قضية فلسطين وقوة القرارات الدولية .. القدس نموذجا كما يكتب فتحي كليب
فتحي كليب *
كاتب فلسطيني / لبنان
ما زال القرار رقم (22/ 10) الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة بتاريخ 21/12/2017 بشأن القدس موضع نقاش بين اساتذة وخبراء القانوني الدولي حول الاهمية القانونية لهذا القرار ومدى قوته.. وقد تابعت قبل ايام حلقة على احدى الفضائيات العربية حول مدى الزامية قرار الجمعية العامة الذي رفض قرار الرئيس الامريكي دونالد ترامب بشأن اعتراف بلاده بالقدس “عاصمة لاسرائيل”. وكان احد اطراف الحلقة استاذ في القانون الدولي في احدى الجامعات العربية، اصر على عدم الزامية ذلك القرار انطلاقا من كون قرارات الجمعية العامة مجرد توصيات او قرارات استشارية لا صبغة الزامية لها.. وهو الامر الذي دفعني للكتابة..
من البديهي التأكيد اولا على ان قرارات المنظمات الدولية، سواء الامم المتحدة بمختلف هيئاتها او غيرها من الهيئات الدولية والاقليمية، لا تمنح ولا تنشئ حقوقا للدول والشعوب، بل ان وظيفة هذه الهيئات هي التأكيد على حقوق هي اما قائمة بالفعل او تلاشت بفعل تطورات دولية وتم اعادة احياءها من جديد، كما يحصل القضية الفلسطينية لجهة مئات القرارات الدولية التي صدرت عن منظمات دولية مختلفة تدعم حق الشعب الفلسطيني بأرضه وبملكيته لها منذ آلاف السنين.. وهذا ما ينطبق تماما على قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم (194) الصادر بتاريخ 11 كانون الاول عام 1948 والذي اكد على حق قائم وموجود قبل قيام دولة الاحتلال الاسرائيلي، وهو ما تؤكده تقارير الوسيط الدولي الكونت برنادوت الذي تحدث عن حق العودة قبل صدور القرار (194). وبالتالي ورغم صدور القرار عن الجمعية العامة، فان الحيثيات التي تم الاستناد عليها وربطها بقضية هامة من قضايا حقوق الانسان وهي “حق لكل فرد بمغادرة اي بلد بما في ذلك بلده وفي العودة اليه”، ما جعل توصية الجمعية العامة ترتقي بهذا القرار الى منزلة الالزام حتى لو كان صادرا عن الجمعية العامة..
وفي العودة الى القضية الاساس، فان القرار الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 21 كانون الاول 2017 يحمل الصفة الالزامية سواء في التفسير القانوني او السياسي، وهو بالتالي ملزما لجميع اعضاء الاسرة الدولية حتى لو كان صادرا عن هيئة تصدر توصيات كالجمعية العامة، لأن القرارات الدولية هي ليست على نفس الاهمية وليست بنفس القوة القانونية حتى لو كانت صادرة من هيئة واحدة.. ولتأكيد الزامية ذلك القرار سواء بالنسبة لمنظمات الامم المتحدة التي يجب ان تتعاطى مع القدس انطلاقا من ذلك القرار الذي يرفض الاعتراف بالقرار الامريكي، او بالنسبة لاعضاء الاسرة الدولية الملزمين باحترام قرار هيئة هم جزءا رئيسيا منها. ويمكن الاستفادة من بعض العناوين على سبيل الاشارة وليس الحصر:
اولا: ان التصويت جاء جامعا للقارات الخمس التي اجمعت على رفض القرار الامريكي وهذا ما يمثل رغبة دولية علنية وصريحة برفض الاعتراف بواقع سعت الادارة الامريكية لفرضه على الارض نقيضا لعشرات القرارات الدولية التي تؤكد ان القدس هي مدينة فلسطينية محتلة وان لا رابط تاريخي بينها وبين مزاعم الحركة الصهيونية حول ملكيتها للشعب اليهودي. وهذا ما اكدته منظمة “اليونيسكو” في تشرين اول 2016 بنفي وجود ارتباط ديني لليهود بالمسجد الاقصى وحائط البراق.
ثانيا: ان التصويت ايضا جاء شاملا لجميع الاعراق والاثنيات ولدول كبرى وصغرى وجميع دول مجلس الامن ودول تمثل جميع الاتجاهات الدولية، جغرافيا وسباسيا، وهذا ما يعطيه قوة تضاف الى الحيثيات التي اوردتهما الدولتين اللتين تقدمتا بمشروع القرار (تركيا واليمن)..
ثالثا: ان القرار جاء بعد التهديد العلني من قبل الرئيس الامريكي وممثلته في الامم المتحدة نيكي هايلي بعقاب اقتصادي، وربما اكثر، للدول التي ستصوت ضد القرار الامريكي. ورغم اهمية المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لعشرات الدول في افريقيا وآسيا وامريكا وبعض بلدان اوروبا، الا ان هذه الدول فضلت الانحياز الى جانب الشعب الفلسطيني الذي لا يتسلح الا بقوته وصلابته وعزيمته وايمانه بحقه في ارضه وبلاده.. وهذا ايضا ما يشكل عاملا اضافيا في اضفاء الشرعية الدولية الجماعية على القرار المذكور..
رابعا: هذه النقطة تعتبر الاهم بين كل الحيثيات التي تؤكد الزامية قرار الجمعية العامة، وهو صدوره تحت بند “متحدون من اجل السلام”، حيث عقدت الجمعية العامة جلستها الاستثنائية الطارئة العاشرة تحت هذا العنوان وبالاستناد الى قرارها رقم (377) الصادر في 3 تشرين الثاني عام 1950، والذي يجيز للجمعية العامة أن تعقد دورة استثنائية طارئة خلال 24 ساعة، “إذا بدا أن هناك تهديدا للسلام أو أن هناك عملا من أعمال العدوان، ولم يتمكن مجلس الأمن من التصرف بسبب تصويت سلبي من جانب عضو دائم. حيث يمكنها أن تنظر في المسألة على الفور من أجل إصدار توصيات إلى الأعضاء باتخاذ تدابير جماعية لصون أو إعادة السلام والأمن الدوليين”، اي ان الجمعية العامة تتصرف باعتبارها بديلا لمجلس الامن الذي اخفق نتيجة سلوك من احد اعضاءه. (القرار 377 (د – 5) الصادر في 3 تشرين الثاني 1950 تحت عنوان “متحدون من اجل السلام”)
وليس فقط تهديد السلم الدولي للخطر فقط وفقا للنص السابق او حيثية عدم جواز اكتساب راضي الغير بالقوة، او لكون القدس وفقا للقانون الدولي اراض فلسطينية محتلة.. بل ان ما يعطي القرار – اهميته اضافة الى ما سبق اسباب اخرى تعطي هذه التوصية قوة قانونية تضاهي في قوتها القرارات الصادرة عن مجلس الامن بل وتتقدم عليها في احيان كثيرة. وهذا ما تؤكده بعض السوابق التاريخية لعل اهمها على الاطلاق قضيتا الحرب الكورية عام 1950 والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، عندما تداعت الجمعية العامة للاجتماع وفقا للقرار 377 ، متحدون من اجل السلام.
هل يعتبر قرار الرئيس الامريكي الاعتراف بمدينة القدس عاصمة لاسرائيل تهديدا للسلام بحيث يتوجب على اعضاء الاسرة الدولية التصدي له واسقاطه ليس فقط باعتباره يهدد الامن والسلم في الشرق الاوسط وفي العالم بل ولتناقضه مع عشرات القرارات الدولية المتعلقة بالقدس (مجلس الأمن 12 قرار، الجمعية العامة 9 قرارات، اليونسكو 6 قرارات ) ؟
الاجابة طبعا كانت في نسب التصويت المرتفعة. فقد صدر القرار رقم (22/ 10) عن الجمعية العامة للامم المتحدة بتاريخ 2017/12/21 بنسبة تصويت بلغت (93 بالمائة) من الأعضاء الحاضرين المصوتين فعلياً والبالغ عددهم 137صوتاً في حين كان يكفي القرار لنجاحه موافقة 91 صوتاً (66 بالمائة) وفقا للمادة 18 من الميثاق التي تشير الى ضرورة موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين المشاركين في التصويت، مع عدم احتساب 35 صوتا لدول امتنعت عن التصويت والذين لا يتم احتسابهم في التصويت وفقا للمادة (86) من النظام الداخلي للجمعية العامة (128 صوتا مع، 9 ضد و 21 صوتا غائبا)..
لكن رغم ذلك ستبقى هذه المسألة عرضة لنقاش واجتهادات قانونية تبدأ ولا تنتهي والغلبة فيها ليس لمن يمتلك القوة والحجة القانونية، بل لمن يمتلك القدرة على ترجمة سياساته واقعا على الارض، ولمن يمتلك القوة القادرة على انتزاع حقوقه. وبالتالي فان القرار المذكور قد تكون له قيمة قوية تفوق قيمة قرارات مجلس الامن اذا ما توفرت الادوات البشرية القادرة على حماية اي قرار تصدره مؤسسات الامم المتحدة. ويمكن ان نأتي بقرارات كثيرة صادرة عن مجلس الامن، لكن لم تجد طريقها للتنفيذ نتيجة اما عدم توافر الرغبة لدى اصحابها او بسبب التجاذبات الدولية التي جعلتها حبرا على ورق..
بالنسبة الينا كفلسطينيين فقد صدرت قرارات – توصيات عن الجمعية العامة للامم المتحدة وكان وقعها على الارض اهم من قرارات صدرت عن مجلس الامن، ومن هذه القرارات القرار الشهير الذي حمل الرقم (3236) لعام 1974 وما تلاه من قرارات وصفت ب “شرعة حقوق الشعب الفلسطيني” نظرا لما تركته من آثار سياسية وقانونية سواء لجهة اعتراف العالم ومنظماته بالحقوق الفلسطينية او بالكيان السياسي الذي يمثل هذ الشعب (منظمة التحرير الفلسطينية) او لجهة الاعتراف بنضاله من اجل استرجاع حقوقه الوطنية بما فيها النضال العسكري..
هذه القرارات ورغم انها صادرة عن الجمعية العامة للامم المتحدة، فقد كان وقعها اقوى من قرارات مجلس امن ومصدر قوتها كان نابعا من مرتكزات اربعة: الاول ارادة سياسية لدى القيادة الفلسطينية، الثاني وحدة وطنية تشكلت بين جميع التيارات السياسية رغم وجود تباين واختلاف سياسي كبير فيما بينها، ثالثا مشروع سياسي ظل غائبا ومغيبا منذ العام 1948، بحيث بقي المشروع الصهيوني هو المشروع الوحيد الموجود على طاولة القوى الدولية، واخيرا شعب التف حول قيادته ومؤمن بعدالة قضيته وباستعداده الدائم لتقديم التضحيات من اجل استرجاع حقوقه الوطنية..
لعل النظرة الى واقعنا تبرز حجم الهوة الكبيرة بين اليوم والامس، ونقطة الانطلاق في المعالجة تبدأ أولا من الحالة الفلسطينية عبر اعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني باعتباره مشروعا لحركة تحرر وطني تناضل من اجل حقوق منتهكة وتتعرض للقضم بشكل يومي على يد احتلال موصوف باعتراف الامم المتحدة وقراراتها. وبالتالي فان اعادة استحضار مشروعنا الوطني، بغض النظر عن اختلاف موازين القوى المحلية والاقليمية والدولية، يعني ضرورة القناعة بأن طبيعة الصراع الفلسطيني تتطلب اولا العودة الى الاصول باعتبار ان صراعنا مع الاحتلال هي قضية شعب وارض وحقوق لا تجزأة بينها وبين حق وحق..
ثانيا: التعاطي مع قضايا الوحدة الوطنية ليس باعتبارها خيارا بين مجموعة خيارات، بل ان تعقيدات القضية الفلسطينية وتشعب ملفاتها تتطلب تصدي جميع القوى السياسية للتحديات الراهنة، وهذا لن يتحقق الا في اطار شراكة وطنية على مستوى صناعة القرار وتحمل المسؤولية من قبل جميع المكونات الفلسطينية وهذا بدوره يتطلب فكرا وحدويا جديدا بعيدا عن الصيغ الفصائلية التي جربت مرات ومرات وكانت النتائج اصفارا مكعبة…
ثالثا: مواجهة المشروع الصهيوني بمشروع وطني فلسطيني ينبغي نفض الغبار عنه واعادة احياءه من جديد باعتباره يحظى بدعم كل اطياف الشعب وتطويره باستيعاب الجديد بما يخدم العملية الوطنية، وهذا المشروع لا يمكن ان يشق طريقه ما لم يكن مدعوما بحركة شعبية في ميدان المواجهة الفعلية للاحتلال وسياساته.. وكم من العناوين الوطنية تكفي لأن تشعل انتفاضة على مساحة الارض الفلسطينية (الاستيطان، الاسرى، حصار قطاع غزه، سرقة المياه، الشوارع والطرق الالتفافية والحواجز، تهويد القدس اضافة الى القضايا الاقتصادية وغيرها من العناوين).
رابعا: التعاطي مع جميع تجمعات الشعب الفلسطيني باعتباره واحدا موحدا والسعي ما امكن لحل المشكلات التي ترزح تحت وطأتها هذه التجمعات وافساح الطريق امامها للمشاركة في العملية الوطنية بكل ما يعنيه ذلك من مهمات ينبغي التصدي لها بشكل موحد على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والقانونية وغيرها. (الازمة السورية وانعكاسها على الوجود الفلسطيني في سوريا، حصار قطاع غزه وما يسببه من تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية، التجمعات الفلسطينية في لبنان واستهدافها سياسيا واجتماعيا عبر مشاريع تخلخل النسيج الاجتماعي للاجئين).
ان المرحلة الراهنة التي تعيشها القضية الفلسطينية بجميع تفصيلاتها وعناوينها تتطلب نظرة فلسطينية جديدة الى ما يدور حولنا من صراعات اقليمية ودولية لا مكان فيها الا للشعوب التي تمتلك الارادة على الصمود ومواجهة ما يتهددها من مخاطر كبرى، وهذا ما يتطلب فلسطينيا اعادة النظر بكل تفاصيل عملنا اليومي بأدق جزئياته سواء في علاقتنا الداخلية وما تتطلبه من تغيير في نمط ومضمون هذه العلاقات الغير طبيعية وضرب تلك البنى التي لها مصلحة في ابقاء واقعنا على ما هو عليه او في علاقاتنا مع الخارج التي جربت منذ ما يزيد من ربع قرن والنتائج ماثلة امامنا بواقع مأساوي على مختلف المستويات..