فورين بوليسي – انشال فوهرا – غيّر الربيع العربي كل شيء – في أوروبا
فورين بوليسي – انشال فوهرا – 24/12/2020
بعد مرور عقدٍ على الربيع العربي، لم يتحسّن الكثير في حياة مَنْ وقفوا ضد المستبدين في الشرق الأوسط مطالبين بحياة أفضل. ولم تزل معظم البلدان التي اندلعت فيها مظاهرات، ثم أعمال عنف تحكمها أنظمة استبدادية تمارس القمع والفساد على نحوٍ منهجي، فيما تستمر الصعوبات الاقتصادية بلا هوادة، حسبما تقول الكاتبة أنشال فوهرا في مستهل مقالها المنشور في مجلة «فورين بوليسي»، لكنها في الوقت ذاته ترى أن تأثير الربيع وصل إلى قارة أوروبا المجاورة، التي أصبحت مختلفة عما كانت عليه في عام 2011، لأسباب تتعلق مباشرة بالثورات الفاشلة التي اندلعت في الجوار.
تستند الكاتبة إلى عدة أسباب، أولها أن أوروبا أصبحت قارة منقسمة. وهي ترى أن تصويت المملكة المتحدة على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي كان في جزءٍ منه رد فعل على أزمة اللاجئين التي أثارتها الانتفاضة السورية، والحرب الأهلية اللاحقة. بموازاة ذلك، يصعد نجم الأحزاب السياسية الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا، مستفيدين من المخاوف المتزايدة من الإسلام والتطرف، على مدار السنوات الماضية.
يضيف المقال: لقد تغيرت السياسة الخارجية الأوروبية تغيرًا ملموسًا بالفعل؛ إذ تزايد احتضان بعض البلدان للطغاة الجدد الذين ظهروا على الحدود الجنوبية للقارة، متجردين حتى من ورقة التوت الأخلاقية الليبرالية التي استخدمواها ذات يوم. باختصار، لقد فشلت أحداث الربيع العربي في جعل الدول العربية أكثر استقرارًا، ليس هذا فحسب بل جعلت الدول الأوروبية أيضًا أقل استقرارًا.
تداعيات الربيع العربي.. تدفق اللاجئين إلى أوروبا
في عام 2015 وجدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنه من المستهجن حرمان السوريين الذين دُمِّرَت منازلهم ومدنهم بأكملها، نتيجة وابلٍ من القصف الجنونيّ الذي شنه نظام بشار الأسد. ففتحت أبواب ألمانيا للاجئين، واستقبلت ما يقرب من مليون شخص. وقد أشاد الكثيرون بهذا القرار لكونه الشيء الصحيح الذي كان ينبغي القيام به. لكن تداعياته كانت بعيدة المدى، حسبما ترى الكاتبة.
يستشهد المقال بقول إيما سكاي، الزميلة البارزة في معهد جاكسون بجامعة ييل: كانت الرغبة في الحد من الهجرة هي الدافع الرئيس لقرار بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي، ووظف الشعبويون انعدام الأمن لصالحهم.
وأضافت: «صُوِّر نايجل فاراج، زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة اليميني المتطرف، وهو يقف أمام ملصق ضخم للاجئين السوريين على الحدود بين سلوفينيا وكرواتيا. كان المعنى الضمني واضحًا: ما لم تغادر المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، وما لم تستعد السيطرة على حدودها؛ سيتدفق اللاجئون إلى بريطانيا. كما كانت هناك تغطية إعلامية متواصلة للاشتباكات التي دارت داخل «الغابة» – المخيم المؤقت في كاليه – بين الشرطة الفرنسية والمهاجرين الذين يحاولون باستماتة الوصول إلى المملكة المتحدة».
بينما كان مئات الآلاف يسافرون على متن القوارب، وسيرًا على الأقدام، ويقضون شهورًا وسنوات في معسكرات ضيقة للوصول إلى بر الأمان؛ رأى الشعبويون – الذين كانوا حتى ذلك الحين على هامش السياسة الأوروبية – فرصة ينبغي استغلالها. وبالفعل استغلوا مخاوف العديد من الأوروبيين من أن وظائفهم قد تُمنح للاجئين، أو أن وجود أناس من ثقافات مختلفة اختلافًا واضحًا – وفي الغالب ينتمون لدين واحد، هو الإسلام – قد يغير أسلوب حياتهم.
ترى الكاتبة أن العداء تجاه اللاجئين نشأ من الإسلاموفوبيا المتأصلة بعمق في أذهان العديد من الأوروبيين. ومع ذلك، فإن ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا، وسلسلة الهجمات الإرهابية التي نفذها أعضاء التنظيم أو مؤيدوها في أوروبا، ساعدت الشعبويين أكثر. وهكذا أدت الهجرة إلى تفاقم المخاوف من هجمات المتطرفين، وغيرت وجه السياسة الأوروبية، ربما إلى الأبد.
يتابع المقال: غالبًا ما تكون المحادثات اليومية التي تدور حول طاولات القهوة في أوروبا، حتى في المدن التي تعتبر مراكز للأفكار الليبرالية مثل باريس وبرلين، معادية للأجانب. وينقسم التوجه السياسي على نطاق واسع بين أولئك الذين يشعرون بالميل الأخلاقي لمساعدة اللاجئين وأولئك الذين يرونهم عبئًا، وكذلك بين أولئك الذين يجدون فرقًا شاسعًا بين الإسلام والتطرف الإسلامي وأولئك الذين يرفضون الإسلام صراحةً.
القيم الأوروبية.. أمام اختبار الربيع العربي
أما القيم التي ارتضتها القارة الأوروبية بنفسها لتحكم سياستها الخارجية فوضعتها أحداث العقد الفائت موضع الاختبار، حسبما ترى الكاتبة. فأوروبا تدافع عن الحرية والديمقراطية، ولكنها تفتقر على نحو متزايد إلى الإرادة للدفاع عنهما في الخارج. ونتيجة لذلك يشعر العديد من الشباب العرب الذين يتطلعون إلى أوروبا بخيبة أمل، ويرون على نحو متزايد أن الحكومات الأوروبية تخدم مصالحها الذاتية.
لتوضيح جذور هذا الشعور، تقول الكاتبة: تنخرط الدول الأوروبية العملاقة، مثل فرنسا وألمانيا، في أعمال تجارية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي حلّ ببساطة محل الرئيس الإسلامي الذي شكل حكومة بعد الإطاحة بالديكتاتور القديم حسني مبارك. وفي وقت سابق من هذا الشهر، بسطت فرنسا سجادة حمراء للسيسي، ومنحته أعلى جائزة رسمية لديها، هي: وسام جوقة الشرف، دون أن يكون للقمع الوحشي الذي يمارسه نظام السيسي ضد المعارضة السياسية، من الإسلاميين والليبراليين على حد سواء، تأثير يذكر على قرار فرنسا. ويقول نشطاء إن 60 ألف سجين سياسي يقبعون في غياهب السجون المصرية، فيما يكمم النظام أفواه الصحافة بانتظام، ويروِّع نشطاء المجتمع المدني.
يقول جوليان بارنز – داسي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: «إن الربيع العربي قدم فرصة لإعادة تشكيل التطورات على الأرض، لكن أوروبا فشلت في الاستجابة للموقف».
وأضاف: «سيتقلص التركيز الأوروبي على نحوٍ متزايد، ليقتصر على تحديات الأمن والهجرة، مع تراجع الثقة بالنفس في أي قدرة على دفع النظام السياسي في المنطقة في اتجاه أكثر إيجابية. بعد عشر سنوات من الانتفاضات، يعود بعض الأوروبيين الآن إلى تبني فكرة الاستقرار الاستبدادي، كما يتجلى في الاحتضان المتزايد للرئيس السيسي في مصر».
هكذا تطيل دول أوروبية أمد الصراع في ليبيا
تنتقل الكاتبة إلى ليبيا، حيث أطاح الناتو، بقيادة فرنسا والمملكة المتحدة، بمعمر القذافي. ولكن نظرًا لأن فراغ السلطة أدى إلى حرب بين مختلف أصحاب المصلحة – الإسلاميين والمتطرفين والقبائل ونجل القذافي سيف القذافي والجنرال خليفة حفتر – فقد انزلقت ليبيا إلى مستنقع الفوضى.
بعد رحيل القذافي، كان من المتوقع أن تسيطر أوروبا على التداعيات وتقود ليبيا على درب الانتقال السياسي الديمقراطي. لكن أوروبا لم تكن فعالة على نحوٍ جوهريّ؛ لأنه لم يكن لديها مصلحة، ولا خططًا لتحقيق الاستقرار في البلاد، فحولت أنظارها ببساطة إلى الاتجاه الآخر.
ترى الكاتبة أن الصراع الدائر حاليًا في ليبيا يجسد خصومات إقليمية أوسع بين تركيا وقطر من جانب، وهما يدعمان الحكومة المعترف بها دوليًا، والتي يدعمها أيضًا الإسلاميون السياسيون، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية من جانب آخر، وهما يعتبران أنصار الإسلام السياسي أعداءهم، ويرون أن حفتر هو الرجل الذي يمكنه منحهم فرصة للانتقام.
ظاهريًا، يدعم الأوروبيون عملية السلام بوساطة الأمم المتحدة، لكن الكاتبة تلفت إلى أن بعض سياساتهم تطيل الحرب الأهلية، وتستدل على ذلك بالتقارير التي تفيد أن ألمانيا، على سبيل المثال، باعت أسلحة لكلا الطرفين المتحاربين في ساحة الصراع الليبي، لكنها، مثل إيطاليا، لا تدعم أيًا منهما سياسيًا.
أما فرنسا فهي متهمة بتسليح قوات حفتر بطريقة غير مباشرة. إذ يراهن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الرجل القوي حفتر لاحتواء المهاجرين، ومن بينهم المتطرفون الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا. ويدفع محللون فرنسيون بأن عدم الاستقرار الداخلي في فرنسا مرتبط بالتشدد الإسلامي في دول أفريقية معينة في حزام الصحراء والساحل كانت مستعمرات فرنسية سابقة.
كانت أوروبا مرتبطة بعلاقة مع القذافي على غرار علاقتها الحالية بالسيسي وحفتر. ففي عام 2010، طالب القذافي بـ5 مليارات يورو سنويًا من الدول الأوروبية إذا أرادوا منه وقف الهجرة الأفريقية غير الشرعية، وتجنب «أوروبا السوداء»، على حد وصفه. لكن قمعه أدى في النهاية إلى إشعال التمرد والحرب الأهلية، وأطلق موجة من الهجرة الجماعية إلى أوروبا.
واستخدم الطغاة عبر البحر الأبيض المتوسط مرة أخرى التهديد بفتح أبواب المهاجرين الاقتصاديين والمتطرفين كابتزاز لأوروبا، وقدموا أنفسهم على أنهم لا غنى عنهم لتأمين حدودها.
«الشيطان الذي نعرفه».. تفضيل الاستقرار مهما كان الثمن
أظهر الربيع العربي أن استمرار التعاون الأوروبي مع الأنظمة الديكتاتورية كالمعتاد كان سياسة انهزامية. ومع ذلك فإن هذا هو بالضبط النهج الذي يبدو أن العديد من الدول الأوروبية تتبناه مرة أخرى، بحسب المقال.
يقول يوست هيلترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية: «إن أوروبا أساءت فهم طبيعة الربيع العربي منذ البداية، واعتبرته كما لو كان حركة تدور حول الديمقراطية. لم يكن الناس في الساحات يحرضون على الديمقراطية في المقام الأول، لكن الأوروبيين أرادوا ذلك».
أراد المتظاهرون حكمًا أفضل على نحوٍ جذريّ، وإذا فشلوا في ذلك، فقد أرادوا الإطاحة بالأنظمة الفاسدة التي لا تستجيب لمطالبهم. وعندما أسفرت الاحتجاجات عن العنف والفوضى، أصبح الأوروبيون أكثر حذرًا، وألقوا باللوم على الإسلام في غياب التقدم الديمقراطي، وشددوا الضوابط الحدودية لمنع تدفق اللاجئين والمهاجرين، الذين اشتبهوا في أنهم جهاديون يحاولون الوصول إلى أوروبا.
لكن في نهاية المطاف، أعادت الحكومات الأوروبية تبني نموذج الاستقرار (دعم الأنظمة الاستبدادية، استنادًا إلى قناعة تفضيل الشيطان الذي نعرفه) الذي أدى إلى اندلاع الانتفاضات الشعبية في المقام الأول».
خطيئة أوروبا الكبرى في سوريا
تنتقل الكاتبة هذه المرة إلى سوريا، حيث تتبنى أوروبا موقفًا موحدًا رسميًا يربط توفير أموال إعادة الإعمار بشرط التحول السياسي، تماشيًا مع قرار الأمم المتحدة 2254 الذي يدعو إلى إشراك المتمردين في السياسة السورية، والإفراج عن السجناء السياسيين، والمساءلة عن جرائم الحرب. لكن وراء الأبواب المغلقة، دعا الشعبويون في إيطاليا وعدة دول أخرى إلى استئناف العلاقات مع نظام الأسد.
وبينما تريد إيطاليا التنسيق مع أجهزة مخابرات الأسد لملاحقة المتطرفين الذين ربما عبروا حدودها، يؤكد حزب المعارضة الألماني الرئيس، البديل من أجل ألمانيا، أن السوريين آمنون تحت حكم الأسد، وقد حان الوقت لمغادرة اللاجئين. وبدلًا عن تغيير النظام، خففت أوروبا من توقعاتها، وارتضت بمجرد تغيير سلوك النظام.
تنقل الكاتبة عن أوليفييه جيتا، رئيس شركة أمنية تقدم المشورة للحكومات في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، قوله: إن رفض أوروبا التدخل عسكريًا في سوريا هو الخطيئة الكبرى التي دفعت المسلمين الغربيين إلى أحضان «تنظيم الدولة». إذ كان الأساس المنطقي لإقناع الشباب الغربيين (بالانضمام إلى «تنظيم الدولة») بسيطًا: من المفترض أن حكومتك تدافع عن حقوق الإنسان، ولكن عندما يتعلق الأمر بإنقاذ حياة المسلمين، فإنها لا تهتم. نحن بحاجة لمساعدتكم، تعالوا وانضموا إلينا». يضيف جيتا: «تخبرني أجهزة الأمن الأوروبية أن مستوى التهديد اليوم أعلى مما كان عليه في ذروة «تنظيم الدولة» عام 2015 الذي شهد الهجمات الكبرى في أوروبا».
لكن في المقابل يستشهد خبراء آخرون بانهيار ليبيا ليصلوا إلى نتيجة مفادها أن التدخل العسكري في سوريا ليس هو المسار الصحيح. إذ كانت ساحة المعركة السورية أيضًا مليئة بمختلف أنواع الجماعات، من بينهم الجهاديين وليس فقط المعتدلين من الجيش السوري الحر. علاوة على ذلك، لم يكن المتظاهرون الديمقراطيون والليبراليون منخرطين في قوة منظمة. إذ كان نظام البعث يحكم بقبضة من حديد، ولم يسمح أبدًا لأي معارضة سياسية فعالة بالظهور. هذه الحقائق على الأرض صعبت على أوروبا والولايات المتحدة تنفيذ عملية عسكرية حاسمة ضد نظام الأسد.
على الرغم من كل الإخفاقات، تلفت الكاتبة إلى أن أوروبا أرسلت مليارات الدولارات كمساعدات، واستمرت في دعم بعض حركات المجتمع المدني التي ولدت من رحم الربيع العربي، حتى لو كان حملة راية الديمقراطية هؤلاء يعيشون في المنفى.
يختم المقال بقول بارنز – داسي، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: «يبدو أن الدرس الحقيقي المستفاد هو أن الإصلاح الهادف يحتاج إلى رؤية طويلة المدى للتغيير، وينبغي أن يركز أكثر على ترسيخ التحول من القاعدة إلى القمة، بدلًا عن سحب البساط فجأة من تحت أقدام الأنظمة الحالية».
*كاتبة عمود في مجلة “فورين بوليسي”، مقرها العاصمة اللبنانية، بيروت،ومراسلة تلفزيونية مستقلة ومعلقة مختصة في شؤون الشرق الأوسط.