فورين أفيرز: بريجنسكي: لاعب الشطرنج الكبير على الساحة الدولية

فورين أفيرز 19-8-2025، توم دونيلون: بريجنسكي: لاعب الشطرنج الكبير على الساحة الدولية

شغلت 29 شخصية حتى الآن منصب مستشار الأمن القومي الأميركي منذ تأسيسه إثر صدور “قانون الأمن القومي” عام 1947. في البداية وصف المستشار بأنه “الأمين التنفيذي” لهيئة تنسيق صغيرة، هي مجلس الأمن القومي، مهمتها “تقييم وتقدير” أهداف الأمن القومي الأميركي والنظر في السياسات التي تعزز تلك الأهداف. لكنه تطور ليغدو واحداً من أكثر المناصب السياسية تطلباً وتأثيراً في الحكومة الأميركية. شخصيتان من الذين تولوا المنصب المذكور برزتا من بين الباقين: هنري كيسنجر وزبيغنيو بريجنسكي. وكلاهما جاء إلى أميركا الشمالية من أوروبا عندما كانا طفلين قبل الحرب العالمية الثانية – كيسنجر من ألمانيا، وبريجينسكي من بولندا – فوصلا إلى مرفأ نيويورك عام 1938 بفاصل زمني لم يتعد الستة أسابيع. وهما في حياتهما المهنية تصادما وتنافسا طوال أكثر من نصف قرن. وسطع نجماهما ضمن جيل من الباحثين والخبراء في العلاقات الدولية بحقبة ما بعد الحرب، إذ بلغا أعلى مراتب مؤسسة الأمن القومي الأميركي بقوة الفكر والطموح والإرادة. وكان لكل منهما تأثير كبير في سياق تاريخ الولايات المتحدة واستراتيجياتها الكبرى.
صدرت أكثر من 10 كتب تناولت سيرة كيسنجر، أما عدد الكتب التي تناولت حياة بريجينسكي فيبقى أقل بكثير. وقام الصحافي إدوارد لوس عبر مؤلفه “زبيغ” (Zbig) بأداء دوره في معالجة هذا الخلل. لوس قاص موهوب، يروي بتفاصيل حية وصادقة محطات حياة بريجنسكي الشخصية ورحلته الفكرية ونجاحاته وإخفاقاته، مستخدماً مجموعة فريدة من المصادر الأولية، المتضمنة مئات المقابلات مع عائلة بريجنسكي ومعاصريه، ومذكراته الشخصية، وحتى الملفات التي احتفظت بها بحقه الشرطة السرية البولندية طوال عقود من الزمن.
وبتأليفه هذا الكتاب التحفة، يسدي لوس في الواقع خدمة حقيقية للتاريخ. فبريجنسكي لعب دوراً بالغ الأهمية لا يحظى بالتقدير الكافي، وذلك في فتح العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وبإنهاء الحرب الباردة، ورسم ملامح الواقع العالمي الذي ساد على الأثر. وعلى رغم المحطات الفاشلة التي تخللت عمله كمستشار للأمن القومي – أبرزها المحطة المتعلقة بأزمة الرهائن الأميركيين في إيران – فقد أسهم فهم بريجنسكي العميق للعوامل والقوى التاريخية في منحه قدرة فريدة على تقدير مزايا الولايات المتحدة واستيعاب كيفية الاستفادة منها بغية تحقيق المكاسب الاستراتيجية. واليوم بلغت حقبة ما بعد الحرب الباردة التي أسهم بريجنسكي في الوصول إليها نهايتها، وخلفت وراءها عالماً أكثر خطورة ومسارات يسودها التنافس. وسيتطلب الخوض في التحديات المعاصرة جيلاً جديداً من صناع السياسة كي يستحضروا تلك الرؤى الثاقبة التي أرشدت بريجنسكي خلال حياته.
تلميذ التاريخ
قابلت بريجنسكي أول مرة في البيت الأبيض عام 1977 أثناء عملي كواحد من مساعدي الرئيس جيمي كارتر المبتدئين. أظهر بريجنسكي هالة من الثقة، بحضوره الشخصي المهيب والآسر وكلامه المقتضب الذي يليق بسليل عائلة بولندية عريقة من النبلاء يمتد تاريخها لقرون مضت. ولد بريجنسكي عام 1928، ابناً لدبلوماسي بولندي خدم في سلك بلاده بألمانيا والاتحاد السوفياتي طوال معظم ثلاثينيات القرن الـ20. وعلى رغم قضائه ثلاثة أعوام فقط من حياته في بولندا، فقد نشأ مُكناً احتراماً عميقاً لماضي وتراث عائلته البولندية، فضلاً عن نظرته العالمية المعادية بشدة للاتحاد السوفياتي والشيوعية. بلغ “زبيغ” سن الرشد تزامناً مع تعزيز هتلر سلطته واجتياحه وطنه بولندا، وتابع برعب من مونتريال، حيث خدم والده في منصبه الدبلوماسي خلال الحرب، قيام ستالين بتعزيز حكمه الموغل في الوحشية. وشعر بريجنسكي في السياق بجرح خيانة شخصي إثر مؤتمر يالطا عام 1945، عندما قسم “الستار الحديدي” أوروبا إلى نصفين، شرقي وغربي، مع وجود بلده بولندا في الشرق محجوبة خلف الستار.
كرس بريجنسكي حياته الأكاديمية والمهنية لدراسة القوى الشمولية والاستبدادية التي سيطرت على وطنه خلال طفولته والعمل على تقويضها. كان طموحاً منذ البداية، إذ يروي لوس أن بريجنسكي، البالغ من العمر 12 سنة، وصف نفسه في كتاب التخرج المدرسي بأنه خبير في “الشؤون الأوروبية”، بينما ادعى زملاؤه خبرات في مجالات مثل الأفلام، والرومانسية، والتثاؤب، والتأخر عن الحصص. تفوق بريجنسكي داخل المدارس الإعدادية في مونتريال ولاحقاً في جامعة ماكغيل، حيث حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير، وكتب أطروحة تخرج من 80 ألف كلمة حول القومية الروسية.
في جامعة هارفرد، حيث التحق عام 1950 لمتابعة دراسته للدكتوراه، التقى للمرة الأولى بمنافسه المستقبلي كيسنجر. كان بريجنسكي يختار بين مشرفين محتملين، عالم السياسة كارل فريدريش والمؤرخ ويليام إليوت، فزار كلا الصفين. وبسبب ضيق الوقت، سلم إليوت الحصة التمهيدية لمساعده التدريسي: شاب يدعى كيسنجر، الذي وجد بريجنسكي إعجابه بالفلاسفة الألمان منفراً. في النهاية، اختار بريجنسكي فريدريش. وعلى مدى الـ70 عاماً التالية تقريباً، تداخلت مسارات بريجنسكي وكيسنجر. أصبح كلاهما أستاذاً في هارفرد – لكن بريجنسكي انتقل إلى جامعة كولومبيا عام 1960 بسبب عدم حصوله على التثبيت الأكاديمي. في انتخابات عام 1968، قدما المشورة لمرشحين متنافسين – بريجنسكي للديمقراطي هوبرت همفري، وكيسنجر للجمهوري ريتشارد نيكسون. وعندما فاز نيكسون، عين كيسنجر مستشاراً للأمن القومي. يصف لوس هذا التعيين بأنه نقطة تحول في مسار بريجنسكي، إذ أظهر له ما يمكن أن يحققه استراتيجي أجنبي المولد. في اليوم الذي علم فيه بريجنسكي بالخبر، اشترى دفتراً لتدوين أسماء الأشخاص الذين يرغب في توظيفهم إذا تولى المنصب يوماً ما. وحصل على فرصته عندما انتخب كارتر عام 1976. كثير من الأسماء التي كتبها بريجنسكي في دفتره أصبحت لاحقاً ضمن مسؤولي مجلس الأمن القومي.
بدأت علاقة بريجنسكي بكارتر كعلاقة معلم وتلميذ، إذ كان بريجنسكي المعلم، يختار كارتر التلميذ. فخلال عام 1973، قبل ثلاثة أعوام من انتخاب كارتر، قام بريجنسكي وديفيد روكفلر، المصرفي النافذ والداعم الدائم لبريجنسكي الذي ساعده في الصعود داخل دوائر صنع القرار، بتوظيف حاكم جورجيا آنذاك للانضمام إلى اللجنة الثلاثية، وهي منظمة غير حكومية أنشآها لتعزيز التعاون بين الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. ومن خلال اللجنة الثلاثية، زاد كارتر من معرفته ومشاركته في الشؤون الخارجية. لم تكن العلاقة بين كارتر وبريجنسكي زواجاً أيديولوجياً أو أسلوبياً، بل كانت قائمة على الاحترام المتبادل لذكاء كل منهما وحدسه السياسي. اختار كارتر بريجنسكي مستشاراً للأمن القومي على رغم اعتراض معظم مستشاريه الآخرين، الذين كانوا قلقين من أيديولوجيته المتشددة، وأسلوبه الحاد، وقدرته على العمل ضمن فريق – خصوصاً مع وزير الخارجية سايروس فانس، أحد رموز المؤسسة التقليدية. وثبتت صحة هذه المخاوف، إذ اصطدم بريجنسكي بفانس ومسؤولين آخرين في الحكومة خلال الأعوام الأربعة التالية.
نبي الحرب الباردة
قضى بريجنسكي عقوداً في محاولة تحديد واستغلال نقاط ضعف الاتحاد السوفياتي. وقد تنبأ، قبل معظم الآخرين، بـ”الفشل الكبير” المحتوم الذي ستمنى به الشيوعية، على ما عنون كتابه (“الفشل الكبير” The Grand Failure) الصادر عام 1989. وكان توقع في أطروحة الماستر التي كتبها عام 1950 أن تعمل القومية في أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي على تقويض السيطرة السوفياتية، وأن تقوم رغبة موسكو بتأدية “دور تحضيري” في تلك المنطقة بالإتيان بنتائج عكسية عبر تأجيج مطالب حقوق الإنسان وحركات الاستقلال. وسيقوم بريجنسكي بالتوسع في تلك الأفكار بمقالته الأولى لهذه المجلة (فورين أفيرز) عام 1961، وفق ما يبرز لوس، ليغدو في نهاية المطاف أحد أغزر كتاب “فورين أفيرز”. وطرح بريجنسكي في ما بعد خلال الستينيات على الرئيس ليندون جونسون رأيه القائل إن التطورات التكنولوجية الأميركية قادرة على تسريع الانحدار السوفياتي، وهو نشر تلك الأفكار في النهاية بكتاب صدر عام 1970.
هذا الاعتقاد أن الاستخدام الفعال لنقاط القوة الجوهرية للولايات المتحدة واستغلال نقاط الضعف الجوهرية للاتحاد السوفياتي يمكن أن يرجح كفة الحرب الباردة، كان هو ما وجه بريجنسكي أثناء خدمته في إدارة كارتر. فقد وضعت استراتيجيته خطة لتقويض شرعية الاتحاد السوفياتي، ومواجهة وردع التوسع السوفياتي، وتعزيز الوضع العسكري الأميركي لزيادة الضغط على موسكو. ومهدت هذه الجهود الطريق لنجاح مواجهة الرئيس رونالد ريغان مع موسكو خلال العقد التالي.
لقد قام بريجنسكي وكارتر باستهداف شرعية النظام السوفياتي عبر الترويج لحقوق الإنسان داخل الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية. وخلال مفاوضات “وثيقة هلسنكي النهائية” عام 1975، الاتفاقية الدبلوماسية المفصلية المصممة لتحسين العلاقات بين الشرق والغرب، أدى بريجنسكي دور مستشار غير رسمي للوفود الأوروبية الغربية المشاركة في المحادثات. ويصف إدوارد لوس كيف تمكن بريجنسكي بنجاح، من موقعه في الهامش، أن يدفع الدول الأوروبية الغربية إلى الإصرار على تضمين الاتفاق التزامات من موسكو باحترام حقوق الإنسان – على رغم اعتراضات كيسنجر، الذي تخوف من أن تقوم تلك الإضافات بإغراق الاتفاق. على أن السوفيات في النهاية، وبفعل انطباع (شجع عليه كيسنجر) يرى أن التزامات حقوق الإنسان ليست سوى شعارات فارغة، تنازلوا وأقروا الاتفاق.
كارتر من جهته عاد وسلط الضوء على هذه المسألة في حملته الانتخابية عام 1976، وخصوصاً يوم السادس من أكتوبر (تشرين الأول) خلال مناظرته مع منافسه الرئيس جيرالد فورد. ويروي لوس كيف قام بريجنسكي قبيل المناظرة في حث كارتر على جر فورد إلى الحديث عن قصور تساهله (وتساهل كيسنجر) مع موسكو، والتشديد على مسائل حقوق الإنسان. وعمل كارتر بتلك النصيحة. وانتهى فورد مرتكباً هفوة تاريخية حين أعلن بكل ثقة أن “ليس هناك هيمنة سوفياتية على أوروبا الشرقية”. وكارتر إذ شعر بهفوة فورد تلك خلال المناظرة، أكمل بدعوات إلى تطبيق أقوى لبنود حقوق الإنسان التي تتضمنها وثيقة هلسينكي. وقد يكون أداء كارتر – والخطأ الذي جر إليه فورد – في تلك المناظرة هو الذي منحه الفوز بالرئاسة في انتخابات ثبت فيما بعد أنها كانت شديدة التقارب.
وحين حل كارتر في المكتب البيضاوي متولياً الرئاسة الأميركية، أبقى تركيزه على مسائل حقوق الإنسان. وعمل على زيادة الوعي تجاه انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها موسكو، وشمل عمله ذاك نشره رسالة كتبها ووجهها إلى الفائز بجائزة نوبل، الفيزيائي والمنشق أندريه ساخاروف، ودعوته للناشط في حقوق الإنسان فلاديمير بوكوفسكي إلى البيت الأبيض. وفي هذا الإطار، وفق ما يذكر لوس، فإن روبرت غيتس، الذي عمل مساعداً لبريجنسكي في البيت الأبيض وغدا لاحقاً مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية ووزيراً للدفاع، كتب في مؤلفه المنشور عام 1996 بعنوان “من خلف الظلال” (From the Shadows) أن تركيز كارتر وبريجنسكي على قضايا حقوق الإنسان أدى إلى غرس “بذور حساسة” أثمرت، حين نمت في ما بعد، “فاكهة قاتلة”. إذ إن جهودهما المتراكمة تلك وجهت ضربة إلى سمعة الاتحاد السوفياتي الدولية، ومدت حركات المنشقين والمعارضين في أنحاء الكتلة السوفياتية بالأوكسجين، وأوصلت إلى الناس القابعين خلف “الستار الحديدي” صورة محببة عن الولايات المتحدة الأميركية.
كذلك دفع بريجنسكي باتجاه اعتماد ردود فعل أقوى على المغامرات السوفياتية الدولية (خارج حدوده). لقد كان كارتر في البداية متشككاً تجاه تلك السياسات، لكنه مع الوقت غدا أكثر إقداماً – وحين اجتاح الاتحاد السوفياتي أفغانستان عام 1979، كان مستعداً لتأييد واعتماد رد فعل قوي. وكان بريجنسكي قبل ستة أشهر من ذاك الاجتياح، طلب من الـ”سي آي أي” وضع خطط لدعم “حرب عصابات” يقوم بها المجاهدون ضد النظام الأفغاني المدعوم من السوفيات. وما بدأ خلال عام 1979 كبرنامج إمداد، يؤمن وسائل الاتصال والمنشورات والبرامج الإذاعية، تطور وازدهر خلال العقد التالي ليغدو عملية سرية واسعة النطاق أمنت للقوات الأفغانية التي تقاتل الجيش السوفياتي الأسلحة والتدريب والتمويل. وهكذا جر الاتحاد السوفياتي إلى ورطة حرب طويلة ومكلفة، أسهمت بنهاية المطاف في انهياره.
أدى تصدى كارتر للتدخلية السوفياتية إلى دفعه نحو تعزيز عسكري في أواخر ولايته – وهي سياسة كان بريجنسكي يدفع باتجاهها باستمرار كوسيلة لموازنة الاتحاد السوفياتي، وهي مساهمة أقر بها لوس لكنه لم يسلط عليها الضوء بما يكفي. فقد طلبت الإدارة في موازنتها العسكرية النهائية، التي أرسلها كارتر إلى الكونغرس في آخر أسبوع له في المنصب، أعلى مستوى من الإنفاق الدفاعي الأميركي (معدلاً حسب التضخم) منذ نهاية حرب فيتنام. حتى ريغان، الذي واصل رفع الإنفاق الدفاعي الأميركي، لم يقترح دائماً زيادات سنوية بمستوى ارتفاع طلبات كارتر. كانت مبادرات كارتر لتحديث الجيش الأميركي وتطويره، وتوسيع مساهمات الولايات المتحدة في حلف الناتو، وتسريع تطوير أنظمة متقدمة مثل الطائرات الشبحية والذخائر الموجهة بدقة، خطوات أولى حاسمة في تحول القوة العسكرية الأميركية الذي ينسب عادة إلى ريغان.
إذ إن سلسلة الوقائع التي حدثت في أواخر الثمانينيات وعجلت بسقوط الاتحاد السوفياتي – مثل تراخي سيطرة موسكو على أوروبا الشرقية، وصعود الحركات الديمقراطية وعمليات الانتخابات الناجحة، على ما حصل في بولندا، وسقوط جدار برلين – شكلت مكافأة لاستراتيجية الحرب الباردة التي وضعها بريجنسكي. وخلال عام 1980، قام أحد أشد منتقدي الرجل، وهو خبير الشؤون السوفياتية والصحافي ستروب تالبوت، بإدانة بريجنسكي في مقالة بمجلة “تايم” عنوانها “الجميع تقريباً بمواجهة زبيغ” (Almost Everyone vs. Zbig). لكن بعد تسعة أعوام، أجرى تالبوت مقابلة تبييضية مع بريجنسكي للمجلة نفسها، وجاءت هذه المرة بعنوان “زبيغنيو بريجنسكي: دفاعاً عن متشدد”.
الدبلوماسي الأساسي
عندما وصل كارتر إلى الرئاسة خلال عام 1977، كانت عملية الانفتاح تجاه الصين التي نسقها قبله في ذلك العقد نيكسون وكيسنجر، توقفت. فنيكسون استقال عام 1974، وكان المحاوران الأساسيان اللذان قاربتهما واشنطن، ماو زيدونغ وزهاو إنلاي، توفيا أيضاً عام 1976. كما أن المعارضة في الكونغرس والتوترات مع بكين بفعل حرب فيتنام أعاقت التقدم في ذاك السياق. ويشير إدوارد لوس إلى أن “كيسنجر المحبط والمنهك” بنهاية فترة رئاسة فورد قال إنه “لم ير ولا مرة أن التطبيع [مع الصين] ممكناً”. ووصل بريجنسكي إلى منصبه تزامناً مع شيوع ما بدا آنذاك وجهة نظر غير مرغوبة. وهو إذ عاين العلاقة الأميركية – الصينية من منظار منافسات الحرب الباردة، لم ير أن تطبيع العلاقات بين البلدين ما زال ممكناً وحسب، بل افترض أيضاً أن الصين قد تغدو ثقلاً استراتيجياً موازناً للاتحاد السوفياتي. ويروي لوس كيف أن حديثاً خلال وقت سابق مع رئيس وزراء سنغافورة، لي كوان يو، والذي كان موافقاً على الفكرة المذكورة، شجع بريجنسكي على المضي قدماً باعتقاده ذاك. وانتزع بريجنسكي ملف الصين من وزارة الخارجية، التي لم يؤيد مسؤولوها فكرة تطبيع العلاقات. ثم راح يلح على كارتر طوال أربعة أشهر إلى أن وافق الرئيس – على رغم اعتراضات فانس – على رحلة بريجنسكي إلى الصين خلال مايو (أيار) 1978.
في بكين قضى بريجنسكي قرابة 11 ساعة مع قادة ومسؤولين صينيين، بينهم الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ. وبذل جهوداً كبيرة بغية استبعاد وزارة الخارجية (الأميركية) من الاجتماعات المهمة والأساس. ويروي لوس أنه برحلة العودة إلى واشنطن حصل شجار وتدافع جسدي بين مندوب وزارة الخارجية ريتشارد هولبروك، وبين المسؤول في مجلس الأمن القومي مايكل أوكسنبيرغ، حول ما إذا كان للأول الحق في الاطلاع على محاضر اجتماعات بريجنسكي مع دينغ، أم لا. خلال تلك المحادثات توافق بريجنسكي مع دينغ على الارتياب المشترك من “الدب القطبي” – الاتحاد السوفياتي – لكنه كان عليه أن يكرر مرات عديدة أن واشنطن “اتخذت قرارها” القاضي في المضي بالتطبيع، وذلك إلى أن بدأ دينغ ورفاقه يصدقونه. وأسفرت الزيارة عن تفاعلات لاحقة وتدابير تعاون جديدة، تضمنت جهود تعاون أساس لجمع المعلومات الاستخباراتية بمنطقة الحدود الصينية – السوفياتية. ومهد الأمر الطريق لشراكة مع الصين أكثر عمقاً من العلاقات السطحية التي توصل إليها نيكسون وكيسنجر.
يمنح السجل التاريخي نيكسون وكيسنجر فضلاً أكبر بكثير من الفضل الممنوح لكارتر وبريجنسكي في إطار الإنجاز المحقق خلال الحرب الباردة، والمتمثل بإبعاد بكين من موسكو. وهذا الخلل قد يكون ببساطة نتيجة مهارات كيسنجر في مضمار العلاقات العامة، وهو الذي كتب بإسهاب عن دوره في ذاك المسار، فيما لم يصل أو ينشر كثير مما قام به بريجنسكي. على أن لوس عبر كتابته تاريخ بريجنسكي قام بتصحيح هذا السجل وتصويبه، إذ إن المبادرة الدبلوماسية التي أطلقتها إدارة كارتر، إضافة إلى إقرار “قانون العلاقات مع تايوان” عام 1979، أسهما في تأسيس قاعدة دائمة لعلاقات مستقرة بين الولايات المتحدة والصين وتايوان. وأمام كل الأمور والمعوقات التي ظهرت في طريق التطبيع – من بينها ممانعة كارتر والمعارضة التي أظهرتها معظم الأطراف الأخرى في الحكومة الأميركية – فإن ذاك التطبيع لم يكن ببساطة ليحصل لولا قيادة بريجنسكي لمسار تحقيقه حتى بلوغ خط النهاية.
الجهة المسؤولة
إن كان الانفتاح على الصين يمثل النقطة الأبرز في مسيرة بريجنسكي كمستشار للأمن القومي، فإن الحضيض في تجربته يتمثل بأزمة الرهائن في إيران، الأزمة التي دامت 14 شهراً وكلفت كارتر على الأرجح ولاية رئاسية ثانية، ومهدت الطريق لأربعة عقود من العداء الراسخ بين واشنطن وطهران. وجاءت تلك المأساة في ثلاثة فصول.
تمثل الفصل الأول بفشل وزارة الخارجية ووكالات الاستخبارات الأميركية في إدراك ضعف الحاكم الإيراني (الشاه) محمد رضا بهلوي، شريك الولايات المتحدة الأساس في الشرق الأوسط، أمام حراك متصاعد لإطاحته، إذ قبل أربعة أشهر من سقوطه قدرت “وكالة استخبارات الدفاع” أنه “من المتوقع استمراره بقوة في الحكم طوال الأعوام الـ10 القادمة”. ولم يتطرق السفير الأميركي لدى إيران إلى احتمال سقوط الشاه إلا قبل شهرين من حدوثه، وذلك في رسالة أبرقها إلى واشنطن عنوانها “التفكير بالمحال”. ويشير لوس إلى أن وكالات الاستخبارات الأميركية كانت استخدمت إيران كقاعدة لمراقبة الاتحاد السوفياتي، ولم تستثمر بما يكفي في جهود لفهم وضع البلد الداخلي، معتمدة بدل ذلك على الخدمات الأمنية التي قدمتها أجهزة استخبارات الشاه المحلية. ويستخلص لوس، لأسباب وجيهة، أن “العمى المتكرر لواشنطن تجاه إيران يعد من أكثر الإخفاقات فداحة في تاريخ الدبلوماسية والأمن والاستخبارات الأميركية”.
أما الفصل الثاني للمأساة فتمثل بالسماح للشاه بدخول الولايات المتحدة لتلقي العلاج الطبي خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1979، إذ في ذلك الوقت كانت واشنطن تعمل على تأسيس علاقة مع حكومة إيران الجديدة. وحذر المسؤول الأميركي الرفيع في طهران آنذاك، بروس لاينغن، أن السماح بدخول الشاه إلى الولايات المتحدة سيعرض الأميركيين في إيران لخطر شديد وقد يدمر العلاقات مع القيادة الجديدة في طهران.
ويرى لوس أن كارتر تعرض لـ”حصار افتراضي” من قبل حلفاء الشاه في الولايات المتحدة، بقيادة روكفلر – عراب بريجنسكي القديم – وكيسنجر، والمحامي المؤثر في إطار السياسات الخارجية جون ماكلوي. وقام بريجنسكي نفسه بالضغط على كارتر مراراً في هذا الموضوع، حتى إنه نظم لقاء قام فيه روكفلر بالدفاع عن ذاك القرار مباشرة أمام كارتر. والرئيس كارتر لم يتحرك في تلك المسألة إلا بعد قيام وزارة الخارجية بمشاركته بتقرير رفعه روكفلر يزعم زوراً أن الشاه بات شديد المرض ولن ينقذه إلا علاج طبي أميركي. وقبل موافقته على دخول الشاه، سأل كارتر “ما الذي ستنصحوني بفعله أيها الشبان إن قاموا باحتلال سفارتنا وأخذوا مواطنينا رهائن؟” خلال الـ22 من أكتوبر سمح بدخول الشاه إلى الولايات المتحدة. وخلال الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني)، جرى احتلال السفارة الأميركية لدى طهران، وأخذ 66 أميركياً رهائن. 52 منهم بقيوا محتجزين على مدى 444 يوماً.
الفصل الثالث والأخير من المأساة تمثل بـ”عملية مخلب النسر”، المهمة الفاشلة لإنقاذ الرهائن. بريجنسكي في مطلع تلك الأزمة كان كلف الجيش بوضع خطة لإنقاذ المحتجزين. وبعد ستة أشهر من الجهود الدبلوماسية الفاشلة لتحرير الرهائن كان مصير هؤلاء غدا هاجساً وطنياً. إلا أن المهمة العسكرية انتهت بسقوط مدوٍ لطائرة هيليكوبتر أميركية داخل الصحراء الإيرانية خلال أبريل (نيسان) 1980، ومقتل ثمانية عسكريين أميركيين، مما شكل إحراجاً كبيراً للولايات المتحدة والرئيس كارتر.
قمت شخصياً بدراسة “عملية مخلب النسر” خلال عملي مستشاراً للأمن القومي خلال رئاسة باراك أوباما، وذلك تحضيراً للإشراف على العملية التي شنتها الإدارة الأميركية على باكستان عام 2011 للوصول إلى أسامة بن لادن. لقد كانت خطة إدارة كارتر معقدة لدرجة غير معقولة، وتعاني نقصاً في الإمداد، ولم يجر التدرب عليها أبداً. كما أن بعض أفراد فريق الإنقاذ، على ما يلاحظ لوس، التقوا للمرة الأولى في ليلة العملية. ويستخلص لوس أن اللوم في فشل العملية يقع بالدرجة الأولى على عاتق قيادة الجيش الأميركي. أما أنا، فلدي رأي آخر: إن مسؤولية تقييم جدوى الخطة، والتنسيق بين الوكالات والأجهزة المختلفة، ودراسة احتمالات الفشل وعواقبه، تقع على بريجنسكي، إذ كان من واجب بريجنسكي كمستشار أمن قومي القيام بتوقع التحديات، واستكشاف البدائل، وإجراء عملية صارمة لاختبار المقترحات، خصوصاً الخطط العسكرية، وحماية الرئيس.
موازنة القوة والضعف
ظل بريجنسكي ناشطاً كمستشار في السياسة الخارجية وكمفكر جيوسياسي عام طوال عقود بعد مغادرته الحكومة. فهو قدم النصح لريغان، الذي طبق استراتيجية إنهاء الحرب الباردة التي وضع أسسها بريجنسكي وكارتر، وحافظ حتى التسعينيات على آرائه المتشددة والمتمردة عبر كتب مثل “رقعة الشطرنج الكبرى” (The Grand Chessboard). لكن مع مرور الزمن اتجه بريجنسكي أكثر نحو اليسار، وغدا أكثر تشكيكاً تجاه التدخلات العسكرية الأميركية. كان بريجنسكي، وفق لوس، أيد الدعم المبكر للمجاهدين (في أفغانستان)، وجادل الانتقادات بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) والقائلة إن تلك السياسة ساعدت على صعود “طالبان” التي آوت تنظيم “القاعدة” في أفغانستان. لكنه بعد ذلك غدا أحد أشرس معارضي قرار إدارة جورج دبليو بوش باجتياح العراق، وحافظ على موقفه ذاك طوال الحرب. وكان بريجنسكي أيضاً أحد أول شخصيات السياسة الخارجية الذين أيدوا ترشيح أوباما للرئاسة، مواصلاً بذلك خطه المعتمد طوال حياته المهنية المديدة، والمتمثل باختيار الفائزين سياسياً.
في كتابه الأخير، “رؤية استراتيجية” (Strategic Vision) المنشور عام 2012، اقترح بريجنسكي استخدام “قائمة لقياس وموازنة” الأصول والتبعات، وذلك كمعيار للحكم على نقاط القوة والضعف عند الولايات المتحدة. لقد كنت على الدوام وما زلت متفائلاً، مثلما كان بريجنسكي، بأن الأصول – التي تتضمن التحالفات والتأثير الدولي، والقوة الاقتصادية والتكنولوجية، والجاذبية الثقافية والقوة الناعمة، والدينامية الديموغرافية – لو جرت إدارتها كما ينبغي، ستبقي الولايات المتحدة في موقع مهيمن لعقود وأعوام مقبلة، لكنني اليوم أعتقد أن بريجنسكي كان ليشعر بالقلق تجاه الخطر المحدق بتلك الأصول. وهو كان ليشعر بالقلق قبل كل شيء تجاه الانقسامات داخل المجتمع الأميركي، وإزاء صحة الديمقراطية في البلاد.
لقد كان بريجنسكي آخر مستشار للأمن القومي الأميركي يفكر بالدرجة الأولى، وعلى نحو شبه هوسي، في سياق الأنظمة والقوى التاريخية. تلك النظرة بالتأكيد تشكلت بفضل جذوره البولندية ومعرفته الدقيقة بـ”حقول الدم” في أوروبا الوسطى والشرقية، وفق تعبير المؤرخ تيموثي شنايدر، والتي تحملت أهوال ستالين وهتلر خلال منتصف القرن الـ20. فذاك الإحساس القائل إن التاريخ لا ينتهي أبداً، وإن المجتمعات والأنظمة الحكومية هي أكثر هشاشة مما قد تبدو عليه في الحقيقة، وإن حمايتها تتطلب يقظة دائمة، يبقى اليوم أقل شيوعاً مما كان عليه في الماضي. غير أن العالم الراهن يطرح تهديدات لقيم الولايات المتحدة ومصالحها تفوق ما عهدناه في أي وقت مضى خلال نصف القرن الماضي. ويمكن لنموذج بريجنسكي في هذا المضمار أن يساعد صناع السياسات الأميركيين على تقدير الأخطار ورسم مسار إلى الأمام.
*توم دونيلون عمل مستشاراً للرئيس باراك أوباما لشؤون الأمن القومي. عضو في هيئة المديرين بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي.