قمة الدمام: بين استعادة المكانة وحدود التأثير
بقلم : آيه عبد العزيز، المركز العربي للبحوث والدراسات ١٥-٤-٢٠١٨م
انطلقت اليوم أعمال القمة العربية في دورتها التاسعة والعشرين في المملكة العربية السعودية في ظل ما تشهده المنطقة العربية من تحديات وتهديدات، أثرت بشكل كبير على أمنها القومي. تعد هذه التهديدات الأخطر في تاريخيها، حيث تستهدف تقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ على أساس طائفي ومذهبي. تجلت هذه التهديدات في أعقاب الثورات العربية التي عصفت بمعظم الأنظمة السياسية، نتج عنها حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي، علاوة على إندلاع الحروب الأهلية في كل من سوريا، وليبيا، واليمن، نتج عنها فراغات اجتماعية وسياسية مكنت بعض القوى الإقليمية من التموضع وإعادة الانتشار في المنطقة.
بجانب تنامي ظهور الفاعلين العنفين من غير الدول. كان الحدث الأهم في هذا الصدد؛ هو بروز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، وإعلانها إقامة الخلافة في يونيو/ حزيران 2014. واتخاذ معاقل لها داخل الأراضي السورية والعراقية لتكون منطلقًا عملياتها، واستعدادًا لانتشار من المركز إلى الأطراف.
في حين سعت بعض القوى الإقليمية والدولية -(تركيا، إيران، روسيا، أميركا)- بتدخل في الشأن العربي من منطلق دعم الحراك السياسي، والتحول الديمقراطي، علاوة على محاربة النظم الديكتاتورية من خلال الحسم العسكري، والتدخل في إطار الشرعية الدولية لمحاربة الإرهاب العابر للحدود لما له من تدعيات سلبية علي الأمن والسلم الدولي. مما أدي إلى تقسيم بعض الدول مثل سوريا إلى مناطق نفوذ ما بين تركيا وإيران وروسيا.
مع استمرار انقطاع العلاقات العربية -(مصر والمملكة العربية والإمارات والبحرين)- مع قطر دون بوادر للحل حتى الآن، وتوارد الأنباء بعزم الرياض إنشاء قناة “سلوى” على حدود قطر البرية مما يحولها إلى جزيرة. وعلى الجانب الأخر؛ استهداف الرياض من قبل الجماعات المسلحة مثل “الحوثيين” بالصواريخ البالستية إيرانية الصنع. علاوة على استمرار التصعيد الإسرائيلي تجاه غزة والقدس، في ضوء عزم الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” نقل السفارة الأميركية إلى القدس في مايو/ أيار المقبل.
تحظى هذه القمة بمشاركة واسعة من قبل القادة العرب، وعدد كبير من مسئولي المنظمات الإقليمية والدولية، في مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيرتيش”، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي “موسى فكي”، والممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي “فيدريكا موجريني”.
تعريف “الأمن القومي العربي”
يكمن تعريف “الأمن” وفقًا لـ”دائرة المعارف البريطانية” بإنه “حماية الأمة من خطر القهر من قبل أي قوة أجنبية”، فيما عرفه وزير الدفاع الأميركي الأسبق “روبرت مكنمارا” في كتابه “جوهر الأمن” بإنه “هو الإدراك الحقيقي للتهديدات التي تأثر على مقدرات الدولة، ومواجهتها لإعادة تنمية وتطوير هذه المقدرات على كافة الأصعدة في الوقت والحالي والمستقبل”. وذلك في إطار حماية مضمونة. وبذلك لم يعد يقتصر مفهوم الأمن على البعد العسكري، ولكنه امتد لشمل كافة الأبعاد السياسية والاقتصادية والمتصلة بالعدالة الاجتماعية.
عرفت الجامعة العربية مفهوم “الأمن القومي العربي” بإنه “قدرة الأمة العربية في الدفاع عن أمنها، واستقلالها، وحقوقها، وسيادتها، وتنمية قدراتها في مختلف المجالات –(السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية)- مرتكزة على مقدراتها الدبلوماسية والعسكرية في تحقيق ذلك. في إطار الأخذ في الاعتبار الاحتياجات الأمنية لكل دولة، والمتغيرات الداخلية والخارجية، التي تؤثر في الأمن القومي العربي”(1).
تهديدات “الأمن القومي العربي”
انقسمت التهديدات التي تواجه “الأمن القومي العربي” إلى: تهديدات نابعة من البيئة الخارجية سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي؛ تتمثل في الأطماع التوسعية لدول الجوار الجغرافي، والقوى الكبرى. مثل قيام دولة إسرائيل في قلب الوطن العربي، الاحتلال الأميركي للعراق، التدخلات الإيرانية والتركية في الأزمات الداخلية في أعقاب الثورات العربية.
أما التهديدات الداخلية؛ فتتجسد في تنامي التنظيمات الإرهابية ومحاولتها إسقاط مؤسسات الدولة الوطنية لإقامة دولتها العقائدية، تنامي النعرات الانفصالية، فضلاً عن انتشار المجاعات والأمراض والأوبئة، تتجلى هذه التهديدات في اليمن حيث يعاني من نعرات انفصالية تأججها حروب أهلية، وتدهور للأوضاع الإنسانية.
السياسات الأمنية التي تتبعها الدول العربية
تفتقر الدولة العربية لاستراتيجية موحدة لحماية “الأمن القومي العربي”، وذلك لعدم االإدراك لمصادر التهديد وسبل المواجهة، والتوافق حولها، إلا إنها اتخذت ثلاث مستويات في التعامل على النحو التالي:
1) مستوى الأمن القومي القطري “”National؛ يعني قيام كل دولة بحماية حدودها في إطار إلتزاماتها بتأمين حماية مواطنيها، ودفع التهديدات الخارجية، -فعلى سبيل المثال- بدأت الدولة المصرية بعد يوليو 2013 بإعادة ترتيب أولوياتها الخارجية بما يتوافق مع مصالحها الوطنية، دون الإنخراط في صراعات خارج أراضيها، أو دعم ميليشيات مسلحة. بدأت بالتصدي للتنظيمات الإرهابية الداخلية من خلال عمليات التطهير المستمرة مثل “العملية الشاملة” في سيناء.
ثم التحرك في العمق الاستراتيجي المصري في سياق جهود الوساطة خاصة في سوريا وليبيا، والتأكيد على الحل السياسي، وضرورة الحوار لحل الخلافات القائمة لدول الثورات العربية. فضلاً عن رعاية المصالحة الفلسطينية بين حركتي “فتح” و”حماس” بعد فشل الرعاية التركية والقطرية. مواجهة التعنت الإثيوبي وميل السودان إلى جانبها، بتدعيم علاقتها مع دولة “جنوب السودان” باستضافة الحركة الشعبية لتحرير السودان وتوحيدها، لدعم السلام وإنهاء الحرب الأهلية. كما وثقت علاقاتها مع اليونان وقبرص لمواجهة التحركات التركية وحماية مواردها الاقتصادية باعتبارها جزء لا يتجزأ من أمنها القومي.
بالإضافة إلى تنويع مصادر السلاح، وإقامة مناورات عسكرية مشتركة مع دول الجوار والدول الغربية مثل “رعد الشمال” التي انطلقت في الرياض في فبراير/ شباط 2016، و”حماة الصداقة ” في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، و”كليوبترا 2018″ في البحر الأحمر في فبراير / شباط 2018.
2) الأمن دون الإقليمي “Sub Regional”؛ يركز هذا المستوى على الأمن لعدد من الدول العربية، تمتلك نفس الإدراك لعناصر التهديد التي تواجهها، كما تمتلك قدرات متقاربة للتعبئة المشتركة لقواتها. -فعلى سبيل المثال- تواجه دول الخليج العربي تهديدات مستمرة في عمقها الاستراتيجي من قبل طهران تكاد تعصف بأنظمتهم، فضلًا عن تدهور الأوضاع في اليمن الواقعة في جنوب المملكة العربية والتي تشهد تدخل صريح من طهران.
سعت هذه الدول برعاية جهود المصالحة في اليمن فضلًا عن التدخل العسكري لاستعادة الشرعية في مارس/ آذار 2015، والتصدي للتدخلات الإيرانية المتجسدة في الدعم المادي والمعنوي للحوثيين. هذا بجانب دعوة الرياض لتشكيل التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب في ديسمبر/ كانون الأول 2015. وإطلاق عدد من المناورات العسكرية مثل “رعد الشمال” في فبراير / شباط 2016، “درع البحرين 1″ في ديسمبر/ كانون الأول 2016، و”جسر18″ في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، و”درع الخليج 1” في مارس/ آذار 2018.
3) الأمن القومي الإقليمي “Regional”؛ يرتكز هذا المستوى على مفهوم الشامل لـ”لأمن القومي العربي”، الذي يفترض وجود توافق بين الدول على مصادر التهديد، واستراتيجية مواجهتها. فبرغم من التدخلات الإيرانية في الخليج واحتلالها لبعض أراضيه، ورغبتها التوسعية المتنامية في المنطقة إلا إنها تحظى بعلاقات اقتصادية قوية مع دول المنطقة مثل عمان وقطر والإمارات.
وعلى الجانب الأخر؛ نجد التحرك التركي في العمق الاستراتيجي المصري، ومحاولتها المستمرة بالإضرار بالمصالح الاقتصادية المصرية في شرق المتوسط إلا إنها على علاقات وثيقة بمعظم الدول العربية وخاصة قطر، والسودان، والصومال.
تحديات تفعيل التعاون الأمني العربي
أصبح “الأمن القومي العربي” مرهونًا بالتوزانات القوة الإقليمية والدولية، بجانب اعتماده على الضمانات الدفاعية والأمنية من قبل القوى الكبرى تتجلى هذه التحديات على النحو التالي:
1) التدخل الخارجي؛ تحمل التدخلات الخارجية -(التركية، والإيرانية)- في جوهرها نزعات توسعية تكاد تعصف بأمن واستقرار المنطقة. استطاعت بعض القوى الإقليمية الفاعلة في بسط نفوذها داخل دول المنطقة مستغلة الفراغ الأمني، وتراجع الريادة العربية لبعض الدول نتيجة انغماسها في شئونها الداخلية. استخدمت هذه الدول عدد من الآليات التحرك اعتمدت بالأساس على المذهبية والطائفية لترسيخ النزعات الانفصالية بما يتوافق مع مصالحها الوطنية. أسهمت هذه الدول في اختراق النسيج العربي، مستغلة تضارب المصالح بين دول المنطقة.
2) انحسار دور الدولة؛ انعكست تداعيات الثورات العربية بشكل سلبي على سيادة ومركزية الدول العربية، مما قوض من قدراتها في حماية أمنها القومي. نتج عنه ما يعرف بـ”الدولة الفاشلة”، و”الدولة الهشة”، مع تنامي الجماعات المسلحة التي قدمت نفسها بديلًا للدولة المركزية، فضلاً عن كونها ذات طابع طائفي أو مذهبي مكنها من تلقي الدعم من بعض القوى الخارجية لتكون أداة لتنفيذ أجنداتها الخارجية. تجلي في دعم طهران للحوثيين في اليمن، ومساندة أنقرة لعدد من المليشيات المسلحة “الجيش السوري الحر” في سوريا لتكون أداة لتنفيذ مصالحها.
3) تنامي النزعات الانفصالية؛ عزز تراجع دولة الوطنية من تزايد النعرات الانفصالية للبعض القوميات في المنطقة مستغلة حالة الفوضى والاقتتال الداخلي، معلنة عن رغبتها في التخلص من أعباء الدولة الأم، وتأسيس دولتها. برز ذلك في إقليم كردستان العراق، الذي حاول الانفصال عن بغداد بعد تمكنه من التصدي لتنظيمات الإرهابية. وذلك في إطار هشاشة الدولة العراقية التي تراجعت في تحقيق دورها الأمني بكفاءة وفعالية. أدى ذلك إلى تدخل تركيا وإيران بشكل كبير لوقف هذا المشروع ليس حفاظًا على أمن العراق، بل أمنهم القومي.
4) نزعة “الحياد”؛ تعد المصالح المحرك الأول في العلاقات بين الدول، لذا تبحث كل دولة عن تحقيق مصالحها الوطنية بمنأى عن باقي دول الجوار. فبرغم من التدخلات الإيرانية والتركية في المنطقة، إلا إن هناك عدم توافق حول هذه التدخلات ما هل تمثل تهديد على “الأمن القومي العربي” أم لا؟.
تجسد في التعاون القطري مع أنقرة والإنضواء تحت مظلتها، علاوة على تكثيف التعاون مع طهران. هذا بجانب السودان التي تنتهج سياسة خارجية أكثر حدة وتأثر بشكل كبير على الأمن القومي العربي من خلال منح بعض جزرها “سواكن” إلى أنقرة لإعادة تهيئتها وإعمارها، بالإضافة إلى التغريد العماني خارج السرب الخليجي بتوطيد العلاقات مع طهران وتعزز فرص التعاون الاقتصادي(2).
5) ضعف الإمكانيات الاقتصادية: تعاني العديد من الدول العربية من تدهور في الأوضاع الاقتصادية نتيجة إنهيار الأنظمة الحاكمة في بعض الدول، وانتشار الفوضى وعدم الاستقرار، إندلاع الحروب الأهلية، تنامي الجماعات المسلحة، تزايد الإنفاق العسكري لمواجهة هذه التهديدات، بجانب تقلب أسعار النفط. تحاول بعض الدول إعادة بناء نفسها مرة ثانية معتمدة على الدعم والإقتراض الخارجي، لذا فإن تفعيل التعاون الأمني ما بين الدول العربية يعد صعبًا في الوقت الراهن.
الإدراك العربي للتهديدات وسبل المواجهة
لصياغة استراتيجية لـ”لأمن القومي العربي” لابد أن ترتكز على إدراك التهديدات الداخلية والخارجية، ثم رسم استراتيجية لتنمية الدولة وإعادة بناءها. مع بناء القوات المسلحة والشرطة لتصدي ومواجهةالتهديدات القائمة، واخيرًا إعداد سيناريوهات للمواجهة تتناسب بشكل طردي مع تصاعد التهديدات.
أدرك العرب منذ خمسنيات القرن الماضي مدى خطوة تنامي التهديدات الخارجية على أمنهم القومي، تجسد في توقيع اتفاقية الدفاع المشترك، لمواجهة هذه التهديدات كان في جوهرها الصراع العربي-الإسرائيلي، الذي مثل أساس لنظرية الأمن القومي العربي. ثم توالى تفعيل المعاهدة في عام 1964 عندما أقرت القمة العربية بالإسكندرية التصدي للخطر الإسرائيلي على مياه نهر الأردن وتحويل مجراه، كما تم تفعيلها في سياق حرب الخليج الثانية عام 1991.
وفي هذا السياق؛ مازالت الدول العربية في مرمى الاستهداف الخارجي الذي يكاد يعصف بدولها وبمؤسساتها وشعوبها. نتيجة تنامي التدخلات الخارجية وتأثيرها على عملية صنع القرار العربي. لذا لابد من مواجتها عبر استراتيجية متعددة المحاور تتوافق مع مصالح الدول العربية، بما يعزز الأمن القومي العربي. خارج سياسة الشجب والإدانة والاستنكار التي مازالت قائمة منذ عقود من الزمن.
ختامًا؛ استطاعت القيادات العربية في الأونة الأخيرة استعادة زمام الأمور على المستوى الداخلي والخارجي، وتكوين تحالفات وشراكات استراتيجية مع بعضها البعض لتصدي للتحديات والمخاطر التي تمر بها المنطقة. برز توافق عدد من الدول حول بعض الملفات المثارة التي شكلت نقطة انطلاق لتوصيف الخطر الحقيقي، ومآلاته عليهم في الوقت الراهن. إلا إنه لا يمكن القول أن هناك استراتيجية موحدة للأمن القومي العربي، فمازال يتم التعامل معه بالتجزئة إلى ملفات وهذه السياسة لا يمكنها أن تصنع استراتيجية موحدة وفعالة في التعامل مع هذه التهديدات.