أقلام وأراء

لميس أندوني تكتب – السعودية وترامب ونبذ القضية الفلسطينية

لميس أندوني *- 13/9/2020

كتب الراحل عبد الوهاب المسيري، عن ظاهرة “الأمركة”، أنها “محاولة صبغ أي مجتمع أو فرد بالصبغة الأميركية وإشاعة نمط الحياة الأميركية”، وذلك في مقالة له، صادف أن قرأتها أخيرا فيما كانت تجرى انتخابات ما يسمّى “مجلس الشيوخ” في مصر. وجاء إلى خاطري أنه ربما لم يدر في خلد المفكر الكبير أننا سنشهد في مصر ظاهرة الأمركة، إنما بطريقة مختلفة تماما، يمكن أن نطلق عليها “أمركة مصر بالتسميّات” فقط، فالانتخابات التي جرت لذلك المجلس، المفترض أنه الغرفة الثانية للبرلمان المصري، كانت هزلية تماما. أما الغرفة الأولى من البرلمان، وأطلق عليها “مجلس النواب”، فقد انتهت أعماله في الفترة نفسها، بعد خمس سنوات من المهازل وسن القوانين المجحفة والتنازل عن الأرض المصرية في جزيرتي تيران وصنافير، وغيرها مئات الجرائم.

الاسمان، مجلس النواب ومجلس الشيوخ، مقتبسان من مجلسي النواب والشيوخ اللذين يشكلان الكونغرس الأميركي. ولكن لا يوجد أي تشابه بين البرلمانين إلا في الاسم، فمن المعروف أن السلطات المصرية هي التي تختار قوائم المرشحين في المجلسين، ولا ينجح إلا من اتّفق مسبقا على نجاحه. وقد شهدت انتخابات مجلس الشيوخ، على سبيل المثال، مهازل إضافية، مثل تعيين الرئيس ثلث أعضاء المجلس! وأيضا قرار اللجنة العليا للانتخابات إحالة 54 مليون مواطن مصري إلى النيابة، بسبب مقاطعتهم الانتخابات. وعلى الرغم من أن عدد من لم يذهبوا إلى الانتخابات يفوق ذلك الرقم بكثير، إلا أن القرار نفسه يشكل عبثا صافيا، ولا هدف له إلا جمع الأموال، مثل باقي القرارات التي تصدرها السلطة. كما أن القرار نفسه كان يتم التلويح به في كل انتخابات لابتزاز المصريين، وحثهم على الذهاب إلى التصويت، وفي كل مرة لا يذهب إلا القليل، ولا تستطيع الدولة تحصيل تلك الغرامة العبثية، ولن تستطيع أيضا هذه المرّة، وسيقتصر الأمر على إشغال الإعلام والرأي العام بالقضية عدة أيام، ثم لن يلبث الأمر أن ينتهي.

عيَّن السيسي ثلث أعضاء مجلس الشيوخ! وقررت اللجنة العليا للانتخابات إحالة 54 مليون مصري إلى النيابة، بسبب مقاطعتهم الانتخابات .

وقد ظهر ذلك العبث بوضوح شديد في ما تسمّى “جولة الإعادة” في انتخابات مجلس الشيوخ، إذ لم يذهب أحد تقريبا، لأنها جرت في اليوم الذي كان فيه المصريون منشغلين بمقاومة حملات هدم بيوتهم في محافظات مصر المختلفة، خصوصا في الإسكندرية التي تمكن المواطنون من طرد قوات الشرطة المكلفة بالهدم، لكن مراسل إحدى الفضائيات وجد قدرا كافيا من الصفاقة، ليزعم إن اللجان الانتخابية “لم تتوقف عن استقبال الناخبين”!

لم تكن أمركة مصر بالمظاهر والتسميات وليدة مجلسي النواب والشيوخ فقط، بل امتدت أيضا إلى تحديد فترة الرئاسة بأربع سنوات، وعدم بقاء الرئيس أكثر من فترتين متتاليتين، مثل النموذج الأميركي. وعلى الرغم من التعديلات العديدة التي خضع لها الدستور المصري منذ ثورة يناير، وعلى الرغم من مطالبات بعضهم برفع مدة تلك الفترة إلى خمس أو ست سنوات، إلا أنه كان هناك إصرار غريب على إبقاء تلك الفترة كما هي، حتى جاءت تعديلات الدستور العام الماضي لتجعلها ست سنوات، كما كانت أيام الرئيس المخلوع حسني مبارك، وبالتالي تم تفريغ مادة الفترتين الرئاسيتين من مضمونهما، وهو إبداعٌ لم يسبق له مثيل في تاريخ الدساتير المصرية. وللأسف، أفلتت فترة الرئاسة في مصر من الأمركة! وتم تمصيرها في الشكل والجوهر، بعد أن كانت متأمركة في الشكل فقط.

ضباط كانوا يعملون في عهد مبارك، وتورّطوا في جرائم القتل والتعذيب وتلفيق الاتهامات، عادوا إلى العمل.

الملاحظ أن التغيير الذي طاول التسميات فقط شهدته جوانب عديدة أخرى من مصر بعد ثورة يناير، مثل تغيير اسم جهاز أمن الدولة إلى جهاز الأمن الوطني، وهو تغييرٌ عبثي، لأن الضباط الذين كانوا يعملون في عهد مبارك، وتورّطوا في جرائم القتل والتعذيب وتلفيق الاتهامات، عادوا إلى العمل في الجهاز بعد إبعادهم فترة قصيرة عقب ثورة يناير، ليمارسوا أبشع أنواع الانتهاكات والجرائم ضد المصريين مرة أخرى، وقد تفاخرت وزارة الداخلية بذلك، وأعلنته في مناسبات شتى.

جهاز أمن الدولة، والذي كان أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع ثورة يناير، طالب المتظاهرون بحلّه بعد الثورة مباشرة، لكن المجلس العسكري آنذاك ماطل في تنفيذ المطلب. وبعد اقتحام مقار الجهاز في مارس/ آذار 2011، أعلن عن حل الجهاز، واستبداله بجهاز جديد، أطلق عليه اسم الأمن الوطني. ثم مرّت الأيام، لنشهد عودة ضباط الجهاز المنحل إلى الجهاز الجديد القديم، أو القديم الجديد. ويتأكد المصريون أن التغيير لم يحدث إلا في اللافتات فقط، وهو منهج السلطة نفسه في التعامل مع جميع القضايا.

أفلتت فترة الرئاسة في مصر من الأمركة! وتم تمصيرها في الشكل والجوهر، بعد أن كانت متأمركة في الشكل فقط .

تغيير آخر في الأسماء تمثل في تغيير عنوان محطة مترو حسني مبارك في منطقة رمسيس وسط القاهرة، إلى “محطة الشهداء” في إشارة إلى شهداء ثورة يناير. وقد بقي هذا الاسم، على الرغم من الانقلاب الكامل الذي حدث على ثورة يناير وإجهاضها، وإلغاء كل مكتسباتها، فعلى الرغم من إزالة اسم مبارك، إلا أنه تمّت تبرئته وإعادة الإعتبار إليه، وتوفير كل إمكانات العلاج له، وتركه يموت وسط عائلته بهدوء. وقد فطن المصريون جيدا لهذه المفارقة الساخرة، فوضع أحدهم ملصقات على اللوحات الإرشادية لأسماء محطات المترو، باسم محطة مترو مبارك، بدلاً من محطة مترو الشهداء، وقام بتصويرها ونشرها بصفحات التواصل، في إشارة إلى إدراكه وإدراك المصريين أن شيئا لم يتغير، أو أن التغيير حدث ولكن إلى الأسوأ بمراحل، وهو ما ظهر واضحا بعد وفاة مبارك، والتكريم الكبير الذي حصل عليه، والجنازة التي حضرها كل أركان الدولة، وهي إجراءاتٌ تدل على حقيقة انحيازات الدولة المصرية في الوقت الراهن، وعدائها الصارخ لثورة يناير في كل الجوانب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى