ترجمات أجنبيةتكنولوجياشوؤن دولية

فورين أفيرز: الوهم الأميركي تجاه دور الطائرات المسيرة، لماذا لا تصلح دروس أوكرانيا لصراع محتمل مع الصين؟

فورين أفيرز 12-2025، جاستن برونك: الوهم الأميركي تجاه دور الطائرات المسيرة، لماذا لا تصلح دروس أوكرانيا لصراع محتمل مع الصين؟

جاستن برونك

بعد ما يقارب أربعة أعوام من القتال لم يحظ أي جانب من جوانب الحرب الروسية في أوكرانيا باهتمام الجيوش الغربية، بقدر ما حظي به التوسع السريع في استخدام الطائرات المسيّرة، فمنذ عام 2023 نشر الطرفان ملايين الطائرات المسيّرة الرخيصة من فئة الطائرات الرباعية عبر ساحة المعركة، وفي بعض قطاعات الجبهة أصبحت هذه الطائرات الصغيرة مسؤولة عما يصل إلى 70 في المئة من خسائر القتال.

وفي الوقت نفسه تستخدم روسيا آلاف الطائرات الانتحارية أحادية الاتجاه من طرازي “غيران-2″ و”غيران-3” ذات الدفع بالمراوح في هجمات بعيدة المدى كل ليلة تقريباً على المدن الأوكرانية، بينما تستخدم أوكرانيا مجموعة واسعة من طائراتها الانتحارية الخاصة لتنفيذ ضربات منتظمة على قواعد ومصانع وبنى تحتية للطاقة داخل روسيا.

وأمام هذه التطورات أطلق كثير من منظري الدفاع في الغرب دعوات عاجلة إلى إعادة توجيه الأولويات العسكرية، ففي يونيو (حزيران) وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمراً تنفيذياً يهدف إلى تسريع إنتاج الطائرات المسيّرة، ومنذ ذلك الحين أدخلت وزارة الدفاع الأميركية سلسلة من التعديلات على سياساتها لتسهيل الإدماج السريع للطائرات منخفضة الكلفة في الترسانة الأميركية، فيما دعا وزير الدفاع بيت هيغسيث إلى أن تحقق الولايات المتحدة “هيمنة في مجال الطائرات المسيّرة”.

أما في القطاع الخاص فتتسابق شركات البرمجيات والذكاء الاصطناعي التي استثمرت بكثافة في تطوير التقنيات العسكرية غير المأهولة، مثل “أندوريل” و”بالانتير” و”شيلد إيه آي”، للفوز بعقود دفاعية جديدة ومربحة، ولا شك في أن أنظمة الطائرات الصغيرة غير المأهولة أحدثت تحولاً جذرياً في أسلوب خوض قتال المشاة، وأن الجيش الأميركي وأجزاء أخرى من القوات المسلحة متأخرة في هذه القدرات، وبصورة أشد إثارة للقلق في تقنيات مكافحة الطائرات غير المأهولة، مقارنة بالقوات الروسية أو الصينية.

غير أن الافتراض القائل إن التوسع الكبير في اقتناء طائرات مسيّرة مدعومة بالذكاء الاصطناعي سيعزز الدفاعات الأميركية في مواجهة الصين افتراض مضلل، فدروس حرب أوكرانيا، وهي حرب استنزاف طويلة وغير حاسمة بين قوتين مسلحتين يغلب عليهما الطابع البري، لا تنطبق في الغالب بصورة مباشرة على أنواع أخرى من الصراعات، مثلما أن طبيعة الترسانة العسكرية الصينية والسمات المرجحة لأية مواجهة محتملة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تعني أن مثل هذا الصراع سيُحسم بعوامل مختلفة تماماً، فعلى رغم امتلاك الصين أكبر وأكثر صناعات الطائرات المسيّرة تقدماً في العالم فإنها منحت في الواقع أولوية للمعدات العسكرية المأهولة، إذ يتلقى “جيش التحرير الشعبي” سنوياً أعداداً ضخمة من الطائرات القتالية الحديثة عالية الكفاءة والسفن الحربية الكبيرة وأنظمة صاروخية متقدمة تُطلق من البر والبحر والجو، وإذا بالغت الولايات المتحدة في التركيز على تطوير واقتناء الطائرات المسيّرة فإنها تخاطر بفقدان ما بقي لها من تفوق ضئيل على “جيش التحرير الشعبي” في قدرات سلاحَي الجو والبحرية عالية المستوى، وهي القدرات التي ستحدد مسار أي صراع في المحيطين الهندي والهادئ.

لماذا تهيمن الطائرات المسيّرة على إقليم دونباس؟

على مدى الأعوام القليلة الماضية انصب تركيز المحللين العسكريين وكبار التنفيذيين في الصناعات الدفاعية على الدروس التي يُفترض أن تستخلصها الجيوش الغربية من الدفاع الأوكراني اللافت في مواجهة روسيا، وأفضى هذا الاهتمام إلى إغراق السوق بعدد كبير من المنتجات والتقنيات الدفاعية الجديدة التي تُسوّق للجيوش الغربية بوصفها “قادرة على إحداث تحول جذري”، استناداً إلى استخدامات قتالية موصوفة على نحو فضفاض في أوكرانيا، لكن كثيراً من هذه الأنظمة، ولا سيما الطائرات المسيّرة الغربية الصنع التي طورتها شركات تقنية ناشئة، أثبت عدم فعاليتها أو فشلها الكامل عبر ساحة المعركة في مواجهة الحرب الإلكترونية الروسية (والأوكرانية) المنتشرة على نطاق واسع، فضلاً عن الظروف البيئية القاسية.

لكن المشكلة الأكبر تتمثل في أن حرب أوكرانيا تنطوي على خصائص عدة لا تنطبق على القوات الأميركية والصينية في سياق المحيطين الهندي والهادئ، فقد أسفر الغزو البري الروسي المستمر لأوكرانيا عن خطوط تماس قليلة الكثافة تمتد لأكثر من 600 ميل (1000 كيلومتر)، من مقاطعة خاركيف شمالاً إلى خيرسون جنوباً، ولم يتمكن أي من الطرفين من تحقيق سيادة جوية مما جعل القوة الجوية أقل أهمية بكثير مما هي عليه في صراعات حديثة أخرى.

وبما أن التشكيلات المدرعة الروسية والأوكرانية، إضافة إلى وحدات النخبة الأخرى، تكبدت خسائر فادحة خلال المراحل الأولى من الحرب، فلم يعد أي من الطرفين قادراً منذ منتصف عام 2023 على تنفيذ عمليات مناورة واسعة النطاق تقوم على القتال المشترك بين صنوف الأسلحة، ونتيجة لذلك اضطرت القوتان إلى الاعتماد بدرجة كبيرة على وحدات مشاة صغيرة مدعومة بالدبابات والمدفعية والطائرات المسيّرة لتنفيذ هجمات استطلاعية عبر حقول ألغام ضد خطوط دفاع ثابتة، ويجري التقدم ببطء شديد وكلفة باهظة في كلا الاتجاهين.

وفي ظل هذه الظروف أثبتت الطائرات المسيّرة القصيرة المدى والخفيفة والرخيصة والمنتجة بكميات كبيرة من فئة الطائرات الرباعية فاعلية كبيرة، ومع تزايد ندرة ذخائر المدفعية التقليدية والمدفعية الصاروخية بعيدة المدى ومنصات إطلاقها، لجأ الطرفان إلى استخدام الطائرات المسيّرة الرخيصة لإحداث استنزاف وإعاقة عمليات الإمداد وحركة المناورة التكتيكية للعدو ضمن نطاق يتراوح مت بين ستة و12 ميلاً من خطوط الجبهة، وبحلول عام 2024 بات القتال على الخطوط الأمامية خاضعاً بالفعل لهيمنة أعداد متزايدة من الطائرات المسيّرة، إضافة إلى التطوير المستمر لتقنيات جديدة مثل الطائرات المسيّرة العاملة بالألياف البصرية وأنظمة التوجيه النهائي المعززة بالذكاء الاصطناعي، وأصبحت وسائل مكافحة الطائرات المسيّرة، من قبيل الشباك والتشويش الإلكتروني وأنواع الذخائر المتخصصة للبنادق والمدافع، عنصراً بالغ الأهمية ولا تزال تتطور بوتيرة سريعة.

ومع ذلك تعاني كثير من أنظمة الدفاع النشطة المضادة للطائرات المسيّرة في أوكرانيا ضغطاً مفرطاً بسبب الانتشار الواسع للقوات على طول خطوط الجبهة والاستنزاف المستمر، ويمكن القول إن توسع حرب الطائرات المسيّرة ليس العامل الذي حال دون تمكن القوات الأوكرانية من الصمود في مواقع رئيسة أمام القوات الروسية خلال عامي 2024 و2025، فالعامل الحاسم يتمثل في مئات القنابل الانزلاقية الثقيلة التي تطلقها روسيا أسبوعياً بواسطة مقاتلات “سو-34” على خطوط الجبهة، وهذه القنابل التي يتراوح وزنها ما بين 500 و3000 كيلوغرام، قادرة على تدمير حتى المواقع القتالية العميقة والمحصنة وقتل الجنود المتحصنين بفاعلية تفوق بكثير الطائرات المسيّرة الصغيرة، ولا تزال أوكرانيا تفتقر إلى وسيلة فعالة لاعتراض الطائرات المُطلِقة التي تُسقط هذه القنابل من مسافة تزيد على 40 ميلاً خلف خطوط الجبهة.

صحيح أن الطائرات المسيّرة تتسبب بمعظم الاستنزاف اليومي ضد المشاة والمركبات المتحركة في محيط خطوط التماس، لكن الهجمات المركزة بالقنابل الانزلاقية تشكل تهديداً أكبر بكثير للقوات المتحصنة، وقد كانت الضربات الروسية المتواصلة بهذه القنابل على مواقع رئيسة تحدياً بالغ الصعوبة أمام القوات الأوكرانية التي تقاتل للاحتفاظ بمواقع إستراتيجية شديدة التحصين، مثل مدينة تشاسيف يار المتربعة على مرتفع في مقاطعة دونيتسك.

الاختلاف في مسرح المحيط الهادئ

بخلاف ظروف العمليات في أوكرانيا فإن أي صراع محتمل بين القوات الأميركية و”جيش التحرير الشعبي الصيني” سيتكشف في الغالب في الجو والبحر، على أن يظل القتال بين القوات البرية محصوراً على الأرجح في جزر محورية مثل تايوان أو جزر سينكاكو (المعروفة في الصين باسم دياويو)، وفي هذا السياق سيتوقف نجاح الولايات المتحدة عند قدرتها على توظيف قوة نيران جوية وبحرية حاسمة على نحو سريع ومتكرر في تلك النقاط المفصلية خلال لحظات حاسمة، وسيعني ذلك بسط القوة عبر آلاف الأميال من المحيط في مواجهة عدد كبير من التهديدات الصاروخية والجوية والبحرية الصينية المتقدمة للغاية، وتتطلب مثل هذه العمليات عناصر بشرية عالية التدريب تُشغل طائرات مقاتلة وقاذفات وسفناً حربية متقدمة، وتنفذ أعمالاً متساندة ضمن عمليات مشتركة منسقة بعناية فائقة، وبعبارة أخرى سينطوي الصراع على أنواع مختلفة تماماً من القوات والمعدات عمّا تستخدمه أوكرانيا أو روسيا في الحرب الدائرة حالياً.

في صراع منطقة المحيطين الهندي والهادئ من المرجح أن تظل الطائرات المسيّرة ذات دور مهم في العمليات البرية والبرمائية، فتايوان مثلاً قد تستفيد كثيراً من قدرتها على نشر مئات الآلاف، وربما الملايين، من الطائرات المسيّرة الصغيرة لصد قوة إنزال تابعة لـ “جيش التحرير الشعبي” على شواطئها، وسيكون من الضروري أيضاً أن تمتلك القوات التايوانية قدرات مستدامة لمكافحة الطائرات المسيّرة تتيح اعتراض وتشويش الطائرات الانتحارية أحادية الاتجاه وطائرات الاستطلاع التابعة لـ “جيش التحرير الشعبي”، سواء القادمة من البر الصيني أو من السفن المتمركزة قبالة الشواطئ، ومع ذلك فإن مثل هذه الأنظمة غير المأهولة ستكون عديمة الجدوى بالنسبة إلى سلاحَي الجو والبحرية الأميركيين في مساعيهما إلى توفير الغطاء الجوي ثم الدعم البحري في نهاية المطاف، وهو ما يستلزم بسط القوة انطلاقاً من “غوام” أو من قواعد أميركية بعيدة أخرى.

تفرض المسافات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ أعباء عملياتية جسيمة، وأكبر أوجه القصور في الجيل الحالي من الطائرات المقاتلة الأميركية الفائقة الدقة، مثل “إف-22″ و”إف-35″ و”إف/إيه – 18إي/إف” في مواجهة التهديدات الصينية المتنامية، لا يتمثل في كلفتها المرتفعة أو أعدادها المحدودة نسبياً، بل في مداها المحدود مقارنة بالحاجات العملياتية، فبمديات قتال تتراوح ما بين 350 و600 ميل، تحتاج هذه الطائرات إلى طائرات تزويد بالوقود جواً للوصول إلى المناطق المتنازع عليها انطلاقاً من قواعد قابلة للاستخدام، وهو ما يفرض في حال النزاع اقتراب طائرات التزويد على نحو بالغ الخطورة من تهديدات الصواريخ والطائرات المقاتلة الصينية، ولا يمكن للطائرات المسيّرة الصغيرة أن تحل هذه المشكلة، فحتى الطائرات المسيّرة ذات المدى الأطول والمزودة بكابلات ألياف بصرية والمستخدمة على نطاق واسع في أوكرانيا لا يتجاوز مداها نحو 15 ميلاً، فيما تتمتع معظم طائرات منظور الشخص الأول الصغيرة [طائرات تُقاد عبر بث بصري مباشر من كاميرا مثبتة عليها] بمديات أقصر بكثير، وبعبارة أخرى فإن نظام السلاح الوحيد الذي جعل القتال في أوكرانيا مختلفاً بصورة جوهرية عن الحروب السابقة بين الدول، سيكون إلى حد كبير غير ذي صلة خلال المراحل الأولى الحاسمة من أي صراع بين القوات الصينية والأميركية.

وحتى لو أمكن إيصال الطائرات المسيّرة الصغيرة بسرعة عبر المديات المطلوبة فإن أياً من الأنواع المستخدمة حالياً في أوكرانيا من قبل أي من الطرفين لن يكون قادراً على الدفاع بفاعلية عن القوات الأميركية في مواجهة الهجمات الصينية، فبكين تشغل بالفعل آلاف الصواريخ الباليستية وفرط الصوتية وصواريخ كروز المتقدمة التي ستستخدم لضرب القواعد الأميركية الأمامية وحاملات الطائرات وطائرات التزويد بالوقود وغيرها من الأصول الكبيرة والحيوية، ولمواجهة مثل هذه التهديدات سيتعين على الجيش الأميركي، على نحو لا مفر منه، الاعتماد على أنظمة دفاع صاروخي تبلغ كلفة الواحد منها ملايين الدولارات، مثل “باتريوت باك-3 إم إس إي” و”ثاد” و”إس إم-6″ و”إس إم-3″، وبالمثل فإن اعتراض مئات الطائرات القتالية الصينية المتزايدة القدرات سيتطلب كميات كبيرة من صواريخ جو-جو المتقدمة مثل “إيه آي إم-260 – جاتم” و”إيه آي إم-174 بي”، فضلاً عن “إيه آي إم-120 دي -أمرام”، وستكون هذه الصواريخ مطلوبة بأعداد كبيرة، سواء أُطلقت من طائرات مأهولة أو في المستقبل المحتمل من أنظمة غير مأهولة مدعومة بالذكاء الاصطناعي.

ولا تستطيع الطائرات المسيّرة الصغيرة ببساطة اعتراض طائرات قتالية تعمل على ارتفاعات وسرعات عالية، وعلاوة على ذلك فإن الأنواع الكثيرة من الأنظمة غير المأهولة التي قد تكون أكثر فائدة في مسرح المحيطين الهندي والهادئ ستنطوي هي الأخرى على كلف مرتفعة، فعلى سبيل المثال يُتوقع أن تصل كلفة الطائرات القتالية الشبحية، وهي طائرات قتالية غير مأهولة، مؤتمتة أو مدعومة بالذكاء الاصطناعي، صُممت لمرافقة الطائرات المقاتلة التقليدية ودعمها، إلى ما بين 20 و30 مليون دولار للطائرة الواحدة، وحتى التصاميم الأقل طموحاً، والتي يُراد لها أن تؤدي دور منصات متقدمة لأجهزة الاستشعار وحمل الأسلحة، ستظل تكلف ملايين الدولارات، وقد يحقق تطويرها واعتمادها فوائد ملموسة، لكن لا يمكن نشرها في تشكيلات كثيفة أو التضحية بها بأعداد كبيرة وبصورة منتظمة نظراً إلى كلفتها.

كذلك سيتطلب تشغيل هذه الأنظمة أعداداً كبيرة من الفنيين من متخصصي الصيانة والتسليح واللوجستيات وحماية القوات وغيرهم من المتخصصين، لإعدادها للطيران واستعادتها بعد الاستخدام وصيانتها ونقلها إلى مواقع الإطلاق داخل مسرح العمليات، وهي كوادر سيتعين إعادة تخصيصها من مهمات أخرى، ولن تُحدث الطائرات القتالية الداعمة للمقاتلات المأهولة بدورها تغييراً جوهرياً في موقع الجيش الأميركي مقارنة بـ “جيش التحرير الشعبي”، إذ إن الصين تطوّر أنظمة مماثلة.

أما الطائرات الأبسط المخصصة للهجوم أحادي الاتجاه أو للتمويه أو للتشويش المتقدم فيمكن إنتاجها بكلفة أقل نسبياً، وقد تظل قادرة على أداء أدوار مهمة ضمن حزمة ضربات مشتركة معقدة، ومع ذلك فمن المرجح أن تبلغ كلفة الواحدة من هذه الطائرات مئات آلاف الدولارات كي تحقق المدى والأداء المطلوبين، وقد تسهم أنماط التحليق السربي المدعومة بالذكاء الاصطناعي في تعزيز فاعلية هذه الطائرات أو الصواريخ في مواقف تكتيكية مختلفة، لكن متطلبات الاتصال ونقل البيانات وقدرات المعالجة سترفع كلفة الوحدة أكثر، مما سيبقي أعدادها محدودة.

والأسلحة التي تؤدي وظائف مماثلة، مثل الضربات الذكية من مسافات بعيدة ووسائط التمويه وأنظمة التشويش المتقدمة، موجودة منذ عقود في هيئة صواريخ كروز ووسائط خداعية مثل “إيه دي إم-160 مالد-إكس” ADM-160 MALD-X، ولا تكمن المشكلة في عجز هذه الأدوات القائمة عن أداء الأدوار المطلوبة بل في أن الولايات المتحدة لا تمتلك منها ما يكفي.

مأزق الكتلة القتالية

بالنسبة إلى الولايات المتحدة بات من الواضح على نحو لا لبس فيه أن أي صراع كبير مع ند مكافئ سيتطلب موارد مختلفة جذرياً عن تلك التي احتاجتها التدخلات الخارجية وعمليات مكافحة التمرد التي نفذتها خلال العقود الأخيرة، ففي أية مواجهة مع الصين سيحتاج الجيش الأميركي إلى مخزونات هائلة من الذخائر وقطع الغيار والإمدادات الطبية وغيرها من المتطلبات اللوجستية الأساس، وتعاني واشنطن حالياً نقصاً كبيراً في الصواريخ بعيدة المدى والصواريخ المضادة للسفن وصواريخ الاعتراض، فيما يفتقر معظم حلفائها إلى هذه القدرات بدرجة أكبر، وأيضاً تمتلك الولايات المتحدة هيكلاً تقليدياً للقوات آخذاً في الانكماش والتهالك بصورة متزايدة نتيجة أكثر من عقد من تأجيل تحديث سلاحَي الجو والبحرية خلال فترة “الحرب على الإرهاب”، وقد دفع الارتفاع الباهظ في كلفة استعادة “الكتلة القتالية” باستخدام أنظمة عسكرية تقليدية متقدمة كثيراً من محللي الدفاع وصنّاع السياسات إلى البحث، على نحو شبه محموم، عن وسيلة تمكن التقنيات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الطائرات المسيّرة، من توفير “كتلة منخفضة الكلفة”.

وعلى النقيض من ذلك بات “جيش التحرير الشعبي” الصيني يمتلك على نحو متزايد كلاً من الكمّ والنوع معاً، واللافت أنه على رغم امتلاك الصين بفارق واسع أكبر قاعدة صناعية وأكثرها تقدماً في العالم لتصنيع الطائرات المسيّرة، فإن تركيزها العسكري الرئيس ينصب على اقتناء مزيد من الطائرات القتالية المأهولة والسفن الحربية الكبيرة وأنظمة الصواريخ المتقدمة، ويتجه سلاح الجو التابع لـ “جيش التحرير الشعبي” إلى امتلاك أسطول يضم نحو 1000 مقاتلة من طراز “جيه-20” J20، الشبحية الصينية الرئيسة من الجيل الخامس، بحلول عام 2030، وكذلك تبني الصين مئات الصواريخ المتقدمة المضادة للسفن وصواريخ أرض-جو بعيدة المدى وصواريخ جو-جو، إضافة إلى عشرات المدمرات والطرادات المتقدمة سنوياً. وعلى وجه الخصوص في مجال صواريخ جو-جو وصواريخ أرض-جو بدأت كثير من هذه الأنظمة الصينية تتفوق في بعض المجالات الأساس على نظيراتها الأميركية، ويذهب ما يقارب كامل هذا الإنتاج إلى “جيش التحرير الشعبي” وليس إلى زبائن التصدير مثل باكستان، ومن المرجح أن يستخدم جزء كبير منه في أي محاولة صينية للسيطرة على تايوان، وكذلك في أي صراع آخر تكون بكين طرفاً فيه في بحر الصين الشرقي أو بحر الصين الجنوبي.

وبالمقارنة فعلى رغم أن مقاتلات “إف-35” التي تنتجها شركة “لوكهيد مارتن” تُصنّع بمعدل أعلى قليلاً من مقاتلات “جيه-20 إيه” و”جيه-20 إس” الصينية، فإن جزءاً فقط من هذا الإنتاج تشتريه القوات المسلحة الأميركية، فقد اشترى سلاح الجو الأميركي 48 طائرة “إف-35 إيه” فقط عام 2025، ويخطط لشراء عدد أقل من ذلك في كل عام من الأعوام الباقية من العقد الحالي، ويقتني سلاحا البحرية ومشاة البحرية الأميركيين نسخاً أخرى من المقاتلة، لكن معظم الإنتاج الحالي للشركة مخصص لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا.

أما المقاتلة من الجيل التالي “إف-47” التي يُتوقع أن تتجاوز كلفة الواحدة منها 300 مليون دولار فلن تدخل الخدمة القتالية الفعلية لدى سلاح الجو الأميركي قبل أوائل ثلاثينيات هذا القرن، وكذلك فإن برنامج الجيل التالي المكافئ لسلاح البحرية الأميركي، المعروف باسم “إف/إيه-إكس إكس”، سيأتي في وقت لاحق بافتراض المضي قدماً فيه، وبحلول ذلك الوقت يُرجح أن تكون الطائرات الصينية المكافئة من الجيل التالي، “جيه-36″ و”جيه-إكس دي إس” و”جيه-50″، وجميعها تخضع بالفعل لاختبارات الطيران، قد دخلت الخدمة أيضاً، وقد تكون هذه الطائرات أقل قدرة بقليل من “إف-47” عند مقارنة أداء كل طائرة على حدة، لكنها على الأرجح ستنتج بوتيرة أسرع وبأعداد أكبر.

ومن المجالات الأخرى التي بدأت فيها القدرات الصينية المتقدمة تتفوق بالفعل على نظيرتها الأميركية مجال “طائرات الإنذار الباكر والتحكم المحمول جواً” بعيدة المدى AWACS، فهذه الطائرات تُعد مضاعِفاً هائلاً للقوة لأنها تزود القوات الجوية والقوات المشتركة بقدرات رادارية بعيدة المدى وواسعة النطاق للإنذار الباكر وإدارة ساحة المعركة وتحديد الأهداف، ويمتلك “جيش التحرير الشعبي” بالفعل نحو 60 طائرة حديثة من هذا النوع، جميعها مزودة بأحدث رادارات الإنذار الباكر من طراز AESA، وبقدرات متقدمة للاتصال عبر شبكات تبادل البيانات والأقمار الاصطناعية مما يمكنها من العمل كعُقد مركزية ضمن الشبكات القتالية، ويُنتج مزيد من هذه الطائرات سنوياً.

وعلى النقيض من ذلك لا يمتلك سلاح الجو الأميركي سوى 16 طائرة إنذار باكر صالحة للخدمة، وجميعها من طراز “إي-3 جي سنتري” E-3G Sentry المتقادمة والمتهالكة، وفي يونيو 2025 ألغى وزير الحرب بيت هيغسيث خطة شراء طائرات “بوينغ إي-7 إيه ويدجيتيل” لاستبدال الأسطول المتآكل من طائرات “أواكس”، مبرراً قراره بمخاوف تتعلق بتجاوز الكلفة المقررة والتأخيرات في التنفيذ وقابلية عالية للتعرض للخطر أثناء القتال.

وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي خصص الكونغرس 400 مليون دولار لمواصلة البرنامج ضمن مشروع قانون توافقي لإنهاء الإغلاق الحكومي الأميركي، لكن حتى لو كُتب للبرنامج الاستمرار فقد يُقلص ويظل عرضة لتأخيرات كبيرة، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة ستواجه فجوة مع الصين في قدرات الاستشعار المحمولة جواً وربط الشبكات الجوية وإدارة المعركة مدة لا تقل عن عقد كامل.

وعلى رغم أن البلدين يسعيان إلى تطوير قدرات متقدمة للاستشعار والربط الشبكي المعتمدة على الفضاء فإن هذه القدرات لم تصل بعد إلى مستوى الجاهزية الذي يتيح لها تعويض التغطية التي توفرها طائرات “أواكس”، والحقيقة المزعجة أنه لا توجد حلول سهلة للتحدي الذي تفرضه القدرات الجوية والبحرية والصاروخية الصينية المتنامية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فالجيش الأميركي يعتمد إلى حد كبير على سلاحَي الجو والبحرية لردع أي عدوان عسكري صيني محتمل ضد تايوان أو في ساحات أخرى، ولا توجد وسيلة لإعادة هيكلة القوة المشتركة بأكملها وفق بنية مختلفة جذرياً في الوقت المتاح لمواجهة هذا التهديد خلال الأعوام القليلة المقبلة، وكذلك فإن محاولة استنساخ تركيز أوكرانيا الواسع على الطائرات المسيّرة لن يحل المشكلة، وبدلاً من ذلك ينبغي على صنّاع القرار العسكري والسياسي في الولايات المتحدة التركيز على سد الفجوات المتزايدة في القدرات التقليدية القائمة لسلاحَي الجو والبحرية، ولتحقيق ذلك لا تملك واشنطن سوى خيار الاستثمار العاجل والكثيف في توسيع الطاقة الإنتاجية وتسريع اقتناء الصواريخ بعيدة المدى جو – جو وأرض – جو وجو – أرض، إضافة إلى طائرات “إف-35″ و”إف-47” و”بي-21″، والغواصات الهجومية النووية.

وسيتطلب معالجة هذه الثغرات الحساسة أحد خيارين، إما زيادات كبيرة في الموازنة، وهو أمر غير مرجح في الظروف الراهنة، أو اقتطاعات واسعة في مجالات أخرى من هيكل القوة المشتركة، لكن إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوقها الجوي والبحري فوق المناطق الرئيسة المتنازع عليها فإن بقية قواتها العسكرية ستجد صعوبة في توليد قوة قتالية فعالة خلال أية مواجهة مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فقد أظهرت الحرب في أوكرانيا أن ملايين الطائرات الرباعية وعشرات آلاف الطائرات الانتحارية أحادية الاتجاه، لم تمنح روسيا القدرة على حسم المعركة، ولم تمنح أوكرانيا ذلك أيضاً، وحتى لو امتلكت الـ “بنتاغون” قدرات مماثلة فلن يغيّر ذلك مسار التدهور السريع في ميزان القوى بين الولايات المتحدة والصين في المحيطين الهندي والهادئ، مهما بدت أسراب الطائرات المسيّرة المدعومة بالذكاء الاصطناعي جذابة في عروض “باوربوينت”.

*جاستن برونك، باحث أول في التكنولوجيا والقوة الجوية يعمل في معهد “رويال يونايتد سيرفسز إنستيتيوت” Royal United Services Institute البريطاني.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى