فورين بوليسي – من يَخاف من توازن القوى؟
فورين بوليسي – ستيفن م. وولت* – 8/12/2017
إنك إذا أخذتَ مساقاً في العلاقات الدولية في الجامعة، ولم يذكر فيه المحاضرمسألة “ميزان القوى” مطلقاً، فعليك أن تتصل بالكلية التي تدرس فيها وتطالب باستعادة الرسوم الجامعية التي دفعتها. إنك تستطيع أن تجد هذه الفكرة في كتاب المؤرخ اليوناني ثوسيدايدس “الحرب البيلوبونيسية؛ وفي كتاب ثوماس هوبز “ليفياثان”؛ وفي كتاب الكاتب الهندي القديم كاتوليا “رثاشاسترا” (أو “علم السياسة”)، وهي فكرة مركزية في أعمال الواقعيين المعاصرين، مثل ي. هـ. كارر، وهانز جيه مورغنثو، وروبرت غيلبين، وكينيث وولتز.
ومع ذلك، وعلى الرغم من تاريخها الطويل والمميز، فإن هذه الفكرة البسيطة غالباً ما تُنسى من جانب نخب السياسة الخارجية في أميركا. وبدلاً عن السؤال: لماذا تتعاون روسيا والصين، أو التفكير بما جمع إيران سوية مع شركائها في الشرق الأوسط، فإنهم يفترضون أن هذا يجيء نتيجة للاستبدادية المشتركة، وانعكاساً لمعاداة أميركا، أو كشكل آخر من أشكال التضامن الأيديولوجي. ويشجع هذا النوع من فقدان الذاكرة الجمعي القادة الأميركيين على التصرف بطرق تدفع الأعداء عن غير قصد إلى رص صفوفهم، وتفوت على الأميركيين الفرص الواعدة بتفريق هؤلاء الأعداء.
المنطق الأساس وراء نظرية القوة (أو نظرية ميزان التهديد، إذا أردتم) هو شأن مباشر. فلأنها لا توجد “حكومة عالمية” لحماية الدول من بعضها البعض، تعول كل دولة على مواردها واستراتيجياتها الخاصة من أجل تجنب التعرض للغزو أو الإكراه على شيء ما، أو أن تتعرض للخطر. وعندما تواجه دولة قوية أو تشكل تهديداً، فإن البلد القلق يمكن أن يحشد المزيد من موارده الخاصة أو أن يسعى إلى التحالف مع دول أخرى لمواجهة نفس الخطر، من أجل تحويل الميزان أكثر لصالحها.
في الحالات المتطرفة، قد يتطلب تشكيل ائتلاف موازِنٍ من الدولة القتال إلى جانب دولة أخرى كانت تعتبرها في السابق عدواً، أو حتى واحدة تعرف أنها ستكون خصما لها في المستقبل. هكذا تحالفت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، لأن إلحاق الهزيمة بألمانيا النازية أخذ الأسبقية على مخاوفهم طويلة الأمد من الشيوعية. وقد التقط ونستون تشيرشل هذا المنطق بشكل مثالي عندما قال مازحاً: “إذا قام هتلر بغزو جهنم، فإنني سأتحدث على الأقل بإحالة إيجابية عن الشيطان في مجلس العموم”. وكان الرئيس الأميركي الأسبق، فرانكلين ديلانو روزفيلت، قد أعرب عن عاطفة مشابهة عندما قال: “سوف نضع أيدينا بيد الشيطان” إذا ساعدنا ذلك على تحطيم الرايخ الثالث. إنك عندما تريد حلفاء فعلاً، فإنك لا تستطيع أن تكون انتقائياً.
غني عن البيان أن “ميزان القوى” لعب دوراً مهماً في السياسة الخارجية الأميركية، وخاصة عندما كانت المخاوف الأمنية واضحة لا لبس فيها. وقد تشكلت تحالفات أميركا في حقبة الحرب الباردة (أي الناتو ونظام المحور للتحالفات الثنائية في آسيا)، من أجل موازنة واحتواء الاتحاد السوفياتي. ودفع نفس الدافع الولايات المتحدة إلى دعم مجموعة من الأنظمة الاستبدادية في إفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وغيرها. وعلى نحو مشابه، كان انفتاح ريتشارد نيكسون على الصين في العام 1972 من وحي مخاوف صعود قوة الاتحاد السوفياتي، وإدراك أن إقامة روابط أوثق مع الصين لن تكون في فائدة موسكو.
ولكن، على الرغم من أصوله الطويلة وصلته الدائمة، فإن صانعي السياسة والمفكرين غالباً ما يفشلون في إدراك كيف يستطيع منطق ميزان القوى توجيه سلوك الحلفاء والأعداء على حد سواء. وينبثق جزء من المشكلة من التوجه الأميركي العام إلى افتراض أن جزءاً من السياسة الخارجية للدولة تشكله غالباً شخصياتها الداخلية (أي شخصيات قادتها ونظامها السياسي والاقتصادي أو أيديولوجيتها الحاكم)، وليس ظروفها الخارجية (أي مجموعة التهديدات التي تواجهها).
من هذا المنظور يعتبر حلفاء أميركا “الطبيعيون” دولاً تشاركنا قيمنا. وعندما يتحدث الناس عن الولايات المتحدة “كقائد للعالم الحر”، أو عندما يصفون حلف الناتو بأنه”مجموعة عبر الأطلسي” من الديمقراطيات الليبرالية، فإنهم يشيرون إلى أن هذه البلدان تدعم بعضها بعضاً لأنها تتقاسم رؤية عامة تتعلق بالكيفية التي يجب أن ينظم العالم من خلالها.
من الطبيعي أن تكون القيم السياسية المشتركة ذات صلة، حيث تشير بعض الدراسات التجريبية إلى أن التحالفات الديمقراطية هي أكثر استقراراً بعض الشيء من التحالفات بين الأوتوقراطيات، أو بين الديمقراطيات وغير الديمقراطيات. وعموماً، فإن افتراض أن التكوين الداخلي للدولة يحدد تعريفها للأصدقاء والأعداء، يمكن أن يكون مضللاً لنا بعدة طرق.
أولاً، إذا كنا نعتقد بأن القيم المشتركة هي قوة موحدة قوية، فإننا سنبالغ على الأرجح في التأكيد على تماسك وديمومة بعض تحالفاتنا القائمة. ويشكل حلف الناتو حالة بحث كما هو واضح: ففد أزال انهيار الاتحاد السوفياتي منطقه الأساسي، ولم تمنع الجهود الهرقلية التي بذلت لمنح التحالف مجموعة جديدة من المهمات ظهور علامات متكررة ومتنامية على إصابته بالإعياء. وربما كانت المسائل لتختلف لو كانت حملات الناتو في أفغانستان أو ليبيا قد آتت أكلها -لكنها فشلت في ذلك.
من المؤكد أن أزمة أوكرانيا أوقفت انحدار الناتو البطيء مؤقتاً، لكن هذا الانقلاب المتواضع يشي بالدور المركزي الذي تلعبه التهديدات الخارجية (أي الخوف من روسيا) في الإبقاء على حلف الناتو متماسكاً. وليست “القيم المشتركة” كافية لاستدامة ائتلاف ذي معنى مكون من 30 دولة تقريباً تقع على ضفتي الأطلسي، وينطبق الشيء نفسه على تركيا وهنغاريا وبولندا، التي تخلت كلها عن القيم الليبرالية التي يستند إليها حلف الناتو، كما يُفترض.
ثانياً، إذا نسيت أمر سياسة ميزان القوى، فإنك ستندهش على الأرجح عندما ترص دول أخرى (أو في بعض الحالات، لاعبون من غير الدول) صفوفها ضدك. وقد صُدمت إدارة جورج دبليو بوش عندما رصت فرنسا وألمانيا وروسيا صفوفها لصد جهود الإدارة الأميركية للحصول على موافقة مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة على غزو العراق في العام 2003، وهي خطوة أقدمت عليها هذه الدول لأنها استشعرت أن الإطاحة بنظام صدام حسين قد تفضي إلى ردود فعل ارتدادية بطرق ستشكل تهديداً لها (كما حدث في نهاية المطاف). ومع ذلك، لم يلتقط القادة الأميركيون السبب في أن هذه الدول لم تقفز على الفرصة لإزاحة صدام حسين وتحويل المنطقة إلى الديمقراطية. وكما أقرت مستشارة الأمن القومي في إدارة بوش، كوندوليزا رايس، لاحقاً: “سوف أقولها بصراحة. إننا ببساطة لم نفهم الأمر”.
بنفس المقدار، شعر المسؤولون الأميركيون بالدهشة عندما ضمت سورية وإيران قواهما معاً لمساعدة التمرد العراقي في أعقاب الغزو الأميركي، حتى مع أنه بدا منطقياً أن تتأكدا من أن جهد إدارة بوش بشأن “التحول الإقليمي” يجب أن يفشل. وكانت إيران وسورية هما التاليتان على قائمة الضرب لو نجح الاحتلال، وكانتا تتصرفان مثل أي دولة مهددة (وكما تتنبأ أي نظرية ميزان قوى). ومن الطبيعي أنه لا يوجد أي سبب لدى الأميركيين للترحيب بهذا السلوك، لكنهم ما كان يجب أن يتفاجأوا به.
ثالثاً، يشجعنا التركيز على الصلة السياسية أو الأيديولوجية، وتجاهل دور التهديدات المشتركة، على رؤية الأعداء أكثر وحدة مما هم عليه في واقع الأمر. وبدلاً من إدراك أن المعارضين يتعاونون مع بعضهم بعضاً بشكل كبير لأهداف أدواتية أو تكتيكية، يسارع المسؤولون والمعلقون الأميركيون إلى افتراض أن الأعداء مرتبطون بالتزام عميق بمجموعة من الأهداف المشتركة. وفي حقبة سابقة، رأى الأميركيون العالم الشيوعي على أنه تكتل ضخم، واعتقدوا مخطئين بأن كل الشيوعيين في كل مكان هم عملاء مخلصون للكرملين. ولم يقدهم هذا الخطأ إلى تفويت (أو إنكار) الشقاق الصيني السوفياتي وحسب، وإنما افترض القادة الأميركيون مخطئين أن اليساريين غير الشيوعيين كانوا على الأرجح متعاطفين مع موسكو أيضاً. كما ارتكب القادة السوفيات نفس الخطأ معكوساً، بالمناسبة، ليخيب أملهم عندما أسفرت جهودهم لخطب ود يساريي العالم الثالث عن نتائج عكسية غالباً.
ما تزال هذه الغريزة المضللة تعيش حتى يومنا للأسف، متمثلة في عبارات مثل “محور الشر” (التي عنت أن إيران والعراق وكوريا الشمالية كانت جزءاً من نفس الحركة الموحدة)، أو في مصطلحات مضللة مثل “الفاشية الإسلامية”. وبدلاً عن النظر إلى الحركات المتطرفة على أنها تنظيمات متنافسة تتوافر على تنوع من وجهات النظر العالمية والأهداف، يتحدث المسؤولون والمفكرون الأميركيون ويتصرفون بشكل روتيني على أساس أن أعداءنا يعملون كلهم وفقاً لكتاب إرشادي متطابق. وبعيداً عن أن تكون موحدة بقوة بفضل عقيدة مشتركة، غالباً ما تعاني هذه المجموعات من حالات انقسام عميقة ومنافسات شخصية، وهي ترص صفوفها بسبب الضرورة أكثر منها بسبب الاعتقاد. وهي تظل قادرة على التسبب بالمتاعب بطبيعة الحال. لكن افتراض أن كل الإرهابيين هم جنود مخلصون في حركة عالمية مفردة يجعلهم أكثر إخافة مما هم في الواقع.
وهناك الأسوأ أيضاً. فبدلاً عن البحث عن طرق لتشجيع الانشقاقات والانقسامات بين المتطرفين، نجد أن الولايات المتحدة تعمل غالباً على التصرف والتحدث بطرق تدفعهم إلى المزيد من الاتحاد ورص الصفوف. وعلى سبيل المثال الواضح، فإنه على الرغم من احتمالية وجود بعض الخلفية الأيديولوجية المشتركة بين إيران وحزب الله والحوثيين في اليمن ونظام بشار الأسد في سورية وحركة الصدر في العراق، فإن لكل واحدة من هذه المجموعات مصالحها وأجنداتها الخاصة، ويُفهم التعاون فيما بينها أفضل ما يكون على تحالف استراتيجي، وليس كجبهة أيديولوجية متعاضدة أو موحدة. ومن شأن ممارسة ضغط كامل عليهم -كما تريد السعودية وإسرائيل منا أن نفعل- أن يفضي إلى منح كل أعدائنا المزيد من الأسباب لمساعدة بعضهم بعضاً.
وأخيراً، سوف يؤدي تجاهل ديناميات ميزان القوة إلى تبديد واحدة من مزايا أميركا الجيوسياسية الرئيسية. فباعتبارها القوة الكبرى الوحيدة في نصف الكرة الغربي، تتمتع الولايات المتحدة بحرية كبيرة في اختيار الحلفاء، وبذلك يكون لها نفوذ كبير عليهم. وعلى ضوء “الأمن المجاني” الذي يوفره انعزال أميركا الجغرافي، فإن باستطاعتها اللعب بورقة كونها بعيدة، والاستفادة من الخصومات الإقليمية عندما تتحدث إلى اللاعبين من الدول وغير الدول في المناطق القصية وتشجعهم على التنافس على الحصول على تقديرنا لهم ودعمهم، كما أن عليها البقاء متيقظة للفرص الممكنة لدق الأسافين بين أعدائنا الحاليين. وتتطلب هذه المقاربة مرونة وفهماً متطوراً للشؤون الإقليمية، وتجنباً للـ”العلاقات الخاصة” مع الدول الأخرى، ورفضاً لشيطنة البلدان التي نختلف معها.
للأسف، عملت الولايات المتحدة العكس بالضبط طيلة العقود القليلة الماضية، خاصة في الشرق الأوسط. فبدلاً من عرض المرونة، فإننا التصقنا بصلابة بنفس الشركاء وقلقنا أكثر بشأن تطمينهم بدلاً من حثهم على عمل الأفضل كما نراه. وقد عمقنا “علاقاتنا الخاصة” مع مصر وإسرائيل والسعودية، حتى على الرغم من إن تبرير هذا الدعم الحميم أصبح أضعف من السابق. ومع استثناءات قليلة ومتباعدة، عاملنا الأعداء، مثل إيران وكوريا الشمالية، كمارقين يجب أن نهددهم ونفرض عقوبات عليهم، وإنما من دون التحدث معهم. والنتائج، للأسف، تتحدث عن نفسها.
*أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
Who’s Afraid of a Balance of Power?
ترجمة عبد الرحمن الحسيني – الغد – 20/1/2018
abdrahaman.alhuseini@alghad.jo