#شوؤن دولية

في أصول الخلاف الأميركي – الأوروبي

السيد أمين شلبي، الحياة  ١٨-٦-٢٠١٨

بعد انتهاء الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفياتي، بدأت مظاهر الخلافات تطفو على سطح العلاقات الأميركية – الأوروبية، وبدأت الدوائر الأميركية تنظر بالشك والتخوف من تحول أوروبا إلى القوة المنافسة للولايات المتحدة أو على الأقل المشارك لها في زعامة العالم. وعبر عقد التسعينات أخذت مظاهر الخلاف حول قضايا أمنية وسياسية وتجارية تتطور بين الجانبين. وعلى رغم لحظة المشاركة العاطفية نتيجة لأحداث 11 أيلول (سبتمبر) وما تعرضت له الولايات المتحدة، إلا أن هذه اللحظة ما لبثت أن تبددت وبدأت تظهر من جديد وفي شكل أقوى عناصر الاختلاف في التعاطي مع قضايا العالم. وكان الاختلاف حول العراق يعكس في حقيقته خلافاً حول المكانة في العالم وحول رفض القوى الأوروبية الرئيسة، أسلوب الهيمنة الأميركية وتجاهل السياسات والاتفاقات الدولية.

وكان من الطبيعي أن تنشغل مدارس الفكر والبحث بهذه الحالة وأن تناقش أبعادها المختلفة والاتجاه الذي ستأخذه، وفي هذا الشأن نشأت مدرستان: تركز الأولى على عناصر الخلاف وترى أنها عميقة في البنية الفلسفية والثقافية على الجانبين فضلاً عن معادلات القوى المختلفة. وبهذا الاعتبار، فإن الخلافات ستظل قائمة بل قد تتزايد. وتنبه المدرسة الثانية إلى العناصر التي تجمع بين الجانبين وهي القيم والمصالح المشتركة التي تدفعهما إلى العمل والتعاون معاً ومواجهة أخطار مشتركة تصعب مواجهتها إذا عمل كل طرف منفرداً. ففي أعقاب أحداث 11 أيلول وما تعرضت له الولايات المتحدة، سادت مشاعر التعاطف المشترك للعلاقات الأطلسية، وظهر في الصحف الأوروبية ما عبر عن التضامن مع الشعب الأميركي– كلنا أميركيون– وعلى المستوى الرسمي تعاقبت زيارات القادة الأوروبيين إلى البيت الأبيض، وأثار حلف الأطلسي للمرة الأولى في تاريخه المادة الخامسة من ميثاقه التي تقول إن أي اعتداء على دولة عضو هو اعتداء على أعضاء الحلف جميعاً. غير أنه بعد بضعة أشهر بدأت هذه المشاعر تتبدد ويحل محلها تدريجاً شعور أوروبا بالاستياء من الولايات المتحدة وأسلوبها المنفرد في إدارة العلاقات الأطلسية والقضايا الدولية، وفي مقدمها الحرب على الإرهاب وقضايا الشرق الأوسط.

وظهرت كتب تحمل عناوين: «لماذا يكره الناس أميركا؟» وحملت بيانات وتصريحات رسميين أوروبيين انتقادات للسياسة الأميركية واتهامها بتبسيط القضايا الدولية والانفراد بالقرار الدولي والغطرسة، بل أن محللين أميركيين تصوروا أن الناتو الذي كان مركزاً للتحالف الأطلسي قد «دُفِنَ». وهكذا بدت العلاقات الأطلسية في أدنى مستوياتها، وظهرت كتابات تتحدث عن تباعد هذه العلاقات وتفكك العناصر والقيم التي كانت تجمعها، وكتب المفكر الأميركي فوكوياما– الذي بشّر بعد انتهاء الحرب الباردة بالانتصار النهائي لقيم الغرب وأيديولوجيته- أن التحالف الذي خاض الحرب الباردة قام على أساس يستند إلى قيم حضارية وثقافية مشتركة، إلا أن هوة كبيرة بين التصورين الأميركي والأوروبي للعالم نشأت، وتراجع في شكل متزايد شعور المشاركة في القيم، وتوقف الحديث عن الحضارة الغربية باعتبارها تعبر عن الولايات المتحدة والغرب معاً. وتساءل فوكوياما هل يمكن بعد هذه العلاقات وخصوصاً في عالم القيم الحضارية والثقافية والنظر إلى العالم الحديث عن هذه الوحدة، وهل مازال هذا المفهوم «للغرب» ذا معنى في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو الحد الفاصل في النظر إلى العالم القائم بين «الغرب» وبقية العالم أو بين الولايات المتحدة وبقية العالم.

غير أن أكثر من كتبوا في التباعد الحادث في العلاقات الأوروبية- الأميركية كان الباحث الأميركي روبرت كاغان Robert Kagan، وذلك في مقالته التي حظيت باهتمام عالميPower and Weakness ونشرها في دورية Policy Review عدد حزيران (يونيو) 2002، ثم طورها في كتاب تحت عنوانParadise and power: America and Europe in the new world order, 2002 في هذا المقال/ الكتاب اعتبر كاغان أن الوقت حان للتوقف عن الادعاء بأن الأوروبيين والأميركيين يشتركون في نظرة للعالم أو حتى أنهم يشغلون نفس العالم، وحول كل قضايا القوة المهمة وتأثير القوة وأخلاقيتها وجاذبيتها Desirability، فإن وجهات نظر الأوروبيين والأميركيين تتباعد، فأوروبا تتحول بعيداً عن القوة وتتحرك نحو عالم ذاتي من القواعد والقوانين والمفاوضات الدولية والتعاون وهي تدخل عالم كان «للسلام الدائم»، أما الولايات المتحدة فهي منغمسة في عالم «هوبز» حيث القوانين الدولية والقواعد لا يمكن الاعتماد عليها، وحيث الأمن الحقيقي والدفاع والترويج للنظام الليبرالي مازال يعتمد على امتلاك القوة العسكرية واستخدامها. وهذا هو السبب في أنه حوّل كل القضايا الاستراتيجية والدولية اليوم فإن الأميركيين يبدو أنهم من كوكب المريخ والأوروبيين من كوكب الزهرة، فهم متفقون على القليل ويفهمون بعضهم البعض أقل فأقل.

ويبدو أن هذه المسألة ليست عارضة، فبسبب أن الانقسام الأطلسي عميق ومن المحتمل أن يستمر وحتى يصل إلى حسم الأولويات القومية وتحديد التحديات وصياغة وتنفيذ السياسات الخارجية والدفاعية، فإن الولايات المتحدة وأوروبا تظلان مفترقتين. وباعتبار أن كاغان أقام تقييمه للعلاقات الأميركية- الأوروبية ونظرتهما للعالم وسلوكهما الدولي على أساس ما يمتلكانه من قوة أو ضعف، لذلك استخلص أنه من غير المحتمل أن تتناقص قوة الولايات المتحدة، كما أنه ليس من المحتمل أن تزداد قوة أوروبا إلا في شكل هامشي، فإن المستقبل يبدو أكيداً في اتجاه تزايد التوتر الأطلسي وسوف يصبح الأوروبيون أكثرة حدة في هجومهم على الأميركيين، وتصبح الولايات المتحدة أقل ميلاً للاستماع أو حتى الاهتمام، وسيأتي اليوم إن لم يكن قد حلّ بالفعل، الذي لن يصغي فيه الأميركيون لتصريحات الاتحاد الأوروبي.

غير أن رصد مظاهر وعناصر التباعد الأميركي الأوروبي لم تقتصر فحسب على الفترة التي تلت أحداث 11 أيلول، ولكن تبلورت خلال حقبة التسعينات خلافات على المستوى الأمني والعسكري. وعلى المستوى السياسي، بدا المحللون يرصدون عناصر الاختلاف في الرؤية والمصالح بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين، وكان الصراع في البوسنة شاهداً على ذلك، كما رفض معظم الدول الأوروبية سياسة الاحتواء المزدوج لكل من إيران والعراق، حيث قاوم الأوروبيون سياسة العقوبات الاقتصادية على إيران واختلفوا مع واشنطن حول أسلوب التعامل مع كوبا، كما كانت للأوروبيين وجهات نظرهم المختلفة حول قضايا عملية السلام في الشرق الأوسط. وحول هذه القضية الشائكة والمعقدة اشتكى الأوروبيون من عدم حساسية الولايات المتحدة للاعتبارات والمصالح الأوروبية في هذه المنطقة ولعوامل القرب الجغرافي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط لأوروبا.

وفي النقاش حول عناصر الخلاف الأميركي- الأوروبي كان المستوى الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي أكثر الجهات خطورة ولإمكانيات الخلاف، وربما الصراع بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بعد نهاية الحرب الباردة، وقد ضاعف من ذلك اتجاه الاقتصاد إلى العالمية وحرية الأسوأ، ما جعل عدداً من الخبراء الاقتصاديين يتوقعون أن الطرفين يتحركان نحو صراع لا مصالحة فيه حول مصالح اقتصادية وصناعية، واعتبروا أنه في بيئة العولمة يتجه التطور الطبيعي إلى التنافس الصناعي، وخصوصاً في الصناعات الاستراتيجية العالية التكنولوجيا التي يعتبرها الجانبان جوهرية للسيادة الأحادية والأمن القومي.

إلى جانب هذه العوامل الأساسية التي رأى الباحثون أنها تحرك إمكانات الصراع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والأوروبيين، هناك المشاحنات التي تفرض نفسها على لقاءات الجانبين، مثل الاختلافات حول قيود أوروبا على اللحوم الأميركية والواردات من المواد الأميركية، وهي القيود التي ردت عليها الولايات المتحدة بفرض رسوم بلغت 300 مليون دولار على المنتجات الأوروبية.

وفي مقابل هذا التيار الذي يركز على عوامل الاختلاف والتباين بين الولايات المتحدة وأوروبا، ثمة تيار آخر يرى العلاقات بينهما في ضوء عوامل الوحدة وما يجمعهما من قيم ومصالح مشتركة. ويستند هذا التيار في تقييمه إلى أن اتجاهات الجانبين المختلفة حول استخدام القوة لم تمنعهما من استخدام القوة معا كما حدث في البلقان وأفغانستان.

ومع التسليم بالخلافات التي تنشأ عن الاختلاف في القوة، فإن السؤال يظل حول ما إذا كانت هذه الخلافات أساسية وفي شكل تستطيع معه الولايات المتحدة أن تلفظ حلفاءها الأوروبيين وتعتبرهم غير ذوي أهمية، وأن تستنتج أنها إما أنها لا تحتاجهم أو أنها تستطيع أن تحصل على حلفاء أفضل، والإجابة المنطقية على هذا السؤال بالنفي، ذلك أنه على رغم الخلاف الذي تطور خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول، فالحقيقة تظل دائماً أن المصالح والقيم الأساسية لم تتحول، وظلت الديموقراطيات الأوروبية بالتأكيد أكثر التصاقاً بالولايات المتحدة من أي منطقة في العالم. وعلى رغم أن أساليبهم تختلف في بعض الأحيان فإن الأوروبيين والأميركيين يشتركون في شكل واسع في الأماني الديموقراطية والليبرالية لمجتمعاتهم وللعالم، ولديهم مصلحة مشتركة في التجارة العالمية والاتصالات المفتوحة والطرق المتاحة لإمدادات الطاقة العالمية وفي منع انتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل ومنع المآسي الإنسانية، واحتواء مجموعة الدول الصغيرة الخطرة التي لا تحترم حقوق الإنسان والمعادية للقيم والمصالح الأوروبية المشتركة.

في ضوء الخلافات الجارية والتي تتصاعد حول التجارة والضرائب على الحديد والصلب، والتي تبلورت في مفهوم ترامب عن «أميركا أولاً» ومفهوم أنغيلا مركل عن «أوروبا الموحدة»، يبقى التساؤل حول ما إذا كانت التطورات ستشهد غلبة المدرسة التي تركز على أن الخلافات عميقة في البنية الثقافية والفلسفية على الجانبين، أم المدرسة الثانية التي ترى العلاقات في ضوء الوحدة وما يجمع من قيم ومصالح مشتركة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى