فورين أفيرز- مايكل س. دوران – قصر أحلام الأميركيين: لماذا التنازل عن الأرض لن يجلب السلام (2-1)

فورين أفيرز – مايكل س. دوران* – تشرين الثاني (نوفمبر)/ كانون الأول (ديسمبر) 2019
تعرضت سياسات إدارة ترامب في الشرق الأوسط إلى هجمات شديدة شنتها عليها مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية. وثمة العديد من العناصر التي طالها النقد في هذه السياسة، بما فيها المناهج التي اتخذتها الإدارة تجاه مصر، وإيران، والمملكة العربية السعودية وسورية. لكن المنتقدين يعتقدون بأن أكبر الخطايا التي اقترفتها الإدارة عموماً كانت دعمها لإسرائيل. فمن خلال نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، ومباركة ضم إسرائيل لمرتفعات الجولان، وغيرها من الإيماءات، يقال إن فريق ترامب انقلب على نصف قرن من السياسة الثابتة والمستقرة التي تبنتها الولايات المتحدة طويلاً، وتخلَّى عن الفلسطينيين، وقتلَ حل الدولتين.
وهي اتهامات خطيرة. لكنها تتحول، لدى التمحيص الدقيق، إلى ادعاءات تتحدث عن هستيريا المدَّعين أكثر مما تتحدث عن ذنب المدَّعى عليه. كانت بعض سياسات الرئيس دونالد ترامب جديدة وبعضها لم تكن كذلك، وما يزال من السابق لأوانه رؤية الكثير من تأثيراتها. فلماذا إذن كل هذا الصخب والصراخ؟ لأن الإدارة تصر علناً على ممارسة سياسة القوة بدلاً من محاولة أخذ العالم إلى ما ورائها. إن جريمة ترامب الحقيقية هي أنه يتحدى أوهام الناس -وهي جريمة لا تغتفر.
الطريق إلى القرار 242
لطالما عمل الصراع بين إسرائيل والعرب كشاشة يعرض عليها الغرباء دراماهم النفسية الخاصة. وفي الوقت نفسه، تمضي السياسة الفعلية في الشرق الأوسط قدماً بلا هوادة، وتتبع نفس قوانين الفيزياء السياسية التي تتبعها السياسة في كل مكان آخر: الأقوياء يفعلون ما في وسعهم، والضعفاء يعانون ما يجب أن يعانوه.
دخلت الولايات المتحدة اللعبة الجيوسياسية الإقليمية في الشرق الأوسط بجدية خلال الحرب العالمية الثانية، منجذبة بالأهمية الاستراتيجية للنفط المكتشف حديثاً تحت الصحراء العربية وفي أماكن أخرى. ومع ذلك، مع قوة ما بعد الحرب جاءت المسؤولية الإقليمية، وكان على واشنطن في نهاية المطاف أن تقرر كيفية التعامل مع بقايا الفوضى التي خلفها الانتداب البريطاني في فلسطين.
في العام 1948، تعرض الرئيس الأميركي هاري ترومان لضغوط سياسية داخلية للاعتراف بإسرائيل التي ستستقلّ قريباً. وقد عارضت مؤسسة السياسة الخارجية هذه الخطوة، قائلة إن من شأن الدعم الأميركي للصهيونية أن يُنفّر الدول العربية ويدفعها إلى أحضان الاتحاد السوفياتي. وكانت العديد من الأصوات التي تدلي بهذه الحجج من الدبلوماسيين والخبراء الذين تربطهم صلات عميقة بالعالم العربي وينطوون على قليل من التعاطف مع اليهود. ولم يقتنع ترومان بتحليلهم، ومضى قدماً إلى الاعتراف بإسرائيل على أي حال. واعتبرت المؤسسة ذلك القرار وصمة كبيرة في سجله -خطأ فادحاً مدفوعاً بتطفل السياسة الداخلية الهاوية على السياسة الخارجية المهنية.
مع خروج البريطانيين من فلسطين، هاجم العرب. وعندما انجلى الغبار، لم يقتصر الأمر على أن إسرائيل مُنِحت الاستقلال من الآخرين فحسب، بل إنها كسبته في ساحة المعركة. ولم يغير ذلك العرض للقوة أي آراء رسمية، واستمر المعسكر العروبي في رؤية التزام الولايات المتحدة بإسرائيل استراتيجية محكومة بشروطها -كترف عاطفي يتداخل مع السياسة الجادة. وفي العام 1956، خسرت مصر الحرب الثانية لصالح إسرائيل التي انضمت إليها في القتال فرنسا والمملكة المتحدة، واستولى الإسرائيليون على شبه جزيرة سيناء. ومترددة أمام إمكانية اعتبارها متماهية مع أي من الصهيونية أو الإمبريالية، تدخلت إدارة الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور على عجل لإجبار حلفائها الأوروبيين على التراجع وإسرائيل على الانسحاب، بسرعة ومن دون شروط تقريباً. بالنسبة لأيزنهاور، على الأقل، كان القرار يتعلق بالعمل، وليس قراراً شخصياً.
كان آيزنهاور يحاول خوض حرب باردة إقليمية وعالمية، وكان لدى العرب الأغنياء بالنفط الكثير ليعرضوه. وكان على إسرائيل الصغيرة الضعيفة، في المقابل، أن تكون الواحد الذي يجب أن يضحي من أجل المجموع. وبعد عقد من الزمان، سخنت الأمور مرة أخرى. شجعت موسكو الزعيم المصري جمال عبد الناصر على بدء أزمة مع إسرائيل، كما هو موضح في تلخيص أعدته وكالة المخابرات المركزية لمعلومات من مسؤول سوفياتي، “من أجل خلق بقعة متاعب أخرى للولايات المتحدة بالإضافة إلى تلك الموجودة مسبقاً في فيتنام”. بل إن موسكو مررت له معلومات استخباراتية زائفة تدّعي بأن إسرائيل كانت تحشد قواتها على حدودها الشمالية استعداداً لشن هجوم على سورية. وسرعان ما علم ناصر بأن هذه المعلومات الاستخباراتية خاطئة، لكنه قرر التصرف عليها على أي حال، واختار أن يرى تحرك موسكو هذا على أنه بمثابة دعوة لتسخين الحدود الجنوبية لإسرائيل باسم التضامن العربي.
وهكذا، قام ناصر في العام 1967، متذرعاً بتقديم المساعدة لسورية، بطرد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي تفصل بين المتحاربين السابقين في العام 1967، ووضع الجيش المصري في حالة تأهب قصوى، ونقل الجنود إلى سيناء، وقطع وصول إسرائيل البحري إلى آسيا، وتواصل مع جيوش الأردن وسورية. وردت إسرائيل بضربة وقائية ضد أعدائها وحصلت على نصر آخر، انتصار صاعق تركها مسيطرة على مناطق تم الاستيلاء عليها من الثلاثة: مصر (سيناء وغزة)؛ والأردن (القدس والضفة الغربية)؛ وسورية (مرتفعات الجولان).
واجه الرئيس الأميركي ليندون جونسون الآن المعضلة نفسها التي واجهها أيزنهاور: هل يجب أن يسمح لإسرائيل بالاحتفاظ بما كسبته؟ ربما كان بعض المسؤولين قد تاقوا إلى انتهاج السياسة التقليدية المتمثلة في استرضاء العرب على حساب إسرائيل، لكن إقامة القضية كانت تصبح أكثر صعوبة باطراد. فقد ربحت إسرائيل الآن ثلاث حروب متتالية ضد خصومها العرب الذين يُفترض أنهم أقوى منها، آخرها انتصاراً سهلاً. وقد تسببت هزيمة الوكلاء السوفيات الأقوياء على يد وكيل أميركي مستضعف في إحراج الاتحاد السوفياتي وعزز مكانة الولايات المتحدة الإقليمية إلى جانب مكانة إسرائيل. كانت مصر وراعيها السوفياتي استفزازية بشكل متهور، وجعلتها إسرائيل تدفع ثمن ذلك غالياً. كان التدخل مرة أخرى لمعاقبة المنتصر ومكافأة المهزومين شيئاً لا يمكن تصوره.
ومع ذلك، إذا لم يكن إجبار إسرائيل على التخلي عن الأراضي التي احتلتها خياراً، فكذلك كان أمر السماح لها بضمها بشكل مباشر، الأمر الذي بدا أنه يعرض خطر استفزاز حرب أخرى. لذلك اختارت إدارة جونسون المسار الثالث؛ حيث حولت الأزمة إلى فرصة، من خلال ربط تسوية هذه الحرب بالذات مع الصراع الإقليمي الأوسع.
كانت خطتها معقولة: سوف يستعيد المحاربون العرب جزءاً كبيراً من الأرض التي فقدوها، وإنما فقط مقابل الاعتراف بإسرائيل داخل حدود آمنة وإنهاء العنف. وبعد أشهر من المحادثات، أقنع المفاوضون الأميركيون السوفيات بقبول شيء قريب من ذلك، وأصبحت النتيجة الصيغة الشهيرة المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 242: دعوة إلى “انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الأخير”.
كانت صياغة القرار غامضة بشكل متعمد. وقد أصرت الدول العربية لاحقاً على أن الجملة تعني أن على إسرائيل أن تنسحب فوراً من “جميع” الأراضي المحتلة، لكن الأميركيين بذلوا جهداً للتأكد من أن النص الرسمي سيقرأ “من أراضٍ” فقط. وقد طالبت الولايات المتحدة بلغة تؤيد سياستها بوضوح: سوف تحدد مفاوضات ثنائية بين إسرائيل وكل دولة من الدول المتحاربة مدى انسحاب إسرائيل. وفي غضون ذلك، سوف تحتفظ إسرائيل بالأراضي وتديرها.
دخول كيسنجر
في هذه المرحلة، وحرصاً على إعادة تحويل اهتمامها إلى فيتنام والجبهة الداخلية، فوضت إدارة جونسون الأمور إلى الدبلوماسي السويدي غونار يارنج، الذي شغل منصب الممثل الخاص للأمم المتحدة للتفاوض على صفقة. ولسوء الحظ، انهارت المحادثات بسرعة بسبب التفسيرات غير القابلة للتوفيق للقرار 242. ودعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى مفاوضات مباشرة بين المتحاربين حول شروط التسوية، في حين أصر الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه العرب على التزام إسرائيل بالانسحاب الكامل كشرط مسبق لأي محادثات -حتى بينما سعت موسكو إلى إعادة بناء الجيش المصري. وسرعان ما عمد ناصر، المتشجع حديثا، إلى تحدي إسرائيل على طول قناة السويس، ورد الإسرائيليون بضربات جوية، وتصاعدت المناوشات إلى ما يشار إليه الآن باسم حرب الاستنزاف.
لدى مشاهدة إسرائيل وهي تبلي حسناً، قرر الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، ومستشاره للأمن القومي، هنري كيسنجر، أن الدولة اليهودية قد اكتسبت الاحترام كحليف، وقاما في نهاية المطاف بإدخال قوة إسرائيل الجديدة في عملية وضع استراتيجية الإدارة. ورأى كيسنجر القوة الإسرائيلية كأداة لتغيير الخريطة الجيوسياسية، كمقبض تحويل يمكن أن يحول مصر؛ أقوى دولة عربية في ذلك الحين، من المعسكر السوفياتي إلى الولايات المتحدة. من أجل استعادة أراضيها المفقودة وإعادة فتح قناة السويس، حسب قوله، كان على مصر أن تتفاوض مباشرة مع إسرائيل. يستطيع السوفيات مساعدة القاهرة في شن الحرب، لكن الولايات المتحدة وحدها هي التي يمكنها مساعدتها في صنع السلام. يمكن لواشنطن أن تدفع الإسرائيليين إلى التنازل وأن تتوسط في التوصل إلى تسوية دائمة، وإنما فقط إذا تخلى الرئيس المصري أنور السادات عن موسكو.
بعد حرب كبرى أخرى في العام 1973، نجحت الاستراتيجية. وتضمنت اتفاقية سيناء المؤقتة، التي وقعتها مصر وإسرائيل في العام 1975، انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المتاخمة لقناة السويس -التي تضمن حفل إعادة فتحها الأخير وجود سفينة حربية أميركية، بناء على إصرار من السادات. كان الجزء “المؤقت” من الصفقة تعهداً من الجانبين بالتفاوض على اتفاق سلام نهائي من دون اللجوء إلى الحرب. وأرسى ذلك الجزء الأساس للسلام التاريخي بين مصر وإسرائيل، والذي سيتم توقيعه في كامب ديفيد في العام 1978.
لو أنّ الرئيس الأميركي جيرالد فورد هزم منافسه الديمقراطي، جيمي كارتر، في العام 1976، لكان كيسنجر بالتأكيد هو الذي سيشرف على توقيع الصفقة. وكان سيُعد ساحراً دبلوماسياً: أنهى الصراع المصري الإسرائيلي، مع جلب مصر -في الوقت نفسه- إلى الكتلة الغربية. ولكن، كما حدثت الأمور، كانت إدارة كارتر هي التي توسطت في إبرام اتفاقيات كامب ديفيد، وقد أثرت هذه الحقيقة إلى حد كبير على الدروس التي تعلمتها الأجيال اللاحقة من الانتصار.
كان جعل الأطراف تلتزم بالتسوية النهائية إنجازاً دبلوماسياً ضخماً تطلب تركيزاً رئاسياً كثيفاً واحتياطياً هائلاً من الصبر والمثابرة، وهو ما يستحق كارتر عليه الفضل. ومع ذلك، في عملية إنهاء ما بدأه كيسنجر، ضمن كارتر أفكاره الخاصة حول المشكلات الحقيقية في المنطقة وحلولها في موقف الولايات المتحدة -وهي أفكار كانت أقل دقة من أفكار كيسنجر، وإنما التي سينتهي بها المطاف لتكون بمثابة إنجيل لأنها توافقت مع نجاح الاستراتيجة السابقة الذي تحقق بشق الأنفس. (يُتبع)
*(من مواليد 25 نيسان/ أبريل 1962) خبير أميركي في السياسة الدولية للشرق الأوسط. وهو زميل رفيع في معهد هدسون. كان سابقا زميلاً في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز. وكان أستاذاً زائراً في كلية روبرت فاجنر للدراسات العليا في الخدمة العامة بجامعة نيويورك. قبل ذلك، كان أستاذاً مساعداً لدراسات الشرق الأدنى بجامعة برينستون ودرس في جامعة سنترال فلوريدا. تم تعيينه في مجلس الأمن القومي، وكان أيضاً نائب مساعد وزير الخارجية للدبلوماسية العامة في وزارة الدفاع الأميركية في عهد إدارة جورج دبليو بوش.
*نشر هذا المقال تحت عنوان :
The Dream Palace of the Americans: Why Ceding Land Will Not Bring Peace