فورين أفيرز- يوسف منيّر-سيكون لدينا حل دولة واحدة.. ولكن أي نوع من الدولة؟ (2-1)

فورين أفيرز- يوسف منيّر*- تشرين الثاني (نوفمبر)/ كانون الأول (ديسمبر) – 2019
منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، سيطر ما يسمى بـ”حل الدولتين” على مناقشات الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. لكن فكرة قيام دولتين لشعبين في الأراضي التي يشغَلها كلاهما كانت دائماً مجرد وهم، وفي السنوات الأخيرة، أزفت ساعة الحقيقة. لقد مات حل الدولتين. وإلى حيث ألقَت: فهو لم يقدِّم أبداً طريقاً واقعياً للمضي قدُماً. وقد حان الوقت لأن تنظُر جميع الأطراف المعنية بدلاً من ذلك في البديل الوحيد الذي لديه أي فرصة لتحقيق سلام دائم: حقوق متساوية للإسرائيليين والفلسطينيين في دولة واحدة مشتركة •
كان من الممكن رؤية هذه اللحظة قادمة منذ بعض الوقت. فبينما كان يحاول إنقاذ ما أصبح يعرف باسم “عملية السلام”، أخبر وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الكونغرس بأن حل الدولتين بقي أمامه عام إلى عامين قبل أن يصبح غير قابل للتطبيق. كان ذلك قبل ست سنوات. ودعا القرار 2334، الذي أقره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بموافقة الولايات المتحدة في أواخر العام 2016، إلى “إنقاذ حل الدولتين” من خلال المطالبة باتخاذ عدد من الخطوات، بما فيها الإنهاء الفوري لبناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. كان ذلك قبل ثلاث سنوات. ومنذ ذلك الحين، واصلت إسرائيل بناء وتوسيع المستوطنات.
ثم دقّ وصول الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض المسمار الأخير في النعش. وأوضح ترامب رؤيته في شباط (فبراير) 2017: “أنا أنظر في (حل) الدولتين، والدولة الواحدة، وأحب ذلك الذي يحبه الطرفان”. وقلَّب خبراء السياسة والدبلوماسيون المتمرسون أعينهم دهشة وهم يشاهدون نجم تلفزيون الواقع الذي تحول إلى “القائد الأعلى” وهو يصف الخيارات كما لو كانت أطباقاً على طاولة بوفيه مفتوح. لكن هذه الملاحظة أشارت إلى تحول حقيقي: منذ أن بدأت المرحلة الحالية من عملية السلام في أوائل التسعينيات، لم يقترح أي رئيس أميركي من قبل القبول بدولة واحدة علانية. ثم أصبح ما كان يدور في خلد ترامب واضحاً في السنوات التي تلت ذلك، عندما وافق هو وفريقه على قائمة أمنياتٍ إسرائيلية يمينية متطرفة، والتي هدفت إلى تحقيق ناتج الدولة الواحدة -وإنما واحدة تكرس الهيمنة الإسرائيلية على المواطنين الفلسطينيين، وليس واحدة تمنح الأطراف حقوقاً متساوية.
في عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تخلت إسرائيل عن أي تظاهر بالسعي إلى حل دولتين، وتراجع الدعم الشعبي لهذا المفهوم بين الإسرائيليين بشكل مطرد. وما يزال القادة الفلسطينيون يواصلون السعي إلى إقامة دولة منفصلة. ولكن، بعد سنوات من الفشل والإحباط، لم يعد معظم الفلسطينيين يرون أن هذا المسار قابل للديمومة.
الحقيقة البسيطة هي أن الإسرائيليين طوروا، على مر العقود، قوة كافية وحصلوا على دعم كافٍ من واشنطن للسماح لهم باحتلال الأراضي والاحتفاظ بها، وبالتالي خلق واقع دولة واحدة من ابتكارهم الخاص. ويسعى نتنياهو وترامب إلى عدم تغيير الوضع الراهن، وإنما مجرد المصادقة عليه. وهكذا، لا يكون السؤال، إذن، ما إذا كانت ستكون هناك دولة واحدة، وإنما ما نوع الدولة التي ينبغي أن تكونها. هل ستكون واحدة ترسخ الفصل العنصري بحكم الواقع، والتي يُحرم فيها الفلسطينيون من الحقوق الأساسية؟ أم أنها ستكون دولة تعترف بالإسرائيليين والفلسطينيين على قدم المساواة بموجب القانون؟ هذه الأخيرة هي الهدف الذي يجب على الفلسطينيين أن يتبنّوه، والذي يجب على الأميركيين والإسرائيليين أن يعتنقوه. لكن عليهم أولاً أن يدركوا أن الوضع الراهن سيثبت في النهاية كونه غير قابل للاستدامة، وأن تقسيم الأرض لن ينجح أبداً -وأن الطريق الأخلاقي الوحيد للمضي قدماً هو الاعتراف بالإنسانية الكاملة لكلا الشعبين.
الحقائق على الأرض
يعيش في المنطقة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط حوالي 13 مليون شخص، وكلهم تحت سيطرة الدولة الإسرائيلية. ويتكون ما يقرب من نصفهم من العرب الفلسطينيين، والذين يعيش نحو ثلاثة ملايين منهم تحت الاحتلال العسكري وليس لهم الحق في التصويت على الحكومة التي تحكمهم، ويعيش حوالي مليونان منهم في إسرائيل كمواطنين من الدرجة الثانية؛ حيث يتعرضون للتمييز على أساس هويتهم بسبب وضع إسرائيل كدولة يهودية. ويعيش أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة المحاصر؛ حيث تمارس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) حكماً محلياً: في سجن في الهواء الطلق معزول عن العالم بفعل الحصار الإسرائيلي.
وفي الأثناء، يعيش ما بين 500.000 و700.000 مستوطن إسرائيلي يهودي بين ملايين الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة. وكانت حماية المستوطنين وزيادة أعدادهم من الأولويات الرئيسية لحكومات إسرائيل منذ أن استولت على الأراضي من الدول العربية التي هزمتها في حرب الأيام الستة في العام 1967. وفي العام 1993، بدأت اتفاقات أوسلو مرحلة جديدة من العلاقة، قائمة على مقايضة: سوف تنسحب إسرائيل من أجزاء من الأراضي المحتلة وتتخلى عن بعض المستوطنات مقابل إنهاء المقاومة الفلسطينية وتطبيع علاقاتها مع جيرانها العرب.
لكن مشروعاً هائلاً للبناء الاستيطاني لم يستطع أبداً أن ينسجم بسهولة مع هذا الهدف، وعمد إلى خلق حوافز سياسية قوية لتجنبه. واليوم، تدعم أعداد كبيرة من الإسرائيليين الاحتفاظ بجزء كبير من الأراضي المحتلة إلى الأبد. وقبل أسبوع من الانتخابات الإسرائيلية التي أجريت في أيلول (سبتمبر)، ألقى نتنياهو خطاباً متلفزاً أعلن فيه عزمه على ضم غور الأردن وكل مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية -وهي خطوة من شأنها أن تستوعب 60 في المائة من الضفة الغربية وأن تترك الـ40 في المائة المتبقية في شكل كانتونات معزولة، غير متصلة ببعضها بعضا.
لعل اللافت في إعلان نتنياهو ذاك هو أنه مر بدون أن يُلحظ تقريباً: فبين اليهود الإسرائيليين، ليس الضم فكرة يمكن أن تثير الجدل. وأظهر استطلاع حديث للرأي أن 48 في المائة منهم يؤيدون خطوات على غرار ما اقترحه نتنياهو، بينما يعارضها 28 في المائة منهم فقط. وحتى المنافس الرئيسي لنتنياهو، تحالف “أزرق-أبيض” الوسطي، يدعم السيطرة الإسرائيلية الدائمة على غور الأردن. وكان رد قادته على خطة الضم التي أعلنها نتنياهو هو الشكوى من أنها كانت فكرتهم هم أولاً.
لا ينبغي أن يشكل هذا الوضع مفاجأة لأحد، وخاصة صناع السياسة في واشنطن. في واقع الأمر، وجد أحد تقديرات المخابرات الوطنية الذي وضعته الوكالات الأميركية أنه إذا واصلت إسرائيل الاحتلال وبناء والمستوطنات لـ”فترة ممتدة -قل ما بين سنتين وثلاث سنوات- فإنها ستجد صعوبة متزايدة في التخلي عن السيطرة عليها”. فالضغط من أجل التمسك بالأراضي “سوف ينمو، وسيكون من الأصعب إدارة الظهر للأراضي العربية التي تحتوي على مثل هذه المستوطنات ومغادرتها”. وقد كُتب هذا التقدير قبل أكثر من 50 عاماً، بعد أشهر فقط من بدء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية. ومع ذلك، مضت إسرائيل قدماً في توسعها الاستيطاني وتمتعت خلال ذلك بدعم ثابت من الولايات المتحدة، حتى عندما حذر المسؤولون الإسرائيليون بشكل دوري من عدم إمكانية إرجاع العجلة إلى الوراء.
كما اتخذ القادة الفلسطينيون أيضاً قرارات قللت من فرص تحقيق تقسيم قابل للنجاح -ولعل أكثرها أهمية هو الموافقة على إطار أوسلو في المقام الأول. فبفعلهم ذلك، وافقوا على صيغة شجعت توسع إسرائيل، وتخلوا عن قدرتهم على تحديه، وحيَّدوا المجتمع والقانون الدوليين. في عهد أوسلو، اضطر الفلسطينيون إلى الاعتماد على الولايات المتحدة لكي تعامِل إسرائيل بنوع من الحب القاسي الذي لم يستطع القادة الأميركيون، الذين يشعرون بالقلق على دعمهم الداخلي، أن يحشدوه. وفي السنوات الـ26 بين حرب الـ1967 وتوقيع اتفاقات أوسلو سنة 1993، ارتفع عدد المستوطنين الإسرائيليين (باستثناء أولئك الذين يعيشون في القدس المحتلة) إلى حوالي 100.000 نسمة. لكن عددهم وصل في السنوات الـ26 التي انقضت منذ ذلك الحين إلى ما يقرب من 400.000 مستوطن.
بينما أصبح فشل عملية السلام أكثر وضوحاً مع مرور الوقت، نهض الفلسطينيون ضد الاحتلال -بطريقة عنيفة بعض الأحيان. وقد استشهدت إسرائيل بردود الفعل هذه لتبرير ممارستها المزيد من القمع. لكن القادة الفلسطينيين مكّنوا هذه الدورة، ووطنوا أنفسهم -في ما يسُرّ إسرائيل- على الاضطرار إلى إثبات أن الفلسطينيين يستحقون حق تقرير المصير -وهو شيء تستحقه جميع الشعوب في واقع الأمر. (يُتبع)
*كاتب وباحث يعمل مديراً تنفيذياً للحملة الأميركية لحقوق الفلسطينيين.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
There Will Be a One-State Solution: But What Kind of State Will It Be ؟