماماً. وقد أخبرنا صاحب المقهى قصصاً عن السنوات التي سبقت نكبة 1948، عندما كان ميناء حيفا يُصدِّر الملايين من حبات البرتقال الشموطي، الذي ينمو في البساتين حول المدينة. (ما تزال الفاكهة سميكة القشرة، التي تكاد تخلو من البذور، وحلوة المذاق جداً، تسمى البرتقال اليافاوي). كما روى لنا الأساطير التي ما تزال حية في الخيال الفلسطيني.

تفاجأت من أن يكون للفلسطينيين الشباب، مثل مدير المقهى، أي مكان في إسرائيل الحديثة. ويقال أن التعايش كان حقيقة بسيطة من حقائق الحياة اليومية العادية في يافا قبل العام 1948. وقال ميكانيكي فلسطيني، إسماعيل أبو شحادة، في الفيلم الوثائقي “يافا، مسننات البرتقالة”، الذي يلقي نظرة على الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من خلال بساتين البرتقال المهجورة في أغلبها: “كنا نعيش كعائلة واحدة… العرب، المسلمون والمسيحيون، زرعوا البساتين. وكان اليهود يزرعون البساتين أيضاً. كنا نعمل معاً”.

كنا نتجول يومياً عبر سوق يافا للسلع الرخيصة والمستعملة، في جزء من السوق الفلسطيني الذي أصبح يستخدمه اليوم التجار اليهود والعرب واليمنيون والبدو. وقد جلس البعض على الأرض في الساحة أو في الأروقة المحيطة، يبيعون الحلي والتحف أو السجاد القادم من مختلف أنحاء الشرق الأوسط. وتشكل هذه المنطقة نقطة تقاطع ثقافي استطاعت أن تنجو من الصراع. وحتى خلال الانتفاضة الثانية (2000-2006)، أدار يهودي ومسلم متجراً للسجاد معاً في السوق؛ وقال الشريك اليهودي، رامي سيناي، لـ”المجلة اليهودية”: “هنا ليست لدى المسلمين واليهود مشكلة. لأننا نعيش معاً في يافا، فإننا نعرف أن كل إنسان هو ابن الله”. وخلال الصراع بين إسرائيل وغزة في العام 2014، (عملية الجرف الصامد)، ارتدى العاملون في مطعم أبويلافيا قمصاناً مكتوباً عليها شعار “اليهود والعرب يرفضون أن يكونوا أعداء”. وما يزال مطعم أبو حسن الفلسطيني للحمص، الذي يعمل منذ أكثر من 50 عاماً، يشهد طابوراً طويلاً دائماً من الزبائن بسبب شهرته في كل أنحاء إسرائيل، حيث الحمص هو القاسم المشترك العريض، والموحِّد المغذي للقبائل.

تحدي التحسين

لكن هذه الظاهرة التوفيقية في يافا أصبحت تحت التهديد مرة أخرى مع ذلك، بينما يتحرك مشروع التحسين جنوباً من تل أبيب ويصبح بمثابة استراتيجية جديدة للتطهير العرقي، حيث يدفع اليمين والقوى الطائفية سياسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وقد تعرض الكثير من يافا للتهديد بالهدم في التسعينيات. أما الآن، فحتى سوق وسط العجمي أصبح مطلوبا جدا لليهود الإسرائيليين الذين يسعون إلى امتلاك فلل تراثية بإطلالة على البحر؛ وقد تم تحويل إحدى البنايات فعلاً إلى عمارة شقق راقية، كما بنى اليهود الأرثوذكس أيضاً عقارات مخصصة لليهود فقط في العجمي، ويخشى السكان المحليون أن يتم ترحيلهم من خلال استراتيجية لبناء مستوطنات يهودية، كما حدث في الضفة الغربية. وقد جاءت الإيجارات المرتفعة والنزوح في أعقاب هذه التغييرات. وبسبب مكانتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، فإنه نادراً ما يُسمح للعرب بإعادة تطوير ممتلكاتهم الخاصة.

بينما كنا أنا وزوجتي في الطريق إلى المطار للعودة إلى الديار في برلين، سألَنا سائق سيارة الأجرة التي كنا نستقلها عن السبب في أننا أقمنا في العجمي. وذكَّرنا بأن المنطقة خطيرة جدا، وأوضح أن هناك أماكن أخرى أفضل كثيرا للإقامة فيها في المدينة. لكنني لم أتفق معه. شعرت بأنه ربما كان ينطوي في دخيلته على رغبة في إزالة أي أثر للعرب الفلسطينيين، أو نزع الشرعية عن أي شيء تبقى لهم. وكما قال ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في العام 1948، عندما صادق على تدمير القرى الفلسطينية من أجل استقلال إسرائيل: “يجب أن نفعل كل شيء لضمان أن لا يعودوا أبداً. المسنون سوف يموتون والشباب سوف ينسون”. لكنهم لم ينسوا. وقد رأينا، بعد بضعة أشهر من عودتنا إلى الوطن، كيف أردت الشرطة الإسرائيلية بالرصاص شاباً فلسطينياً في الشارع الرئيسي في العجمي. وتبين أنهم قتلوا الشخص الخطأ. وجاءت الاحتجاجات في الأعقاب. وقال عبد أبو شحادة، الناشط المحلي وعضو المجلس الإسلامي في يافا لمجلة 972: “ما حدث في ذلك اليوم كان غير عادي. لم نكن قد رأينا الشباب يخرجون إلى الشوارع بشكل عفوي منذ الأيام الأولى للانتفاضة الثانية في العام 2000. يتطلب القيام بذلك ثقافة سياسية معينة، والتي لم أكن أعلم حتى أنها موجودة”.

في برلين، التقيت بالكاتبة الفلسطينية دانيا شبلي في ندوة قراءة، حيث أخبرَت الحضور بأن الأجيال الأكبر، بما في ذلك والديها، التي عاشت خبرة النكبة، ترفض مناقشتها. وهم يخشون أن يؤدي التذكر إلى المزيد من الطرد. وكما ذكَّرني العامل السابق في بستان الحمضيات، إسماعيل أبو شحادة: “يجب أن تمسح 1948 من عقلك. أربعة آلاف قنبلة تم إسقاطها على يافا –وكانت مكاناً صغيراً. النسيان نعمة من الله”. ربما يكون من الأفضل للمسنين أن لا يوقظوا الماضي، وأن لا يتذكروا.

لكن الشباب مختلفون. إنهم يريدون أن يتذكروا، وأن ينظروا وراءاً بينما يمضون قدُماً؛ إنهم مسلمون ومسيحيون يتكلمون العربية، والعبرية والإنجليزية، ويعيشون وسط تنوع فطري على الرغم من الخوف من التشريد ومن ترهيب الشرطة. وكتب المواطنان في يافا وناشطا حركة الحق في السكن، سامي أبو شحادة وفادي شبيطة، أن المنطقة في التسعينيات “شهدت انبعاثاً سياسياً وثقافياً قوياً بين مواطني إسرائيل الفلسطينيين، حيث بدأ أبناء الجيل الثالث منذ النكبة في اكتشاف وتأكيد هويتهم الفلسطينية باعتبارهم السكان الأصليين للأرض (2). وفي الأثناء، في غزة، ما يزال النضال مستمراً، ومعه المطالبة بحق الفلسطينيين في العودة إلى الديار.

*كاتب وصحفي مقيم في برلين، ألمانيا. وهو مؤلف كتاب: “مدينة المنفيين: برلين من الخارج إلى الداخل”، الصادر عن مطبعة نوكتوا في العام 2015.

هوامش:

(1) بدأت تل أبيب كضاحية شمالية من يافا، والتي أسسها المهاجرون اليهود في أواخر القرن التاسع عشر، ولم تحصل على وضع المدينة حتى العام 1934. وكانت يافا والأحياء مثل العجمي إلى الجنوب منها –في الأصل مستوطنية مسيحية مارونية- واحدة من أكبر مدن فلسطين تحت كل من الحكمين، العثماني والبريطاني.

(2) “الانتفاضة الألكترونية”، مترجم عن “مجلة المجدل”، 26 شباط (فبراير) 2009.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى