لوس أنجلس تايمز : تراجع النفوذ الأميركي
Rosa Brooks – Los Angeles Times
* أستاذة القانون في مركز القانون التابع لجامعة جورج تاون ومسؤولة في مؤسسة “أميركا الجديدة” (New America Foundation).
قسم الترجمة & 26/2/2012
أي دبلوماسي صادق سيؤكد تلاشي قوة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي، وإذا عمد الأميركيون إلى إغفال هذا الواقع، فإنهم سيساهمون في تسريع عملية التراجع.
هل تسير الولايات المتحدة على طريق الانحطاط؟ هل بدأ نفوذها العالمي يتراجع فعلاً؟
من المتوقع أن نسمع هذا النوع من الأسئلة بشكل مكثّف تزامناً مع احتدام الحملة الرئاسية الأميركية، ووفق أوساط الجمهوريين، تكمن مشكلة السياسة الخارجية التي يتبعها الرئيس أوباما في واقع أنه مقتنع بأن الولايات المتحدة بدأت تتحول إلى قوة متخاذلة وأن أقصى ما يمكن أن يتمناه الأميركيون هو النجاح في “ضبط هذا التراجع”.
كان هذا الادعاء شائعاً منذ فترة على المدونات الإلكترونية التابعة للمحافظين، ولكنه أصبح الآن موضوعاً بارزاً في جميع المقابلات التي يجريها المرشحون للرئاسة.
فقد تحدث جون بولتون، الذي انضم إلى فريق السياسة الخارجية التابع لميت رومني، بطريقة لاذعة حين قال: “يظن أوباما أن الولايات المتحدة يجب أن تؤدي دور البلد الخانع في العالم”. وأدلى رومني (الذي أعد كتاباً كاملاً عن موضوع العظمة الأميركية) بانتقاد لاذع مماثل: “أنا أرفض الفكرة القائلة إن مصير الولايات المتحدة هو التراجع الحتمي. ربما يميل أوباما إلى رفع راية الاستسلام لكن الله لم يخلق الولايات المتحدة لتكون دولة تابعة للآخرين”.
بعد أن تعرض الرئيس الأميركي لهذا الهجوم الشرس من الجمهوريين، أصر أوباما على أنه ليس انهزامياً بأي شكل، فخلال خطاب “حالة الاتحاد” في الأسبوع الماضي، كاد يتفوق على رومني من ناحية المشاعر القومية المتفاخرة حين قال: “كل من يعتبر أن الولايات المتحدة بدأت تتراجع أو أن نفوذنا يتلاشى لا يعرف ما يقوله”.
إنه تفكير خطير! يؤكد أي دبلوماسي صادق تلاشي قوة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي، وإذا عمد الأميركيون إلى إغفال هذا الواقع، فسيساهمون في تسريع عملية التراجع.
لقد بدأ النفوذ الأميركي يتلاشى لسببين، ويُفترَض أن يكون السبب الأول مصدر راحة بدل أن يسبب اليأس، فبينما تحافظ الولايات المتحدة على أعظم جيش في العالم، بدأ النفوذ الأميركي يتراجع ببساطة لأن الدول التي كانت ضعيفة تزداد قوة، فتُعتبر أوروبا، على الرغم من مشاكلها الراهنة، قوة اقتصادية ودبلوماسية لا يمكن إنكارها، وتشكل الصين والهند والبرازيل قوى إقليمية بدأت تكسب نفوذاً عالمياً متزايداً.
نتيجة زيادة قوة الدول الأخرى، يتراجع النفوذ الأميركي نسبياً. في العقد الماضي مثلاً، تراجعت الحصة الأميركية من الإنتاج العالمي من 23.5% إلى 19.1%. وقد بدأت هذه النزعة منذ عقود عدة. ذكر الرئيس ريغان في استراتيجية الأمن القومي التي طرحها في عام 1987 أن الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بمكانة اقتصادية طاغية في وجه تنامي نفوذ أوروبا الغربية وشرق آسيا. في عام 1990، تحدث الرئيس جورج بوش الأب عن الموضوع نفسه حين طرح استراتيجية الأمن القومي الخاصة به، فقال: “لا مفر من تراجع الهيمنة الأميركية الاقتصادية الطاغية بعد الحرب”.
لو كان ريغان حياً اليوم، لكان المحافظون نعتوه بالانهزامي أيضاً. لكن كان ريغان يدرك أن التراجع النسبي للنفوذ الأميركي هو أمر إيجابي (إذا استطاع الأميركيون تحويل القوى الناشئة إلى حلفاء موثوقين). هل تذكرون قصة “رحلات غاليفر” (Gulliver’s Travels)؟ صحيح أن غاليفر انزعج كونه الأصغر حجماً في أرض العمالقة، لكن الأصعب هو أن يكون الشخص عملاقاً في أرض الأقزام! تماماً مثل شخصية غاليفر، ستزدهر الولايات المتحدة إذا تمكنت من إحاطة نفسها بدول صديقة تتمتع بنفوذ كبير مثلها. سيحصل الأميركيون بفضلها على أسواق أكبر وسيتم تقاسم الأعباء بين الدول المختلفة. لا يمكن أن تحل الولايات المتحدة وحدها المشاكل العالمية التي تواجهها.
لكن ثمة سبب آخر يفسر تراجع النفوذ الأميركي (وهذا هو السبب الذي يدعو إلى القلق فعلاً!)، تطرق أوباما إلى هذه النقطة في خطاب “حالة الاتحاد” عندما تساءل إذا كان الأميركيون يكتفون بأن يضمن بلدهم حياة رغيدة لنسبة ضئيلة من الشعب بينما يزداد عدد الأميركيين الذين يجدون صعوبة في تدبير أمورهم.
لقد انهار الحلم الأميركي بمعناه الحقيقي لأسباب عدة، فقد أصبح متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة أدنى من المستوى المسجل في الأنظمة الديمقراطية الصناعية الأخرى، وينطبق الأمر نفسه على معدل وفيات الأطفال ومعدل الالتحاق بالمدارس الابتدائية. كذلك، تسجل الولايات المتحدة أعلى نسبة مساجين في العالم، وقد أثبتت حركة “احتلال وول ستريت” أن الأميركيين يواجهون أيضاً مشكلة اللامساواة في المداخيل أكثر من أي بلد آخر في الدول المتطورة ومعظم الدول النامية.
من الغباء إذن إنكار هذا التراجع الأميركي! لا يمكن الحفاظ على زعامة العالم إذا قبل الأميركيون بهذه الظروف المحلية التي بدأت تشبه أوضاع بعض دول العالم الثالث، فلا يمكن إقامة نقاش صادق وفاعل عن الإصلاحات الضرورية لمعالجة الوضع إذا أصر الجميع على إنكار الواقع. تبرز مفارقة ساخرة في هذا المجال، فغالباً ما يشتكي المحافظون من ثقافة تقدير الذات أو عقلية “التفوق الوهمي” التي تُلقَّن في المدارس الأميركية بدل الالتزام بالمعايير الصارمة وإطلاق النقد البنّاء على المناهج التعليمية المعتمدة. لكن في ما يخص مكانة الولايات المتحدة العالمية، يبدو أن المحافظين هم الذين يصرون على تفوق الولايات المتحدة من دون الالتفات إلى الإنجازات والإخفاقات على أرض الواقع.
على الرغم من فصاحة خطاب “حالة الاتحاد”، يدرك أوباما حتماً أن مشكلة تراجع النفوذ الأميركي حقيقية ويجب أن يعترف بذلك صراحةً، فإذا لم يتوقف الأميركيون عن الكذب على أنفسهم، فسيصبح التراجع حاداً ودائماً.