فورين بوليسي: غزة تسبب انقسامات دبلوماسية في نصف الكرة الغربي
موقف منظمة الدول الأمريكية المؤيد لإسرائيل قد يؤدي إلى تآكل شرعيتها في المنطقة
فورين بوليسي 12-9-2024، فرنسيشكا إيمانويل: غزة تسبب انقسامات دبلوماسية في نصف الكرة الغربي
طوال فترة الحرب بين إسرائيل وحماس، كانت دول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي في طليعة الجهود العالمية الرامية إلى وقف إراقة الدماء في غزة والدفاع عن حقوق الإنسان للفلسطينيين. وقد قامت حكومات المنطقة باستدعاء سفرائها أو قطع علاقاتها مع إسرائيل بسبب الحرب أكثر من أي منطقة أخرى، بما في ذلك العالم العربي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وقد وصف المسؤولون في ما يقرب من نصف دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي تصرفات إسرائيل في غزة بأنها إبادة جماعية، واتخذ البعض خطوات للضغط على الحكومة الإسرائيلية لإنهاء عملياتها العسكرية العشوائية هناك.
وكانت كولومبيا مثلا من بين الدول الأكثر نقدا لإسرائيل في أمريكا اللاتينية، وعلقت مشتريات السلاح منها وأوقفت تصدير الفحم الحجري إلى إسرائيل التي كانت تشتري 50% منه سنويا.
ورغم المواقف التي أبدتها دول المنطقة من الحرب، إلا أن المنظمة التي تتخذ مقرا لها في العاصمة الأمريكية واشنطن ويطلق عليها “منظمة الدول الأمريكية”، وهي المنبر الرئيسي للحوار في النصف الغربي للكرة الأرضية لم تعبر عن هذه المشاعر المؤيدة للحق الفلسطيني.
تباين موقف المنظمة سيؤدي لتآكل شرعيتها في المنطقة وقد يدفع الدول إلى المنظمات الأخرى البديلة التي لا تمارس فيها الولايات المتحدة تأثيرا كبيرا.
وقد شجب الأمين العام للمنظمة لويس ألماغرو هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 التي قتل فيها 1,200 شخص في جنوب إسرائيل، واصفا الهجمات بالإرهابية وأكد على حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها. لكنه لم يقل شيئا منذ ذلك الوقت ومع ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين إلى أكثر من 40,000 والحاجة لحماية حقوق المدنيين الفلسطينيين، ولم يشجب التقارير عن التعذيب بحق المعتقلين الفلسطينيين. ويعتبر موقف ألماغرو متناقضا مع نظيره الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي طالب بوقف فوري للنار في غزة.
ولا يتناقض موقف ألماغرو الداعم لإسرائيل وحقها بالدفاع عن النفس مع المبادئ المعلنة لمنظمة الدول الأمريكية للدفاع عن حقوق الإنسان، بل تعتبر مواقفه انفصاما بين قيادة المنظمة وقرارات التصويت التي اتخذتها غالبية الدول الأعضاء فيها.
فمن بين ثلاثة قرارات عن إسرائيل- فلسطين ناقشتها الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال الأشهر الـ11 الماضية، اثنان منها يتعلقان بهدنة إنسانية ووقف إطلاق النار وثالث يتعلق بعضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، عارضت ثلاث دول في المنظمة القرارين الأولين، وعارضت اثنتان القرار الثالث. وكانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي عارضت القرارات الثلاثة.
ولعبت منظمة الدول الأمريكية في أثناء الحرب الباردة دورا في شرعنة الأنظمة الاستبدادية مثل نظام أوغستو بينوشه في تشيلي، حيث عقدت مؤتمرها السنوي عام 1979 في العاصمة سانتياغو. وانحازت منظمة الدول الأمريكية إلى تدخلات عسكرية معادية للديمقراطية دعمتها ونفذتها الولايات المتحدة مثل الانقلاب العسكري في غواتيمالا عام 1954.
وبعد عقود من الزمان، يبدو أن المحافظين الجدد وغيرهم من الفصائل المتشددة في واشنطن والحلفاء في مختلف أنحاء الأمريكيتين، لا يزالون يتمتعون بنفوذ في على المنظمة، الأمر الذي يعوق قدرتها على العمل كهيئة ديمقراطية حقيقية متعددة الأطراف تمثل البلدان الواقعة في النصف الغربي للكرة الأرضية.
إن الولايات المتحدة، الحليف الرئيسي لإسرائيل والمصدر الرئيسي للدعم العسكري والاقتصادي والسياسي، هي المساهم المالي الأكبر في منظمة الدول الأمريكية، مما يمنح واشنطن نفوذا كبيرا على أجندتها. ومع ذلك، فإن هذا النفوذ وحده لا يفسر أبدا، الموقف المتصلب الذي تتبناه قيادة منظمة الدول الأمريكية من الحرب. بل وهناك شبكة عابرة للدول من السياسيين والناشطين اليمينين المتطرفين والمنظمات التي تمارس وخلال الفترتين لألماغرو دورا كبيرا على المنظمة المتعددة الأطراف، وذلك بحسب عدد كبير من المسؤولين البارزين الحاليين والسابقين في منظمة الدول الأمريكية.
ففي عام 2020، استقبل الماغرو زعيم فوكس، الحزب اليميني المتطرف في إسبانيا، سانتياغو أبسكال في الأمانة العام لمنظمة الدول الأمريكية في واشنطن. وأشاد أبسكال بالمنظمة كجسر مهم للمنظمات السياسية التي تحمل أفكارا تعارض “اليسار المتطرف”. وحاول الحصول على دعم الماغرو لدعم “منتدى مدريد” الناشئ، وهو تحالف ينسق الجهود المحافظة لمعارضة الحركات التقدمية في جميع أنحاء العالم. ويضم المنتدى الرئيس الأرجنتيني المتطرف خافيير ميلي، ويحظى بشكل مستمر بالعلاقة مع الأمانة العامة لمنظمة الدول الأمريكية، كما بدا في اجتماع عقد في شهر آذار/مارس بواشنطن.
وعملت المنظمة طوال فترة رئاسة الماغرو على بناء علاقات قوية مع الحكومة الإسرائيلية والشبكات اليمينية التي تدعم عملياتها العسكرية المستمرة واحتلالها للأراضي الفلسطينية.
وفي عام 2017، وبعد وقت قصير من صدور تقرير للأمم المتحدة يتهم إسرائيل بإنشاء “نظام فصل عنصري” ضد الفلسطينيين، سافر ألماغرو إلى القدس وأشاد بحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كشريك إقليمي رئيسي، مشيرا إلى “التزامها بالديمقراطية وحقوق الإنسان”.
كما ظهر الأمين العام لمنظمة الدول الأمريكية بشكل رسمي غير مسبوق في مؤتمرات لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) وهي مجموعة الضغط المؤيدة لإسرائيل والتي من المتوقع أن تنفق 100 مليون دولار هذا العام لهزيمة المرشحين التقدميين للكونغرس الأمريكي.
وقد ظهرت هذه الروابط الوثيقة بين منظمة الدول الأمريكية وإسرائيل عبر سياسات تكشف عن تحيز مثير للقلق. ففي عام 2019، تبنى ألماغرو تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست المثير للجدل لمعاداة السامية بالنسبة لمنظمة الدول الأمريكية، والذي تم نشره عالميا لقمع الانتقادات الموجهة لإسرائيل. ولم تتبن الأمم المتحدة ولا أي من منظمات حقوق الإنسان الدولية الرائدة تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست.
وفي عام 2021، قام الأمين العام للمنظمة باستحداث “مفوضية لمراقبة ومكافحة معاداة السامية” بدون أن يستحدث أدوارا مماثلة في داخل أمانته لمعالجة العنصرية ضد السود الأصليين في نصف الكرة الغربي الذين كانوا ضحايا لظلم تاريخي صارخ ومنهجي، وهم في كثير من الأحيان أهداف لجرائم الكراهية اليوم – بما في ذلك في الولايات المتحدة. كما ويمثلون معا تجمعا سكانيا هو أكبر بنسبة 3000% من اليهود في المنطقة. وأشار المسؤولون في منظمة الدول الأمريكية الذين تمت استشارتهم لهذا المقال إلى أن المنظمة فقدت نزاهتها السياسية على مدى العقد الماضي.
وعلى النقيض من ألماغرو، حافظ سلفه، خوسيه ميغيل إنسولزا، الذي قاد المنظمة من عام 2005 إلى 2015، على نهج متوازن بإدانة الأعمال العسكرية الإسرائيلية ودعم دعوات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار خلال الحرب التي استمرت خمسين يوما في غزة في عام 2014.
وعملت منظمة الدول الأمريكية في ظل إنسولزا، على بناء منبر يمكن من خلاله التعبير عن وجهات نظر مختلفة بشأن الصراع، بما يتماشى بشكل وثيق مع المبادئ الديمقراطية للمنظمة. وهذه المرة، كرمت الجماعات التي تدعم حرب إسرائيل في غزة ألماغرو. ففي نيسان/أبريل، منحته المنظمة جائزة “لعمله في مكافحة معاداة السامية”. وقد هيمن على الحدث، الذي أقيم في مقر منظمة الدول الأمريكية في واشنطن، متحدثون من أقصى اليمين نددوا بالحكومات الإقليمية التي استخدمت التدابير الدبلوماسية لمحاولة تحقيق وقف إطلاق نار دائم في غزة. وكان من بين الحاضرين النائبة الجمهورية ماريا إلفيرا سالازار المدافعة القوية عن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي أشارت ضمنا إلى أن ستة رؤساء من أمريكا اللاتينية حرضوا على جرائم الكراهية ضد اليهود بمعارضتهم الصريحة للحرب بين إسرائيل وحماس.
وقبل خمسة أشهر فقط، في مقطع فيديو قدمته لتأييد المرشح آنذاك – والرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف الآن – خافيير ميلي، أشادت سالازار بالأرجنتين لأنها “عرق واحد”، مستشهدة بالفكرة العنصرية الزائفة بأن الأرجنتين بلد ينحدر من الأوروبيين البيض ويمحو سكانها السود والسكان الأصليين.
وفي الوقت الحالي، لا تفكر أي دولة عضو في منظمة الدول الأمريكية بمناقشة الحرب في غزة داخل المنظمة. وبدلا من ذلك، لجأت العديد من الدول إلى تجمعات إقليمية أخرى، مثل مجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنظمة البحر الكاريبي، وهي منظمة متعددة الأطراف تضم جميع بلدان الأمريكيتين باستثناء الولايات المتحدة وكندا، حيث دعت 24 دولة إلى وقف فوري لإطلاق النار في وقت مبكر من شهر أذار/مارس.
وفي تموز/يوليو، استخدمت البرازيل نفوذها الإقليمي بتحالف ميركوسور لتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع السلطة الوطنية الفلسطينية. وحتى مجموعة دول البحر الكاريبي المكونة من 14 دولة والتي كانت لوقت قريب مترددة بالتعبير عن مواقف واضحة من النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، بسبب التأثير الأمريكي، اتحدت ضمن منظمة مجتمع الكاريبي واعترفت بدولة فلسطين وعارضت الحرب. واعترفت 32 دولة من بين 35 دولة في الأمريكيتين بدولة فلسطين، اعترفت أربع منها بفلسطين بعد اندلاع الحرب في غزة العام الماضي.
ولكن قيادة منظمة الدول الأمريكية واصلت، وفي تحد لرغبات الدول الأعضاء بتقديم الغطاء الدبلوماسي للعنف الذي ترتكبه حكومة نتنياهو، التي تواجه اتهامات بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية – وهي القضية التي تدعمها سبع دول من أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
المنظمة واصلت وفي ظل قيادة الماغرو الانحراف بعيدا عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي من المفترض أنها تأسست من أجل الدفاع عنها. وإذا ظلت منظمة الدول الأمريكية على مسارها الحالي، متجاهلة بل وحتى معارضة لآراء العديد من أعضائها، فمن المرجح أن ينظر إليها وبشكل متزايد بأنها غير مهمة وفي معظم أنحاء المنطقة.