أقلام وأراء

في التحرر المعرفي: مساهمة أولية في تشكيل إطار تفكير فلسطيني!

وليد سالم 26-8-2021م

تهدف هذه المساهمة إلى إثارة موضوع التحرر المعرفي في حالة فلسطين الخاضعة للشرط الاستيطاني الاستعماري. وتنطلق الورقة من افتراض أن التحرر المعرفي من مفاهيم الاستعمار و”احتلال العقول” كما سماه فرانز فانون في ستينيات القرن الماضي، هو أحد أشكال المقاومة الهامة للاستعمار، والذي ينضاف لأساليب المقاومة الأخرى: المقاومة السياسية والدبلوماسية، والمقاومة الكفاحية الميدانية، والمقاومة الاقتصادية التنموية، والمقاومة القانونية، والمقاومة الإعلامية. بل إن التحرر المعرفي يقف في المقدمة لإطلاق تلك الأشكال الكفاحية الأخرى، فكيف للمرء أن يكافح ميدانيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، وقانونيًا وإعلاميًا، إذا كان عقله/ ها محتلًا؟ فالبداية إذًا لكل أمر آخر هي تحرر العقول أولًا من استبطان المفاهيم الاستعمارية تفكيرًا ومناهج بحث، والانفكاك عنها. يدور الحديث هنا عن التحرر من المفاهيم الاستعمارية كأعلوية العرق الأبيض والإنسان الغربي – الصهيوني، وليس عن المفاهيم والقيم الإنسانية التي تجمع عليها البشرية، والتي هي نتاج تراكم المعرفة البشرية. يناهض هذه الأخيرة دعاة ما يطلق عليه اسم “صدام الحضارات” و”الغزو الفكري” الذين يقسمون العالم إلى فسطاطين لا رابط بينهما سوى حالة الحرب الدائمة.

تبدأ هذه المساهمة الموجزة بتأطير نظري تاريخي لموضوع التحرر المعرفي، ثم تنطلق إلى الحالة الخاصة لفلسطين في هذا الإطار، وفي النهاية تقدم بعض الاقتراحات لتطوير البحث العلمي الفلسطيني المتحرر من المفاهيم الاستعمارية والاستيطانية الاستعمارية.

الإطار النظري

ظهرت مقاربة التحرر المعرفي أولا في الدراسات ما بعد الاستعمارية (Postcolonial Studies)، وتطورت مضامين تعريفه والتوجهات البحثية بشأنه مع تطور هذه الدراسات. ويمكن العودة بداية إلى فرانز فانون في كتابه “بشرة سوداء – أقنعة بيضاء” الذي صدر أول مرة عام 1952، والذي طرح فيه كيف يستبطن السود اللغة والمفاهيم الاستيطانية الاستعمارية ونعوتها المعرفية ومفاهيمها النمطية (stereotypes) في تعاملهم مع بعضهم البعض، أثناء وبعد زوال الاستعمار العسكري، وكيف تنعكس هذه المفاهيم على الدراسات الأكاديمية التي تستعير الخطاب الاستعماري الغربي في دراسة مجتمعاتها. وفي الفترة ذاتها، كتب الباحث من جزر المارتينيك إيمي سيزير كتابه “الحوار حول الاستعمار” (Discourse on Colonialism) عام 1950. حللت هذه الدراسات آثار الاستعمار الراحل على المجتمعات ما بعد الاستعمارية، سيما في المجالات الثقافية والمعرفية والاجتماعية. بشكل عام، تبحث الدراسات ما بعد الاستعمارية في الكيفيات التي يحافظ من خلالها الاستعمار السابق على سيطرته على البلدان المستعمرة بعد رحيل قواته منها، والوسائل التي يستخدمها بهذا الاتجاه من إعلام وأفكار وتمويل وتكنولوجيا، وأطروحات تفوق إثني تقوم على سمو الإنسان الغربي المتحضر على الأعراق الأخرى، التي يُنظر إليها على أنها أقل تطورًا أو أنها متخلفة (underdeveloped) قياسًا بالدول المتقدمة (Developed Countries).

بعد الدراسات الأولى في حقل الدراسات ما بعد الاستعمارية، تطورت حقول فرعية في جنوب العالم الذي كان خاضعًا للاستعمار، وكذلك من قبل بقايا الشعوب الأصلية والسود والمكسيكيين في الولايات المتحدة، التي خضعت لعملية استيطان استعماري أباد الغالبية العظمى من الشعوب الأصلية منذ قام كريستوفر كولومبوس باكتشافها عام 1492. ففي عام 1957 أطلق الأكاديمي – السياسي الجنوب أفريقي، ليوبولد ماركوارد، مصطلح “الاستعمار الداخلي” (Internal Colonialism) على نظام الأبرتهايد الذي كان قائمًا في جنوب أفريقيا آنذاك، مبينًا كيف يقوم هذا النظام على الفصل السياسي، والتمييز الاجتماعي، والتمييز الاقتصادي، والإخضاع المعرفي الثقافي المستند إلى أيديولوجيا عرقية عنصرية. وفي عام 1965 استخدم الباحث الأميركي – اللاتيني، بابلو غونزاليس كازانوفا، مصطلح الاستعمار الداخلي لمعالجة حالة التبعية الاقتصادية والتطور اللامتكافئ في دول تلك القارة، والمفاهيم النيوليبرالية التي طرحت لترويجها فيها من قبل الدول الاستعمارية السابقة. ولكن الباحث الأميركي روبرت بلاونر طرح المفهوم عام 1973 للتعبير عن حالة تقوم فيها الأغلبية الحاكمة في الولايات المتحدة بفرض حالة احتلال ضد الأقلية السوداء داخلها. أما الباحث الأميركي من أصل مكسيكي، رودلفو أكونا، فقد استعاد احتلال أميركا لمساحات واسعة من المكسيك في القرن التاسع عشر، مثل ولايتي تكساس وكاليفورنيا وغيرهما، وفي إطار ذلك نظر في كتابه “أميركا المحتلة” عام 1981 للمفهوم ذاته على أنه تعبير السيطرة على شعب آخر بعد احتلال أراضيه بالقوة، بحيث يصبح هذا الشعب الآخر في حالة رعايا لا مواطنين خاضعين، رغم إرادتهم للحكم الجديد ولسياسات الإبادة العرقية والثقافية. وقد درس أكونا حالة المكسيكيين والمكسيكيات (تشيكانو وتشيكانا) الذين أصبحوا خاضعين للحكم الأميركي رغماً عنهم/ ن بعد احتلال أميركا لتلك الأجزاء من بلادهم. وقد استعار الباحث الفلسطيني، إيليا زريق، مفهوم الاستعمار الداخلي لدراسة حالة فلسطينيي 1948، وذلك في كتاب صدر عام 1979 ودرس فيه حالة مصادرة أراضيهم وفرض الحكم العسكري عليهم حتى عام 1966، واتباعهم للاقتصاد الإسرائيلي ومحاولة أسرلة هويتهم.

عوضًا عن دراسات الاستعمار الداخلي، ظهرت دراسات أخرى تحت عنوان النيوكولونيالية منذ أن ابتكر الزعيم الغاني، كوامي نكروما، هذا المصطلح عام 1965، ليعبر به عن حالة أن الاستعمار قد خرج من الباب منهيًا بذلك احتلاله العسكري، ولكنه عاد من الشباك بوسائل اقتصادية وتكنولوجية وثقافية مهيمنة. ولا زال هذا الوصف صالحًا حتى اليوم لحالة الدول التي كانت خاضعة للاستعمار المباشر حتى منتصف القرن الماضي قد شهدت الدراسات ما بعد الاستعمارية نقلة نوعية بعد صدور كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق عام 1978. شرح هذا الكتاب النظرة الغربية للشرق بوصفه الأرض العذراء التي يحن لها الغربيون من جهة، ولكن الذي يتمتع بوضع دوني عن العرب في الوقت ذاته، لذلك فهو بحاجة للإنسان الغربي ليقوم بتطويره وتحديثه. درس سعيد الأدب والفكر الاستشراقي الغربي وكشف هذه المضامين المعبر عنها فيه. وقد أطلق كتاب سعيد سيلا من الدراسات ما بعد الاستعمارية التي راحت تدرس الآثار الثقافية للاستعمار على القطاعات المهمشة من الشعوب التي كانت مستعمرة، مثل دراسات المهمشين في الهند (Subaltern) لغياتري سبيفاك وهومي بهابها وغيرهما، ولاحقًا دراسات “الكولونياليتي” (Coloniality) التي أطلقها الباحث البيروفي، آنيبال كويخانو، عام 2000. واهتمت هذه الدراسات بمسألة تلازم المعرفة مع القوة، والكيفية التي تنتج بها القوة المعرفة السائدة على حساب المعرفة التي تتعرض للتهميش والإقصاء. كما اهتم كويخانو بدراسة الطرز الثقافية والاجتماعية التي يخلفها الاستعمار في المستعمرات السابقة شاملة السرديات وأشكال الهوية وطرق التعبير عنها، والمفاهيم المعرفية المستعارة من الاستعمار والتي تستخدمها نخب الدول التي خضعت للاستعمار السابق في دراسة مجتمعاتها. ولاحقًا طور والتر ميجنولو عام 2007 آفاقا بحثية تعالج كيفية التحرر من الكولونياليتي (decoloniality) والانفكاك عنها (De-Linking)، إذ ميّز أيضًا بين التحرر من الاستعمار (liberation) وبين الانعتاق (emancipation)، مبينًا كيف أن الأحادية العالمية تركز على فرض الثاني بما هو تحرر للمرأة وتفكيك القيود الاجتماعية ونشر المفاهيم الليبرالية على حساب الأول، فيما تُركز التعددية العالمية المنطلقة من جنوب العالم على تلازم العمل على أجندة التحرر وأجندة الانعتاق في آن معًا، وبلا تناقض بينهما.

تعود فكرة تلازم المعرفة مع القوة الى المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، الذي رفعها إلى مستوى القاعدة (The rule of immanence)، وتشمل القوة هنا القوة الصلبة والقوة الناعمة سواء بسواء. يرمي الشكل الأول إلى استخدام القوة المباشرة لإحداث تغيير في الواقع يؤدي لإنتاج وعي جديد. أما الشكل الثاني، فإنه يستخدم الإعلام وإنتاج الأفكار والعلاقات الاقتصادية وتشويه الهوية والمواطنة وشراء النخب وتطويعها وغيرها، لجعل العالم يسير وفق قيم واحدة هي قيم الغرب، معبرًا بذلك عن مركزانية غربية (western centrism)، تهدف إلى فرض رؤاها العالمية الأحادية (universalism) على العالم بديلًا للرؤية العالمية التعددية(plural versalism)، التي تقول بتعدد الثقافات والقيم ومنهجيات المعرفة، مع ما ينشأ عن ذلك من ضرورة تفاعل هذه التعدديات معًا واعتراف كل منها بالأخرى، بديلًا عن فرض الأحادية الغربية كما طرح كويخانو وميجنولو.

في العالم العربي تظهر نتائج الكولونياليتي بوضوح على البحث العلمي، فقد أدت التقسيمات الاستعمارية واتفاقيات سايكس – بيكو لعام 1916، إلى تفتيت المنطقة إلى كيانات وطنية بعضها نجح في إنشاء دول ومؤسسات، وبعضها الآخر لا زال يعاني من فشل مزمن في تحقيق ذلك. ونجم عن هذه الترتيبات التي استخدمت القوة الصلبة لإحداثها، أطر معرفية وفكرية تتبنى خطاب التحديث الليبرالي، والاقتصادوية النيوليبرالية، وأفكار الخضوع للغرب، والتفكير بتشكيل أطر مؤسسية شرق أوسطية ومتوسطية على حساب التفكير بكيفية تطوير الوحدة العربية على سبيل المثال. فتح ذلك المجال للتفكير بمنطق “المصلحة الوطنية” على حساب القيم القومية الجمعية، وبالتالي أصبح ممكنًا إقامة وتوثيق العلاقات مع إسرائيل طالما تطلبت “المصلحة الوطنية ذلك”. وقد عززت القوة الناعمة وأفكارها المستخدمة في إطار العلاقات القائمة بين الدول العربية والغرب من هذه التوجهات، إذ تبنت هذه المفاهيم نخب عربية سياسية واقتصادية وفكرية معولمة، تعزز التجزئة القطرية وهوياتها المبعثرة ومصالحها المفتتة والأطر الفكرية النيوليبرالية حول العالم والمنطقة.

أسس تصريح بلفور لعام 1917 رسميًا لنشوء دولة إسرائيل كامتداد غربي في المنطقة، وفرضت القوة الغربية الصلبة تأسيس إسرائيل عام 1948 كامتداد لها في المنطقة، وفُرض تلازم القوة والمعرفة الغربي على العرب التعامل مع الصهيونية منذ مؤتمر باريس للسلام عام 1913، حين طرح بعض العرب المشاركين في المؤتمر وبعده أن لليهود حقوقا تاريخية في فلسطين، وقدموا فكرة “اتحاد الشعوب السامية بين العرب واليهود”، وهي الفكرة التي تطورت لاحقًا من خلال مفاوضات الحركة الصهيونية مع العديد من القوى العربية في سورية والعراق ومصر، وذلك قبل تأسيس دولة إسرائيل كما درس الدكتور محمود محارب في عدة كتب وأبحاث، وكذلك وفق وثائق ومحاضر اللقاءات من قبل الصهيونية مع هذه القوى، كما هي منشورة في مجلدات صدرت عن الجمعية الفلسطينية الأكاديمية لدراسة الشؤون الدولية (باسيا).

فلسطين وحالة التغييب المعرفي

عالجت الدراسات ما بعد الاستعمارية بفروعها المختلفة حالات الدول التي تخلصت من الاستعمار العسكري المباشر وحصلت على الاستقلال؛ بهذا المعنى فقد حللت هذه الدراسات الأثر الذي تركه الاستعمار بعد أن رحل، بما في ذلك استمرار احتلال الثقافة ومنهجيات وأدوات المعرفة. الموضوع مخالف في حالة فلسطين، حيث الاستعمار لم يرحل بعد، ولكنه على العكس من ذلك لا زال يتوطد ويتعزز، مستخدمًا أدوات معرفية أيضًا من أجل تعزيزه، جوهرها هو شطب فلسطين من دائرة المعرفة المهيمنة، وهو تغييب بدأ منذ القرن الثامن عشر حين نشطت في فلسطين جمعيات أفنجليكانية توشحت بلبوس العلم، مثل صندوق اكتشاف فلسطين وغيره، إذ لم يكن لتلك الجمعيات من هَم سوى اكتشاف المواقع المذكورة في التوراة فيها.

تعزز تغييب فلسطين رسميًا من خلال تصريح بلفور عام 1917، والذي حصر الحقوق الوطنية الجماعية فيها على اليهود، أما “باقي الطوائف غير اليهودية ” كما تمت تسميتها في ذلك التصريح، فقد جرى حصر حقوقها في حقوق فردية ودينية. ولم يتم تغيير هذا الحال حتى اتفاق أوسلو الذي نص في ديباجته على “الحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني”، ولكنه أبقاها في مستوى الإبهام، إذ لم يتم النص بوضوح على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. وجاء قانون الدولة القومية الإسرائيلي (“قانون القومية”) لعام 2018، ليعيد تأكيد ما ورد في تصريح بلفور: حقوق جماعية حصرية لـ”شعب إسرائيل” على “أرض إسرائيل”، فيما يكتفي بحقوق فردية ودينية لسواهم. وجاءت “صفقة القرن” الأميركية في مطلع عام 2020 لتؤكد على ذات فحوى قانون الدولة القومية.

يعني ما تقدم أن الفلسطينيين كشعب قد وضعوا خارج إطار حق تقرير المصير والحق في بناء حداثتهم. وقد جاء اتفاق أوسلو ليضع الفلسطينيين في دائرة احتمالية الحصول على حق تقرير المصير و”في موقع الاحتمال الحداثي” (ناشف، 2010، ص. 12)، شارطًا الانتقال إليها بنجاح المفاوضات في تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967. وبعد أوسلو ظل الفلسطينيون يتأرجحون بين تحقق الحداثة إذا ما تم بناء نظامهم السياسي والقانوني والاقتصادي في حال التوصل إلى تسوية سياسية متفق عليها، وبين البقاء في وضع الاحتمال الحداثي، أو النزول عنه مجددًا إلى حالة الشطب التام من الحق في الحداثة كما كان عليه الحال مع تصريح بلفور، ولا زالت حالة التأرجح هذه قائمة حتى اليوم. لا تعني هذه الخطط أنه جرى قبولها من الشعب الفلسطيني، فقد بقي يقاومها فارضا حداثته ومجتمعة المبني على المشاركة والتعددية والانتخابات (أبو لغد وآخرون، 1993)، وفيما لم ينتصر الشعب الفلسطيني حتى اليوم، إلا أنه في المقابل لم يهزم، ما يتيح المجال لتكرار المحاولات حتى النصر.

في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، تغطى المشروع الصهيوني بترسانة من المقولات التي سعى لتجسيدها على الأرض كمقولة العرق اليهودي المستمر في المنفى على مدى ألفي عام، ذو الحق في نفي المنفى المتسم بأزلية اللاسامية وكره اليهود عبر العودة إلى “أرض الميعاد” المسماة بـ”أرض إسرائيل”، من أجل إقامة مجتمع حداثي فيها بعد إخراج الغرباء الذين سيطروا عليها بعد نفي اليهود منها قبل ألفي عام، وإخضاع من يتبقى منهم لحكم اليهود من دون التساوي في الحقوق مع الآخرين. في هذا الإطار روجت دعاية أن الحركة الصهيونية هي حركة تحرر وطني، وأنها تميزت بالأخلاقية وبالتالي فقد بنت في المناطق الفارغة إلى جانب الفلسطينيين وليس على حسابهم، وأنها اختارت أسلوب شراء الاراضي وليس الاستحواذ القسري عليها. وبناءً على “أخلاقيتها” المدعاة، فقد توجهت الصهيونية لكل يهود العالم مطالبة إياهم بأن يعتنقوا الصهيونية وبمغادرة الدول التي يعيشون فيها والهجرة إلى “أرض الميعا “، من أجل الحصول على الملاذ الآمن، وصنع الحداثة، وصنع السلام القائم على الردع مع جيرانهم. وقد فكك الكاتب هذه الادعاءات علميًا في ورقة أخرى قُدمت في مؤتمر نقض الرواية الصهيونية الذي عقد في رام الله في نهاية حزيران/ يونيو 2021، بترتيب من مفوضية حركة “فتح” بالتعاون مع جامعة القدس المفتوحة.

اتخذت الكولونياليتية التي قدم مفهومها كويخانو وفق ما ورد أعلاه (Coloniality) بعد نشوء دولة إسرائيل عام 1048 شكل طرح الأسرلة على فلسطينيي الداخل، ولكن هذه الأسرلة لم تكن سوى مشروعًا مستحيلًا، فالصهيونية لم يكن في نيتها أن يتحول الفلسطينيون إلى إسرائيليين، فذاك الحق عندها مقصور على اليهود وحسب، فيما أرادت من أطروحة الأسرلة ما لا يتعدى تشويه الهوية الفلسطينية لفلسطينيي الداخل، وخلق أوهام بإمكان تحقيق المساواة مع اليهود بين ظهرانيهم، وتكوين أذناب للأحزاب الصهيونية. ومن الجانب الفلسطيني في الداخل، لم تؤد الأسرلة إلى تأسرل، وذلك بفعل استمرار مصادرة الأراضي وهدم المنازل، وعدم الاعتراف بالقرى العربية في النقب، ومنع عودة المهجرين خارج قراهم ورفض عودة اللاجئين، هذا عدا قلة محدودة من الأعوان في أوائل سنوات عمر دولة اسرائيل الذين اكتسبوا اسم “العربي الجيد” ( على غرار شخصية رشيد بك في رواية “الأرض القديمة المتجددة”: التنيولاند لهرتسل)، بسبب وهمهم أن الانخراط والتعاون مع الأحزاب الصهيونية هو السبيل الوحيد لتحقيق مطالب تحسين أوضاع باقي شعبهم في الداخل، ولا زالت الأقلية المتوهمة بأنها استطاعت التأسرل موجودة حتى اليوم بين فلسطينيي الداخل.

بعد احتلال عام 1967 تلفعت الطروحات الكولونياليتية بأردية جديدة مثل “الاحتلال الخير”، صاحب الأفضال والجالب للمنافع من تنمية والتعليم العالي وتشغيل للعمال في إسرائيل. وبعد أوسلو ونشوء السلطة الوطنية الفلسطينية، انتشرت أطروحات وكأن الاحتلال قد انتهى، وأن النزاع قد سلك طريقه للحل، وأن مرحلة ما بعد النزاع (post – conflict) قد بدأت تتمثل المهمة الرئيسية فيها ببناء مؤسسات دولة فلسطين تمهيدًا للاستقلال. ساهمت أطروحات شمعون بيرس وحزب العمل حول الشرق أوسطية في الترويج لهذه الأطروحات، كما عززتها أطروحات الدول المانحة حول بناء مؤسسات الحكم الرشيد، وتعزيز المهنية، ودعم تطور نخب مهنية محايدة وغير مسيسة. ونشأ بناءً على ذلك حالة بدى منها أن حالة الكفاح من أجل التحرر الوطني يجب أن تتوقف لتحل محلها حالة البناء الوطني، التي جرى تكوين ترسانة نظرية كاملة لتسويغها سميت في أدبيات حل النزاع باسم “بناء السلام”، قُصد بها بناء مؤسسات الدولة السياسية والقانونية والاقتصادية من أسفل، على طريق أن تصبح الدولة حقيقة واقعة بعد نجاح المفاوضات في الوصول إليها.

أفكار بحثية

تقترح هذه الورقة إطلاق مسار بحثي يقوم على تحليل نقدي إبستمولوجي معمق لكل ما سبق ذكره وتجلياته في حالة فلسطين، التي لا زالت مسقطة من الخارطة الدولية منذ تصريح بلفور وحتى اليوم رغم كفاحات الشعب الفلسطيني الذي لم ينهزم. تتعلق الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) ببحث السؤال: كيف نعرف ما نعرفه؟ أي ما هي الأطر المفاهيمية والفرضيات التي ننطلق منها من أجل معرفة ما نعرفه عن حالنا؟ وللإجابة عن هذا السؤال يمكن أن يتشكل فريق بحثي فلسطيني متعدد التخصصات في دراسة بعض الأسئلة المرتبطة ومنها:

* أولًا، في مجال الكولونياليتي؛

– ما هي الأطر النظرية الملائمة لدراسة إنتاج المعرفة في حالات البلدان التي تخلصت من الاستعمار، أو التي لا زالت ترزح تحته؟

– كيف نفهم حالة فلسطين تحت ثلاثية الاستيطان الاستعماري والأبرتهايد والاحتلال العسكري؟

– كيف نرى تطبيقات هذه الثلاثية على كافة تجمعات الشعب الفلسطيني سواء داخل إسرائيل، أو في الضفة والقطاع والقدس؟ وفي دول اللجوء ودول الشتات في أرجاء الأرض؟

– كيف تطورت الهوية الوطنية الفلسطينية؟ وما هي علاقاتها بالهويات العربية والإسلامية والمتوسطية وغيرها؟

– كيف نحلل الأدوات المعرفية التي استخدمها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني أثناء تكون مشروعه الاستيطاني الاستعماري؟ وما هي آثارها في مراحل مختلفة قبل وبعد نشوء دولة إسرائيل، وبعد احتلال عام 1967؟

– كيف نفهم سياسات الغرب والأطر المعرفية التي استخدمها من أجل تحقيق هيمنته على المنطقة؟ وكيف دعمت الحركات الإفنجيلية الصهيونية منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر مرورًا بتصريح بلفور وحتى اليوم؟ وما هي السياسات النيوليبرالية/ الشرق أوسطية/ والمتوسطية وكيف انعكست هي ومفاهيمها على فلسطين مجتمعًا ونخبًا؟

– كيف نفهم استبطان نخب عربية وفلسطينية للرواية الصهيونية، و/ أو اعتناقها المفاهيم الاستعمارية الغربية في دراسة ومشاريع بناء مجتمعها؟

* ثانيًا، في مجال التحرر من الاستعمار (De Coloniality)؛

– كيف نفهم حالة حركة التحرر الوطني الفلسطيني بالمقارنة مع حالات أخرى خضعت للاستيطان الاستعماري كالجزائر وجنوب أفريقيا وأيرلندا؟

– كيف نرى العلاقة بين التحرر الوطني والبناء الوطني؟

– كيف نرى وحدة الشعب الفلسطيني في المقاومة، وما هي الأطر المفاهيمية والمؤسساتية لتحقيق ذلك تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني؟

– كيف ندرس النتاجات الأكاديمية الفلسطينية في إطار استبطانها أو انفكاكها عن المقولات الاستعمارية، والاستيطانية الاستعمارية؟ وكذلك عن ” الإسرائيليات” في دراسة تاريخ فلسطين القديم؟

– كيف عبرت الروايات والشعر والأدب والفن عن روح ومفاهيم وإرادة المقاومة، وكيف عكستها؟

– كيف يمكن فهم المقاومة الفلسطينية الشاملة للشعب الفلسطيني بأسره، وأشكالها وأدواتها في إطار العولمة؟


د. وليد سالم، كاتب وباحث من القدس المحتلة ويدرس في “جامعة القدس”.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى