ترجمات أجنبية

فورين أفيرز :لماذا تعزز روسيا والصين علاقاتهما الأمنية الآن؟

بقلم: ألكسندر غابوييف ، عن فورين افيرز

اختتمت روسيا تدريبات فوستوك – 2018، وهي أكبر تدريبات عسكرية لها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، إلا أن حجم هذه المناورات الأخيرة لم يكن السبب الوحيد لفرادتها.
فلأول مرة في التاريخ، تدرب 3200 جندي صيني بجانب 300,000 جندي روسي في سيبيريا الشرقية.
اعتاد الكرملين سابقاً إرسال دعوات المشاركة في هذه التدريبات لحلفائه العسكريين الرسميين مثل بيلاروسيا.
إلا أن وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، حين سئل في مؤتمر صحافي عما إذا كانت مثل هذه التدريبات المشتركة قد أقلقته من إمكانية تشكُّل تحالف عسكري بين روسيا والصين، أنكر ذلك قائلاً: «لا أرى الكثير مما يمكن أن يجمع روسيا والصين على المدى البعيد».
تعكس رؤية ماتيس الموقف الغربي التقليدي، والذي يعتقد أن انعدام الثقة بين روسيا والصين أعمق من أن ينجم عنه أي روابط استراتيجية فعالة، إلا أن هذه الرؤية خاطئة إلى حد بعيد.
إذ إن تعزيز الروابط العسكرية بين الدولتين المتنافستين سابقاً صار واقعاً، وبإمكان علاقة استراتيجية قوية بين موسكو وبكين مع الوقت، أن تفسد على الولايات المتحدة نصف قرن من التخطيط العسكري والاستراتيجي.
مثلت تدريبات فوستوك –2018 العسكرية ذروة التغيير في الفكر الاستراتيجي الروسي تجاه الصين، الذي اكتسب زخماً كبيراً بعد العام 2014.
حتى قبل ذلك، كانت روسيا قد ارتأت أسباباً جلية لتعزيز ارتباطها مع بكين. لدى روسيا والصين اهتمامات مشتركة في الحفاظ على السلام والاستقرار على طول حدودهما المشتركة البالغة 2600 ميل.
فبعد يومين من الاشتباك الدامي بين الدولتين، العام 1969، خصص كل منهما موارد هائلة لبناء حشد عسكري مكلف على الحدود، ثم في ثمانينيات القرن العشرين، تحولتا إلى إنشاء مناطق حدودية منزوعة السلاح، وأخيراً حسمتا الخلاف الحدودي طويل الأجل بينهما، العام 2004.
حالياً، ترى كلتا الدولتين أن التحديات الرئيسة المهددة لأمنهما قابعة في مكان آخر، ومن ثم تساهم رغبتهما المشتركة في تجنب خلق علاقة متوترة بينهما مجدداً، في استقرار العلاقة بينهما. الكرملين مشغول بالحروب في سورية وأوكرانيا بالإضافة إلى مواجهة تأثير الوجود المتزايد لـ “الناتو” على حدوده الغربية واستمرار الولايات المتحدة في بناء منظومتها الدفاعية.
أما الصين، فإن قيادتها تواجه توترات متصاعدة مع واشنطن حول قضايا أمنية وتجارية، بالإضافة إلى العديد من النزاعات الحدودية التي وتّرت علاقاتها مع اليابان والفلبين وفيتنام وبعض جيرانها الآخرين.
وفي نفس الوقت، تسعى بكين وراء هدفها القديم المتمثل في استعادة السيطرة على تايوان.
من العوامل الأخرى التي تدفع روسيا والصين إلى مزيد من التقارب هو اعتماد اقتصاد كل منهما على الآخر، فروسيا أولاً وقبل كل شيء مصدرٌ للمواد الخام، ثم إنها تفتقر عادة إلى القدرة على الوصول إلى التكنولوجيا الصناعية المتقدمة ورؤوس الأموال.
أما الصين، التي تعد مستورداً رئيساً للسلع، وخصوصاً النفط والغاز، فقد قذفت بنفسها في مصاف الدول المتقدمة تكنولوجياً مع وفرة في رأس المال المتاح للاستثمار الخارجي.
تبدو الصين، نظرياً، الشريك التجاري المثالي لروسيا، على الرغم من أن موسكو كانت بطيئة في الاستفادة من الفرص التي وفرتها السوق الصينية، إلا أن الأزمة المالية العالمية في العام 2008 سارعت في وصول روسيا إلى السوق الصينية، ونتيجة لذلك، أصبحت الصين على رأس قائمة الشركاء التجاريين لروسيا منذ العام 2010.
أخيراً وليس آخراً مثلت الأهداف السياسية المشتركة عاملاً إضافياً ساهم في تعزيز التقارب بين البلدين، فكلتا الدولتين تعليان من قيم الاستقرار، وإمكانية التنبؤ، والحفاظ على نفوذهما وقبضتهما على السلطة فوق كل شيء آخر، ثم إن كلتا الدولتين، باعتبارهما عضوين دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تتشاركان الرغبة في تشكيل النظام العالمي بطريقة تعلي من شأن السيادة وتحد من التدخل الأجنبي في الشئون الداخلية.
يظهر هذا جلياً في العديد من النقاشات التي تدور حول مواضيع إدارة الشؤون الدولية مثل الفضاء السيبراني والتحكم في الإنترنت، حيث تدعم الصين وروسيا بعضهما البعض في هذا الخصوص.
 
من الشك المتبادل إلى الوفاق
وعلى الرغم من هذه المصالح المشتركة، بقيت نظرة الكرملين المتوجسة إلى الصين قائمة حتى وقت قريب، وهذا في الأساس عائد إلى عدم التوازن الديموغرافي بين الشرق الأقصى الروسي ذي الكثافة السكانية المنخفضة والمقاطعات الصينية المجاورة، إذ يستوطن هذه المقاطعات ما يقارب مائة وعشرين مليوناً، بعضهم يتكسبون من كونهم عمالاً أجانب في سيبيريا.
خشي الكرملين من أنه إذا استمر تدفق العمال الصينيين للاستقرار في سيبيريا، وحصلوا تبعاً لذلك على الجنسية الروسية، فإن هذا المسار سيؤدي على المدى البعيد إلى خسارة روسيا بعضاً من أراضيها.
أحد الأسباب الأخرى التي أقلقت روسيا هو سرقة الصين لبعض التكنولوجيا العسكرية الحساسة الخاصة بها، مثل تصميم الطائرات المقاتلة Su 27 (سمت الصين نسختها J-11B)، والتي أدت إلى انخفاض في مبيعات السلاح الروسي، العام 2005.
وأخيراً، بعث النمو المتسارع للنفوذ الصيني عن طريق تدابير مثل مبادرة طريق الحرير الجديد، القلق في روسيا تجاه نفوذها في آسيا الوسطى، التي لطالما اعتبرتها روسيا جزءاً من مجال نفوذها.
خفض احتلال روسيا للقرم، العام 2014، ثم الصراع الذي لحقه في شرق أوكرانيا من حدة هذه المخاوف بشكل كبير، فحين عُزلت روسيا إثر موجات من العقوبات الغربية عليها، اتجه الكرملين إلى بكين بحثاً عن الموارد المالية، والتكنولوجيا، ووجد فيها سوقاً لترويج صادراته.
ومع ذلك، فقد أجرت روسيا، قبل أن تتجه إلى الصين، دراسة شاركت فيها وكالات عدة لحساب المخاطر المحتملة التي قد تنتج عن التقارب مع الصين.
ساهمت نتائج الدراسة في تهدئة مخاوف الكرملين السابقة إذ بينت أن الكثير منها كان مبالغاً فيه، فعلى سبيل المثال، بالرغم من أن تعداد الصينيين في روسيا كان قد قدر من قبل، بشكل غير رسمي، بما يزيد على المليونين، اكتشفت الحكومة أن أعدادهم في الواقع لا تتجاوز 600 ألف، وأن أكثر من نصفهم يعيشون في الجزء الأوروبي من روسيا، حيث توجد فرص عمل أفضل، لا في الشرق الروسي الأقصى، فقد أصبحت روسيا أقل جذباً للعمال الصينيين بسبب ارتفاع الأجور في الصين الذي نتج عن تقلص القوى العاملة وارتفاع معدل إجمالي الناتج المحلي، بالإضافة إلى انكماش الاقتصاد الروسي مع انخفاض قيمة الروبل بين عامي 2014 و2015.
خَلُص الكرملين أيضاً إلى أن صناعة السلاح الصينية تتقدم تقدماً حثيثاً بفضل الاستثمارات الهائلة في البحث والتطوير المحلي.
في أقل من عقد واحد لن يكون جيش التحرير الشعبي الصيني في حاجة للأنظمة روسية الصنع، ما يَحُّد من فرص روسيا في بيع أسلحتها للصين.
وأخيراً، اقتنعت موسكو بأن التأثير الاقتصادي الصيني المتنامي في وسط آسيا أمر لا مناص منه.
في واقع الأمر يحد التمدد الصيني الموغل في تلك المنطقة من رغبة تلك الدول في السعي لفتح طرق تصدير إلى أوروبا قد تتجاوز روسيا وتضع مزيداً من الضغط على عاتق المصدرين الروس في سوقهم الرئيسة، لهذا لا تجد موسكو غضاضة في مد بكين لروابطها الاقتصادية في وسط آسيا طالما التزمت رسمياً بعدم مقارعة نفوذ الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وهو التكتل الذي تقوده موسكو والذي يمنح الشركات الروسية أفضلية في الوصول لأسواق كازاخستان وقرغيزستان، وعدم تهديد الدور الروسي الذي ادعته موسكو لنفسها كونها الراعي الرئيس للأمن في المنطقة.
ونتيجة لهذا التحول في نهج موسكو، نما الاعتماد الروسي على الصين أكثر فأكثر منذ 2014، وقدمت البنوك الصينية قروضاً سخية للشركات الروسية الكبرى المملوكة للدولة ولأفراد من حاشية بوتين الذين ترد أسماء العديد منهم في قوائم العقوبات المختلفة.
على الأرجح ستلقى هذه المحاولة لشراء الولاء الروسي نجاحاً كبيراً، بما أن الكرملين قد فقد إيمانه بإمكانية إقامة علاقات حسنة مع الولايات المتحدة تحت حكم ترامب.
مرر الكونغرس الأميركي، بشبه إجماع، حزمة عقوبات جديدة ضد روسيا في آب 2017، وهو ما أقنع الكثيرين في موسكو بأن العلاقات مع واشنطن لن تتحسن طالما بقي بوتين في السلطة.
قدَّم عداء واشنطن تجاه كلا النظامين حافزاً رئيساً لتحسين العلاقات الروسية الصينية.
جمعت استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة الصين وروسيا في كفة واحدة متهمة إياهما «بمحاولة  القضاء على الأمن والازدهار الأميركي»، وهو النهج الذي تكرر في استراتيجية الأمن الإلكتروني الجديدة لوزارة الدفاع الأميركية.
تسبق المخاوف الأميركية المتنامية تجاه الصين وروسيا وصول إدارة ترامب للسلطة، لكنها تشجع قادة البلدين على السعي لإيجاد أرضية مشتركة.
المناورات الصينية الروسية الضخمة التي جرت الأسبوع الماضي هي رسالة واضحة للولايات المتحدة وأوروبا مفادها: إذا واصلتم الضغط علينا بالعقوبات والتعريفات الجمركية والانتشار العسكري، سنتحد معاً لنقاوم هذه الضغوط.
 
شراكة خطرة
مهما كان الأمر، للشراكة الأمنية الصينية – الروسية حدودها، ومن المهم أن لا نغفل عنها.
لا تسعى موسكو وبكين لإقامة حلف رسمي، على الأقل في الوقت الحالي، إذ لا تريد بكين الانجرار إلى مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة نتيجة لمغامرات روسيا العسكرية أو أخطائها غير المحسوبة في الشرق الأوسط أو أوروبا.
على نفس المنوال لا ترغب موسكو في أن تجد نفسها مضطرة للانحياز لطرف إذا ما اشتبكت الصين مع شركاء اقتصاديين استراتيجيين آخرين لروسيا مثل فيتنام أو الهند. 
حتى في غياب حلف أمني رسمي شبيه بالناتو، سترتكب واشنطن وحلفاؤها خطأ فادحاً إن تجاهلوا عواقب هذه الشراكة العسكرية المتنامية.
تقوي تدريبات مثل فوستوك – 2018 أواصر العمل المشترك بين القوات الروسية والصينية والتي قد تثبت نجاعتها في المناطق الإقليمية الساخنة مثل وسط آسيا أو شبه الجزيرة الكورية. تنمي هذه التدريبات كذلك الثقة والعلاقات غير الرسمية بين كبار المسؤولين، على النحو الذي يتواصل به المسؤولون في واشنطن مع نظرائهم في أوروبا وآسيا.
قد تؤدي هذه الثقة المتزايدة بين الجيشين الصيني والروسي إلى زيادة التعاون والتنسيق في ساحة الفضاء الإلكتروني، خصوصاً عندما يتعلق الأمر باستغلال ثغرات أنظمة الاتصال الأميركية العسكرية والمدنية، على الأقل يُعتقد الآن أن وكالات مكافحة التجسس الروسية والصينية تتشارك معلومات حساسة فيما بينها عن العمليات التي تنفذها وكالة الاستخبارات المركزية CIA ضد البلدين.
في كل الأحوال، ما يكتسب أهمية فائقة لدى بكين الآن هو التدفق المتزايد لأنظمة التسليح الروسية المعقدة التي ستطور من القدرات القتالية لجيش تحرير الشعب الصيني بشكل جذري على المدى القريب.
ستسمح أنظمة صواريخ S- 400 أرض جو الروسية التي اشترتها الصين من روسيا في العام 2014 وبدأت في تنصيبها في وقت مبكر من هذا العام، للصين بالسيطرة على كامل المجال الجوي لتايوان، ما يصعب مهمة الدفاع عن الجزيرة على القوات الجوية التايوانية والمخططين العسكريين الأميركيين.
ستساعد منظومة S- 400 الصين على تحقيق هدفها المتمثل في إقامة منطقة تعريف دفاع جوي، وهي مساحة يكون فيها للجيش الصيني سلطة التعرف إلى كل الطائرات المدنية الأجنبية والتحكم فيها، في المياه المتنازع عليها شرق الصين وفي بحر الصين الجنوبي.
وستخدم عملية شراء الصين لطائرات Su-35، وهي الطائرات الروسية الأكثر تطوراً، الغاية ذاتها.
تتجاهل أطر الفكر التقليدية في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى الدرجة التي يقرب بها قصر نظر سياسات الولايات المتحدة، الصين وروسيا بعضهما من بعض.
ولعل الوقت الراهن هو الوقت المناسب ليقوم صناع القرار في الولايات المتحدة بإعادة التفكير في هذه السياسة التي تحفز النعرات العدائية – دون داعٍ في بعض الأحيان – لدى خصمَي الولايات المتحدة الجيوسياسيين، والتفكير بطرق إبداعية في كيفية إدارة عصر جديد تتزايد فيه حدة المنافسة بين القوى العظمى.
 
* باحث ومختص بالشأن الروسي في مركز كارنيغي – موسكو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى