لميس اندوني تكتب – جبران باسيل ورفض التوطين ذريعةً للعنصرية
بقلم لميس اندوني – 12/12/2021
“يا سنبلتي/ يا أقلامي يا أحلامي”… نزار قباني، ستّ الدنيا يا بيروت
أثار قرار الحكومة اللبنانية السماح للاجئين الفلسطينيين بالعمل في جميع المهن في لبنان جدلا واسعا، يعود جزء منه إلى خوف على فرص اللبنانيين في العمل، في وسط أزمة اقتصادية خانقة تهدّد قدرة لبنانيين على تأمين حياتهم ومستقبلهم. ويعود جزء آخر منه مهم إلى عنصرية وطائفية، صريحتين أو مُقَنَعتين بذراع، أهمها رفض التوطين والحرص على حق الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم. وكان وزير الخارجية السابق، جبران باسيل، السباق في التصدّي للقرار، وربطه مع رفض توطين الفلسطينيين، وهو الذي كان قد كشف، في يونيو/ حزيران 2019، عن عنصريةٍ فجّة، حين تحدّث بثقة عن تفوّق “الجينات اللبنانية”، وكأنه يعتقد أن جيناته “نقية”، في ترديد لأخطر مفهوم عنصري، لكن كلاما كهذا وليد النظام الطائفي في لبنان الذي مأسسه الاستعمار الفرنسي قبل خروجه من لبنان، وأصبح التقاسم الطائفي وترسيخه هدفا بحد ذاته لأمراء الطوائف اللبنانية.
وقد سبقت العنصرية في لبنان تصريحات باسيل بعقود، وكذلك توظيف رفض توطين الفلسطينيين تبريرا لتصريحات وسياسات، خصوصا بعد تحالف التيار الوطني الحر الذي ينتسب إليه باسيل (تحت قيادة والد زوجته الرئيس اللبناني، ميشال عون) مع حزب الله، وعندها أصبح التحالف “مع المقاومة” عنوانا لعنصرية تيارٍ، تعود جذوره إلى الطائفية المارونية في لبنان، فلا يعتقد باسيل أنه يخدع أحدا بدفاعه عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، فقد تبين أن ردة الفعل الغاضبة والصاخبة على تصريحه ذاك لم تردعه أو تؤثر عليه.
هنا يجب توضيح نقطتين: أولاً، أن الخوف من توطين اللاجئين ضمن تسويةٍ دائمة على حساب حقوق الشعب الفلسطيني مفهوم، فالعام الأول من ولاية الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، لم يخرج كثيرا عن إطار ما سمّيت صفقة القرن التي هدفت علنا إلى تصفية القضية الفلسطينية، لكن العنصرية لن تمنع هذه الصفقة أو خطة تدريجية لصالح إسرائيل، بل هي تمزّق المجتمع اللبناني وتضطهد أصحاب القضية، المحاصرين في مخيمات اللاجئين، من دون جنسية أو حقوق مدنية أو حق بالعمل، منذ سنوات النكبة.
حديث باسيل وغيره عن حرمان اللبنانيين من العمل قابل للنقاش، ولكن ليس من منظور عنصري
لا يتغابى جبران باسيل الذي تتماهى تصريحاته مع عقلية “القوات اللبنانية” التي تجاهر بعنصريتها، وليس مسموحا له أن يتغطّى بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، إذ إن هذا الحق، والتعويض أيضا، كما ورد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، غير قابل للتصرّف ولا يسقط بالتقادم، ولن يؤثر عليه لا قرار السماح للفلسطينيين بالعمل في 75 مهنةٍ كانت ممنوعة عليهم، ولا حتى تجنيس الفلسطينيين، فالجنسية الأميركية أو الألمانية أو السعودية أو أي جنسية يحملها الفلسطيني لا تحرمه من حقّ العودة والتعويض، نعم العودة والتعويض (ليس العودة أو التعويض).
ثانيا، حديث باسيل وغيره عن حرمان اللبنانيين من العمل قابل للنقاش، ولكن ليس من منظور عنصري، سواء ضد الفلسطينيين أو السوريين، خصوصا أن الأحزاب الطائفية تمارس أسوا الممارسات الرأسمالية النيوليبرالية ضد العمال اللبنانيين، وتستغل حاجة السوريين والفلسطينيين إلى العمل، لتجبرهم على قبول أجور متدنّية ووضع غير قانوني، في خرقٍ واضحٍ لحقوقهم العمالية والإنسانية، فهو تحالف بين الطائفية والنيوليبرالية، لا يهمّه سوى الربح والبقاء في مواقع النفوذ السياسية والمالية على حساب كل اللبنانيين، أو لا تهتم باحتجاجاتهم وما نشهده من مظاهر الفقر غير المسبوقة التي تدمي القلوب.
لا نعرف أسباب التحول المفاجئ، وقد يكون تحت ضغوط غربية، وهذا مهم للتقصّي عنه، أو نتيجة الأزمة الاقتصادية، لكن التصريحات العنصرية التي تمثلت في أعمال فنية وتصريحات مسؤولين من اتجاهات متعدّدة، لن تنقذ لبنان الذي نحب، أو القضية الفلسطينية، لكنها مفاهيم تخدم التهرّب من مكافحة الفساد ومن مطالب لبنانية محقّة بتعديل قوانين تحدّ من التمثيل الشعبي في صناعة القرار. والمطلوب، كما في كل الدول العربية، رؤية وطنية وحوار حقيقي، يخاف منه المتحكّمون بمصير لبنان وشعبه.
يمثّل تصاعد العنصرية تحدّيا لحزب الله بالذات، لسببٍ بسيط ومهم، إذ إن دخوله في السلطة جعله شريكا مع كبار قوى الاستغلال والاحتكار
لكن لا اهتمام رسمياً بحقوق مدنية، لا للبنانيين أو اللاجئين على أرض لبنان. وهناك تجاهل وإنكار لدور الفلسطينيين ممن حصلوا على الجنسية اللبنانية في مساهمتهم في بناء الاقتصاد اللبناني والثقافة والفنون، وكأنهم لم يكونوا. ولكن مواقف المتنفذين في الحكم هي، في النهاية، مواقف طبقية بامتياز، وإن كانت تؤثر حتى على المقتدرين من المهنيين المتميزين في الطب والموسيقى وحتى النخب المالية، لكن العنصرية أقصر طريق لتلافي المسؤولية عن سياساتٍ أدّت إلى تقويض الاقتصاد اللبناني.
يمثّل تصاعد العنصرية تحدّيا لحزب الله بالذات، لسببٍ بسيط ومهم، إذ إن دخوله في السلطة جعله شريكا مع كبار قوى الاستغلال والاحتكار، وواجبُه أن يتصدّى لما يحدُث، فلا مقاومة من دون التصدّي لعنصريةٍ متجذّرة، فبعيدا عن النقد المشروع لحزب الله، فإنه لا يستطيع رفع راية المقاومة من دون تحمّل مسؤولية، خصوصا أن القوى الأخرى، مثل القوات اللبنانية والكتائب، قد تحمّله مسؤولية القرار الجديد المتعلق بعمل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. لم نسمع كثيرا من حزب الله بشأن ما تفوّه به جبران باسل عن النقاء الجيني، فالتقاسم الطائفي الذي اندمج معه يُضعفه في موقع المتواطئ بمجرّد صمته عما يحدُث. وحتى لو كان حزب الله مستهدفا من أميركا، فذلك لا يعفيه من اتخاذ مواقف مبدئية. ولمّا كانت العنصرية في لبنان قد سبقت ظهور حزب الله بعقود، فإن هذا لا يلغي أن الحزب أصبح جزءا من النظام الطائفي، فالتمثيل السياسي للطائفة الشيعية كان حكرا على الإقطاعيين. وبهيمنة عائلة برّي على حركة أمل، ماذا تبقى من تحالفٍ كان اسمه الحركة الوطنية اللبنانية؟ تم إخراج اليسار وتهميشه لصالح الاقتسام الطائفي، واقتسام غنائم النيوليبراية، على الرغم من وجود عقول تحررية وفكرية لبنانية، يجري إقصاؤها، وإن كانت ماضيةً بالتحرّك والتحدّي.
تعدّدية لبنان وتنوعه ضمانتان لنا جميعا، فيكفينا تسلّط قوى الدمار والطائفية الدينية المتطرّفة، إذ تكفينا لعنتا “داعش” وإسرائيل
لم يستثن قانون العمل اللبناني الفلسطينيين، بل والسوريين أيضا، ومن يسمّون مكتومي القيد، أي من ليس لديهم جنسية لبنانية من أولاد لبنانيات تزوّجن من عرب، وبدو رحّل استقرّوا في لبنان، وتم تجنيس عدد منهم خلال حقبة رفيق الحريري، لتوسيع القاعدة السنّية وكسب الأصوات الانتخابية، وإن تبقَ قضيتهم جرحا مفتوحا يهمّ القليلين. ولا يزعج النخب الحاكمة المستمرّة في نهب الاقتصاد اللبناني، فالقضية الأساس هي غياب المواطنة وتواطؤ بعض القوى مع أميركا وحتى مع إسرائيل، والصراع على النفوذ بين دول نفطية وإيران في لبنان، فالمواطن ليس إلا رقما يلجأ إليه أمراء الطوائف للتحشيد الطائفي، أو لجمع الأصوات في الانتخابات.
مهما كانت مآلات القرار الصادر أخيرا، المتعلق بعمل اللاجئين الفلسطينيين، فقد مثّل بعض التصحيح لخرق صارخ لحقوق الإنسان، وحتى إذا تبين أنه مفروض، فيجب توظيفه ضمن مخطط وطني، يبدأ في رفض الخطاب العنصري الذي يريد ضرب الفقير بالفقير، لبنانيا كان أو سورياً أو من أي طائفة أو جنسية على حساب لبنان، فتعدّدية لبنان وتنوعه ضمانتان لنا جميعا، فيكفينا تسلّط قوى الدمار والطائفية الدينية المتطرّفة، إذ تكفينا لعنتا “داعش” وإسرائيل، فالتعصب عدو الحرية، لتبقى بيروت اللؤلؤة التي عشقها الشاعر السوري نزار قباني.