ترجمات أجنبية

فورين أفيرز: الأسلحة البيولوجية الجديدة، كيف يؤثر تطور الذكاء الاصطناعي في صناعة أسلحة فتاكة؟

فورين أفيرز سبتمبر/أكتوبر 2024، روجر برنت، تي. غريغ ماك كلفي جونيور، وجايسون ماثني: الأسلحة البيولوجية الجديدة، كيف يؤثر تطور الذكاء الاصطناعي في صناعة أسلحة فتاكة؟

تعتبر الأسلحة البيولوجية من أبرز التحديات المعاصرة أمام البشرية بسبب طبيعتها الفتاكة والشاملة، وتهاون البشرية في لجمها وتفاقم إمكانات انتشارها مع تطور الذكاء الاصطناعي، وأثبتت جائحة كورونا وتاريخ طويل من الأوبئة أن تفوق الحرب النووية خطورة لأن حدوثها جاثم في الأفق دوماً، ولم توجد آليات واضحة في درء نشوبها، ولعل السياسة هي الطريق الأفضل لدرء خطر الأسلحة البيولوجية

في مجال الأمن السيبراني يمثل “اختبار الاختراق” محاكاة مصطنعة لهجوم على أنظمة الدفاع في الكومبيوتر، وتستخدم فيه أدوات وتقنيات قد يستخدمها أعداء في شن هجمات سيبرانية.

وتستعمل الحكومات والشركات من كل الأنواع اختبارات الاختراق، ومثلاً بصورة دورية توظف البنوك خبراء كومبيوتر كي يخترقوا دفاعات أنظمة الحواسيب الخاصة بها، وتنظيم عمليات نقل أموال إلى حسابات غير شرعية، وغالباً عبر استعمال “التصيد الاحتيالي” وسيلة في الحصول على أذونات معتمدة ممنوحة للموظفين لتمكينهم من دخول تلك الأنظمة.

وعقب نجاح اختبارات الاختراق يقدم المختبرون المعلومات المتحصلة منها إلى المؤسسات المعنية، ويقدمون توصياتهم عن كيفية تحسين الأمن.

مع ختام العقد الماضي وبداية الحالي تعرض المجتمع الإنساني نفسه إلى نوع من اختبار الاختراق متمثلاً في “كوفيد-19″، ولقد استكشف ذلك الفيروس، ذلك الخصم الذي لا يفكر، قدرة العالم في الدفاع عن نفسه ضد عناصر مرضية جديدة، وفي نهاية الاختبار اتضح أن الإنسانية قد فشلت حين تفشى “كوفيد 19” في الأمكنة كلها، من محطات البحث النائية في القطب الشمالي إلى القبائل الأمازونية المعزولة، وعصف بدور الرعاية وحاملات الطائرات.

وفي سياق انتشاره ساوى بين القوي والضعيف الهش، وبين العاملين الصحيين المتصدين مباشرة له ورؤساء الدول، وقد تباطأ انتشاره ولم يتوقف بتأثير الإجراءات العاتية التي فرضتها الأنظمة الاستبدادية واللقاحات المعجزة التي طورتها الديموقراطيات، ومع نهاية عام 2022 أصاب الفيروس ثلاثة من كل أربعة أميركيين ولو مرة واحدة، وبعد ستة أشهر من إنهاء الصين قيود سياسة “صفر كوفيد” في ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام، أصابت عدوى الفيروس ما يزيد على مليار صيني.

ولم يتمثل السبب الرئيس في اعتدال نسبة الوفيات بسيطرة المجتمعات على المرض، وفعلياً حصل ذلك لأن العدوى الفيروسية نفسها لديها قدرة متواضعة في القتل، وفي النهاية استهلك فيروس “كوفيد-19” نفسه بنفسه.

ويجدر التأمل بتعمق في فشل البشرية حيال “كوفيد-19” لأن العالم يواجه عدداً متزايداً من التهديدات البيولوجية، ويأتي بعضها من الطبيعة مثل أنفلونزا الطيور، لكن كثيراً منها يجيء من التقدم العلمي.

وخلال الـ 60 عاماً الفائتة طور البحاثة مفاهيم متقدمة عن البيولوجيا الجزيئية [الجينات] والبشرية مما أتاح لهم تطوير عناصر ممرضة فاعلة تمتلك قدرة مميزة في القتل، وتفهموا أيضاً كيفية تكوين فيروسات تستطيع التملص من جهاز المناعة، وتعلموا كيفية تطوير فيروسات موجودة بالفعل كي تغدو أكثر فتكاً، ويبقى من غير الواضح إن كان “كوفيد-19” قد جاء من مثل تلك النشاطات أو أنه تغلغل بين الجموع البشرية عبر تفاعلها مع الحياة البرية، وسواء هذا أو ذاك فمن الجلي أن التقنيات البيولوجية، وقد باتت الآن تحظى بدعم الذكاء الاصطناعي، قد سهلت أمر إنتاج الأمراض بأكثر من أي زمن مضى.

وإذا تسرب أو أُطلق عنصر مُمْرض صنعه الإنسان أو حسنه من مختبر، فقد يترتب على ذلك نتائج كارثية، وقد تمتلك بعض الأمراض المصنعة القدرة على الفتك بالناس والتسبب بتخريب اقتصادي بأكثر مما فعله فيروس كورونا الجديد [الذي تسبب بالجائحة]، وفي أسوأ السيناريوهات قد تتجاوز حصيلة الوفيات [من ذلك العنصر المُمْرض] ما قضى عليه “الموت الأسود” [الطاعون في القرن الـ 14] الذي قتل واحداً من كل ثلاثة أوروبيين.

إن درء كارثة كتلك يجب أن تشكل أولوية لقادة العالم، إذ لا يقل تعقيد تلك المشكلة عن التحديات الكبرى في بدايات عصر “أنثروبوسين” أو “حقبة التأثير البشري”، بما في ذلك تخفيف أخطار الأسلحة النووية وتأثر الكوكب الأرضي بأسره بالتغيير المناخي، وكذلك التعامل معها، وبغية السيطرة على تلك الأخطار يجب أن تشرع الدول في تقوية مجتمعاتها كي تحميها من العناصر المُمْرضة المصنعة بشرياً، ومثلاً يجب أن تبدأ في تطوير أنظمة إنذار تقدر على تقصي الأمراض المصنوعة بالهندسة البيولوجية، وأن تتعلم كيف تقفز بمستويات إنتاج معدات الوقاية الشخصية وكيفية تطويرها وزيادة فاعليتها، وكذلك تحتاج إلى تقليص الوقت اللازم لتطوير وتوزيع لقاحات وأدوية مضادة للفيروسات كي يحدث ذلك في أيام ولا يستلزم أشهراً، وتحتاج إلى السيطرة على التقنيات المستخدمة في تكوين فيروسات والتلاعب بتركيبتها، وأن تفعل الحكومات تلك الأمور كلها بأقصى سرعة ممكنة.

تجارة خطرة

لأكثر من قرن نظر معظم الناس إلى البيولوجيا بوصفها قوة تقدم، ومع حلول بواكير القرن الـ 21 كانت اللقاحات قد ساعدت البشرية بالفعل في استئصال الجدري وطاعون المواشي وكادت أن تجتث شلل الأطفال، لكن النجاحات جاءت متفرقة ولا تزال أمراض وبائية كثيرة من دون علاج، وبالتالي فإن النجاح في القضاء على عناصر مُمْرضة يشكل الاستثناء وليس القاعدة.

وفي المقابل لا يمكن إنكار التقدم، ويعطي الإيدز النموذج الأفضل عن الكفاءة النوعية للإنجازات الإنسانية، فعلى مدى عقود قتل الإيدز كل من أصيب به، وكذلك يستمر في إصابة ملايين البشر سنوياً.

وفي المقابل فبفضل الابتكار العلمي يملك العالم الآن خلطات من الأدوية التي توقف التكاثر الفيروسي، وقد حولت ذلك المرض من حكم بالإعدام إلى حال طبية قابلة للسيطرة عليها، ويعتمد هذا النوع من التقدم الطبي على مشاريع مميزة لكن التنسيق بينها يتسم بالضعف لأن كلاً منها جاء كاستجابة لحافز مختلف، إذ تعمل تلك المشاريع على تقديم الرعاية الصحية وإدارة الصحة العامة والدخول في بحوث طبية وعلمية.

وفي المقابل يشكل التقدم سيفاً ذا حدين، فلقد سهل تنامي فهم البيولوجيا للميكروبات الطريق أمام حدوث تطور كبير في صحة الإنسان، لكنها مكنت أيضاً المحاولات الرامية إلى زعزعتها، وخلال الحرب العالمية الأولى درس الحلفاء إمكان استعمال أسلحة بكتيرية، واستخدم الجيش الألماني وعناصر استخباراته تلك العناصر المُمْرضة في مهاجمة المواشي التي استعملها الحلفاء في النقل، وأحدثوا أمراضاً في الأحصنة والبغال في فرنسا ورومانيا، وفي النرويج حاولوا نقل الأوبئة إلى غزلان الرنة التي استعملها شعب الـ”سامي” لنقل أسلحة إلى القوات الروسية، وتوصل ضباط ألمان حتى إلى نقل أوبئة معدية إلى الحظائر والاسطبلات الأميركية التي مُلئت آنذاك بحيوانات متوجهة إلى أوروبا.

وحينما ابتدأت الحرب العالمية الثانية نضجت تلك المبادرات وأضحت أسلحة مصممة لقتل البشر، ففي منشوريا المحتلة آنذاك وجه شيرو إيشيي، الضابط في الجيش الياباني، قواته في الوحدة المشؤومة 731 كي يختبروا أسلحة بيولوجية ضد البشر، ونقلوا إلى آلاف السجناء أنواع العدوى التي شملت آنثراكس (الجمرة الخبيثة) وتيفوئيد ونظير تيفوئيد والزحار والرغام وطاعون دبلي [النوع الأكثر شيوعاً]، ثم قتلوهم.

وأثناء الأيام الأخيرة من الحرب اقترح إيشي تنفيذ عملية عسكرية واسعة بأسلحة بيولوجية سميت “زهور الكرز في الليل”، وتقوم خلالها طائرات سلاح البحرية الياباني بنشر براغيث مصابة بالطاعون فوق المدن الأميركية الرئيسة على الساحل الغربي لتلك البلاد، لكن رئيس أركان الجيش الياباني رفض الخطة موضحاً أنه “إذا شنت حرب بيولوجية بكتيرية فستتوسع إلى خارج حدود نطاق حرب بين اليابان وأميركا إلى حرب لانهائية للإنسانية ضد البكتيريا”.

ولم يؤد هذا الضرب من التفكير إلى وقف عمل بلدان أخرى على البحوث والتطوير في مجال الأسلحة البيولوجية، وفي ستينيات القرن الـ 20 أطلقت وزارة الدفاع الأميركية “المشروع 112” الذي أجرى تجارب على كيفية النشر الواسع لعناصر مُمْرضة هجومية، وبغية التوصل إلى ذلك نشر الجيش بكتيرية في أنفاق مدينة نيويورك، كما أطلق أخرى من خلال رذاذ بخاخات من قوارب في خليج سان فرانسيسكو، ورشت مواد كيماوية من طائرات الجيش فوق آلاف الأميال المربعة امتدت من جبال الروكي إلى سواحل الأطلسي ومن كندا إلى خليج المكسيك. وبحسب رؤية المسؤولين الأميركيين فقد مثلت تلك الأسلحة ما يشبه سياسة الضمان ضد هجوم سوفياتي نووي، ويعني ذلك أنه إذا ضربت موسكو الولايات المتحدة وحيدت الترسانة النووية لواشنطن فسيبقى لدى الولايات المتحدة القدرة على إحداث الدمار في الاتحاد السوفياتي عبر شن هجوم مضاد بعناصر بيولوجية مُمْرضة قاتلة.

وفي منتصف ذلك العقد التزمت وزارة الدفاع بتطوير أسلحة بيولوجية قاتلة أو تشل قدرات من تصيبه، ومع اقتراب تلك الستينيات من ختامها أنتج علماء الحكومة كميات وازنة من البكتيريا القاتلة والسموم التي ركبت كي تستطيع، وفق كلمات عالم الجراثيم رايلي هاوسرايت، “إرباك التشخيص وإحباط العلاج”.

وعلى كل حال أثارت تلك التطورات الذعر لدى البحاثة المدنيين الذي قاوموا خطط واشنطن، وقد وجدوا آذاناً صاغية في البيت الأبيض.

وفي عام 1969 قرر الرئيس ريتشارد نيكسون إيقاف برنامج الأسلحة البيولوجية الأميركي، وكذلك دعا إلى معاهدة دولية تحظر ذلك النوع من المبادرات، وعمل خبراء من خارج الحكومة على تعزيز رسالته وتضخيمها، وبعيد إعلان نيكسون تقدم جوشوا ليدربرغ، عالم البيولوجيا الحائز على جائزة نوبل، للإدلاء بشهادة أمام الكونغرس لدعم خطة المعاهدة العالمية، وأوضح لدربرغ أن الأسلحة البيولوجية قد أضحت لتوها قاتلة بمستوى نظيراتها النووية نفسه، ولكن صنع الأولى أسهل.

وبحسب ليدربرغ فإن الأسلحة النووية “قد احتكرت بيد القوى العظمى على مدى فترة طويلة تكفي للحفاظ على التوازن بحكم الأمر الواقع في ميزان قوى الردع، وكذلك إرساء نظام أمني يستند إلى عدم الانتشار، وستعمل قوة الجراثيم على عكس تلك الصورة بالكامل”.

لكن خصوم واشنطن الرئيسين لم يقتنعوا، ففي عام 1971 وأثناء التجاذب العالمي في شأن معاهدة عن الأسلحة الجرثومية، أطلق الاتحاد السوفياتي سلاحاً جرثومياً من سلالة من فيروس “فاريولا ماجور” المسبب للجدري في جزيرة ببحر آرال، أدت إلى موجة انتشار للجدري في ما يسمى اليوم كازاخستان، وحوصرت الموجة الوبائية بفضل جهود بطولية من مسؤولي الصحة السوفيات، لكن جهودهم لم تنجح إلا لأنها أصابت مكاناً قليل السكان، ولأن معظم مواطني الاتحاد السوفياتي كانوا ملقحين ضد الجدري ولديهم بعض المناعة في مواجهته.

في وقت متأخر من ذلك العام وافق الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على معاهدة تحظر الأسلحة البيولوجية سميت “ميثاق الأسلحة البيولوجية” Biological Weapons Convention. وأوصت الأمم المتحدة بتبني المعاهدة دولياً، وفي عام 1972 فتحت الباب أمام توقيعها في لندن وموسكو وواشنطن، وفي النهاية خرق الاتحاد السوفياتي المعاهدة، وفي عام 1979 قضى 68 شخصاً في مدينة سفيردلوفسك التي تسمى اليوم يكاترينبورغ بعد انطلاق جراثيم من مشروع سري للأنثراكس (الجمرة الخبيثة).

لا يحوي سجل موسكو أي حادثة أخرى مثبتة بشكل قاطع، لكن السوفيات استمروا في برنامج للأسلحة الجرثومية إلى حين تفكك الاتحاد السوفياتي، وبحسب منشقين فقد اشتغل في ذلك المشروع قرابة 60 ألف شخص حينما كان في ذروة عمله، وفي عام 1991 زار ممثلون عن الولايات المتحدة وبريطانيا بعض منشآت المشروع حيث رأوا صفوفاً من السفن والمفاعلات البيولوجية تستطيع إنتاج آلاف الليترات من فيروسات الجدري العالية الخطورة، وبإمكان تلك السفن ضخ الفيروس عبر أنابيب مبردة إلى قنابل صغيرة يغدو من المستطاع تحميلها على صواريخ.

واجه “ميثاق الأسلحة البيولوجية” مشكلة أخرى تمثلت في عدم منعه المجموعات الخاصة والأفراد من السعي إلى تلك الأسلحة، وفي عام 1984 عمدت حركة “راجنيش” Rajneesh الدينية ومقرها ولاية أوريغون الأميركية إلى تلويث صواني السلطة في المطاعم بجرثومة “سالمونيلا” [تسبب التيفوئيد]. (وتمثل هدفها في إعاقة تصويت معارضين لمرشحي الحركة في انتخابات مقاطعة واسكو)، ولم تسجل أية وفيات لكن مئات الناس مرضوا، وفي عام 1995 أصابت مجموعة “أوم شينريكيو” Aum Shinrikyo الأبوكاليبسية التي تعتقد بقرب نهاية العالم آلاف الأشخاص في طوكيو بغاز “سارين” الذي يشل الأعصاب، وفي وقت سابق أخفقت محاولتها صنع أسلحة “آنثراكس”.

وفي عام 2001 قتل خمسة أشخاص في الولايات المتحدة بهجمات “آنثراكس” استهدفت صحافيين ومكتبي سيناتورين في الكونغرس، ويعتقد “مكتب التحقيقات الفيدرالي” أنها نفذت على يد عالم أميركي مستوحد.

إن النطاق الصغير نسبياً لهذه الحوادث قد يُعد دليلاً على أن الإرهابيين والدول ربما تكون مقيدة في الوقت الحالي إلى الحد الذي يمنعها من إلحاق أضرار بيولوجية واسعة النطاق، ربما بسبب الصعوبات التقنية أو القوانين القائمة، لكن هذا الأفق مفرط التفاؤل، وبدلاً من ذلك تظهر تلك الحوادث أن الاتفاقات الدولية السارية وإجراءات الصحة العامة لا تستطيع منع تلك الهجمات، وكذلك تبرهن تلك الهجمات على أنه من الخطأ الاعتقاد بأن الدول والإرهابيين يفتقدون إلى الإرادة أو الوسائل في صنع أسلحة بيولوجية، وصحيح أن بعض الأفراد والمجموعات يواجهون عوائق، على غرار عدم القدرة على الوصول إلى مختبرات أو المنشآت المناسبة، لكن بسبب التقدم التقني المستمر تتصدع تلك العوائق وتتفتت.

سواء للأحسن أو الأسوأ

في عام 2012 نشرت مجموعة من العلماء قادها إيمانويل شاربنتيير وجنيفر دوندا، مقالة في مجلة “ساينس” العلمية المرموقة، ووصفت المقالة نظاماً في الهندسة البيولوجية سمي “كريسبر- كاس 9” CRISPR-Cas9 يستخدم حمضاً وراثياً مهجناً من النوع المسمى الحمض النووي الريبوزي “آر ان إيه” RNA كي يغير في تركيبة المواد الجينية بمثل سهولة تحرير كلمات نص مكتوب، أي تبديلها وتعديلها، وجاء الابتكار كإضافة إلى مجموعات مؤثرة من الأدوات الهندسة البيولوجية الجزيئية، بمعنى الجينية، تشمل ما يسميه العلماء “إعادة دمج الحمض النووي الوراثي “دي أن إيه” DNA (ابتكر في سبعينيات القرن الـ 20)، وتفاعل البوليمرات المتسلسل polymerase chain reaction (ابتكر في ثمانينيات القرن الـ 20 واشتهر باسمه المختصر “بي سي آر” PCR)، والحمض الوراثي التركيبي (ظهر أيضاً في ثمانينيات القرن الـ 20). [تحوي نواة الخلية الحمض النووي الوراثي “دي أن إيه” الذي يضم الجينات.

ويعتبر حمض “آر أن إيه” بمثابة اليد التنفيذية لأوامر الشيفرة الجينية في “دي أن إيه”، ويمثل “بي سي آر” أداة مختبر تأخذ قسماً من تركيبة جينية موجودة في “دي أن إيه” لتعيد استنساخها بكميات مليونية كي تسهل قراءة الشيفرة الوراثية المتضمنة فيها].

ومع تلك الأدوات كلها حدث ما يشبه الانفجار في الفهم البشري عن الظواهر البيولوجية، وأعطى قوة دفع كبرى للاكتشاف والتطور في الطب، ففي ديسمبر 2023 أجازت “إدارة الغذاء والدواء” الأميركية علاجاً جينياً مركباً يعتمد على “كريسبر” كعلاج لمرض فقر الدم المنجلي الذي يضرب حياة ملايين البشر.

وبسبب السياسة والاقتصاد والمؤسسات المعقدة التي يمر فيها التقدم البيولوجي ليصل إلى البشر فقد تمر أعوام قبل أن تصل يد التغيير الإيجابي للتقدم التقني إلى الأشخاص المحتاجين إليها، ومثلاً فإن العلاج الجيني لفقر الدم المنجلي يتسم بالتعقيد التقني والطبي، وبارتفاع الكلفة (2.2 مليون دولار للشخص)، وبالزمن المكثف الذي يستلزمه، وبالتالي لم يصل لسوى حفنة ضئيلة من المرضى، وفيما يجهد العالم في نشر منافع التقنيات الجديدة المتطورة يستمر بعض العلماء في إقامة البرهان على قدرتهم في إحداث الدمار، وفي عام 2018 عمد شخص ضمن فريق من ثلاثة أفراد إلى إعادة تكوين فيروس جدري الأحصنة القريب الشبه من الجدري مستخدماً تقنيات إعادة التركيب للحمض الوراثي “دي أن إيه” والـ “بي سي آر”، والحمض الوراثي التركيبي، واستخدمت مجموعة أخرى تلك الأدوات نفسها، إضافة إلى أداة تحرير الجينات “كريسبر”، كي تكون فيروساً آخر على صلة مع الجدري، ومن السهولة بمكان استخدام تلك البحوث في إنتاج سموم قاتلة.

وبصورة جزئية تتنامى الأخطار أيضاً بسبب ثورة تكنولوجية ثانية تتمثل في بروز الذكاء الاصطناعي، ومع كل استخدام جديد يتنامى تعقيد وقوة النماذج اللغوية الكبرى كـ “تشات جي بي تي” ChatGPT و”كلود” Claude، واليوم تستعمل النسخ الأكثر جدة من تلك البرامج بواسطة آلاف من عمال المختبرات بغية تسريع عملهم، وجزئياً يجري ذلك عبر تقديم نماذج الذكاء الاصطناعي لكميات كبيرة من التوجيهات والإرشادات، في سياق ردها على أسئلة تقنية، وفي عام 2020 ابتكر بحاثة الذكاء الاصطناعي نظام “ألفا فولد” AlphaFold الذي قاد فعلياً إلى إيجاد حل لما يوصف بأنه “الكأس المقدسة” في علم البيولوجيا، وهو توقع التركيبة الثلاثية الأبعاد للبروتين الذي يصنع بواسطة الشيفرة الجينية المتضمنة في الأحماض الأمينية للحمض الوراثي. [تحمل الجينات الشيفرة الوراثية لتركيبة كائن بيولوجي مثل الإنسان أو الفيروس، وتشكل الأحماض الأمينية جزءاً أساساً من تركيبة الجينات التي يحوي الحمض النووي الوراثي طواقمها، وبفضل الشيفرة التي تحملها الأحماض النووية يصار إلى تركيب البروتينات المتنوعة التي تؤلف الأنسجة والأعضاء للإنسان أو المكونات المتنوعة للفيروس].

استيلاد العناصر الممرضة أرخص من سبل التصدي لها

وبالنسبة إلى الإرهابيين البيولوجيين تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي تسهيل الطريق أمام ارتكاب مذبحة، ويبدو أن النماذج الكبرى للذكاء الاصطناعي قد دربت على كامل المعلومات المعرفية المنشورة في مجال علوم الحياة، وبالطبع فمعظم تلك المعارف متوافرة على الإنترنت، لكن ما من كائن بشري بإمكانه قراءة واستيعاب واستخلاص تلك المعارف كلها، وتستطيع الأنظمة الحالية للذكاء الاصطناعي تصميم بروتينات وراثية جديدة (مما يمكن من تصميم عناصر ممرضة خطرة)، وتنفيذ أعمال اختبارية عليها، حتى إن بعض علماء الكمبيوتر يعملون على صنع أنظمة مؤتمتة تستطيع تنفيذ مهمات في المختبر، وإذا نجحت تلك الجهود فيغدو بمقدور أطراف شريرة تكوين عناصر ممرضة قاتلة بمجرد اختراق تلك المنشآت المؤتمتة.

وسيصعب تماماً على الحكومات وقفهم، إذ أثبت قراصنة الكمبيوتر قدرتهم في اختراق أعداد متزايدة من أنظمة الأمن الرقمي المعقدة، فيما تتوافر على نطاق واسع كل المواد اللازمة لاستيلاد عناصر ممرضة جديدة، بما في ذلك المعدات والمواد الكيماوية الفاعلة بيولوجياً، وقد يحاول المشرعون استهداف عشرات موردي تلك المواد ممن يقدمون طلبات مكتوبة عن مكونات محورية حساسة، لكن هناك طرقاً للالتفاف على أولئك الموردين، فيما قد يؤدي إغلاق أعمالهم إلى إبطاء عمليات قيمة في البحوث والتطوير ضمن حقل البيولوجيا الطبية.

وإذا استطاعت أطراف شريرة التوصل في نهاية المطاف إلى إنتاج وإطلاق عناصر ممرضة فيروسية فقد تصيب عدواها أرتالاً واسعة من البشر في وقت أقل مما يتطلبه عمل المسؤولين على اكتشاف تلك التهديدات والتعرف عليها، ثم بدء عملية التصدي لها. وفي النهاية فإن استيلاد مسببات الأمراض (مثل الفيروسات والبكتيريا) أرخص من سبل التصدي لها، ولا يلزم سوى القليل من رأس المال اللازم للحصول على المنشآت والمواد بغية صنع مرض جديد، فيما الاستجابة إلى موجة وباء يحدثها المرض تتضمن مجموعة معقدة وهائلة الكلفة من المكونات التي تشمل إرساء شبكات مكلفة للفحص والتقصي، وكميات ضخمة من معدات الحماية الشخصية وإغلاقات مربكة اجتماعياً، ومنظومة تكون قادرة على تطوير وتصنيع وتوزيع العلاجات واللقاحات.

إن فكرة إنفاق مليارات الدولارات في محاولة وقف جائحة أخرى يجب أن تكفي كي تردع الدول عن تحويل البيولوجيا إلى سلاح، وفي المقابل تستمر بعض الحكومات في السعي إلى تحقيق مبادرات خطرة، وفي أبريل (نيسان) 2024 قدرت وزارة الخارجية الأميركية أن كوريا الشمالية وروسيا لديهما برامج هجومية في الأسلحة البيولوجية، فيما تسعى الصين وإيران إلى تحقيق نشاطات بيولوجية من المستطاع تحويلها إلى أسلحة، وجميع هذه الدول هي أطراف موقعة على “ميثاق الأسلحة البيولوجية”.

الردع بواسطة الدفاع

أثناء “الحرب الباردة” تجنبت القوى النووية العالمية كارثة بفضل، ولو جزئياً، مفهوم التدمير المؤكد المتبادل، وأقر السياسيون بأن هجوماً نووياً واحداً من شأنه إطلاق رد يحمل نذر فناء كوكب الأرض، ووفق إعلان شهير من الرئيس الأميركي رونالد ريغان والرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، “لا يمكن الفوز في حرب نووية، ويجب ألا تخاض على الإطلاق”، ولقد توصلت الدول النووية إلى قناعات متطورة في السيطرة على تكنولوجياتها، وردعت إمكان استخدام تلك الأسلحة، وأبرمت الحكومات مجموعة منوعة من اتفاقات دولية عن وقف انتشار السلاح النووي، تكفلت بالإبقاء على عدد الدول المسلحة نووياً ضمن الحد الأدنى، وكونت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أنظمة عدة، شملت الاتفاقات وبروتوكولات عن التحكم والقيادة وخطوط اتصال ساخنة بهدف خفض فرص حدوث سوء فهم قد يوصل إلى حرب فناء.

ولكن في ما يتعلق بالأسلحة البيولوجية فلم تنجح معادلة الردع التي سادت في “الحرب الباردة”، إذ يعتمد مفهوم التدمير المضمون المتبادل على الخوف الذي انتشر بغزارة في الحقبة النووية، لكنه ليس سائداً حيال صراعات الأسلحة البيولوجية، وحاضراً يعتمد الخطر على استمرارية التقدم التكنولوجي المتسارع بصورة لاهثة مع ابتكارات غير مسبوقة، مما يصعب على الناس فهم الأبعاد الكاملة للأخطار.

وعلى نحو يغاير القصف النووي في هيروشيما وناغازاكي، لم يحز أي هجوم بيولوجي مكانة الحدث العالمي الشامل التاريخي الذي من شأنه جلب اهتمام مستمر ودائم، وكذلك يعتمد مفهوم التدمير المضمون المتبادل على قدرة الدول في التعرف على المهاجم، وفي حال الأسلحة النووية يسهل فعل ذلك، وفي المقابل قد تطلق دول أسلحة بيولوجية وتتفادى الانكشاف، وبالتالي تتفادى الرد الانتقامي أيضاً، وتستطيع حكومة ما أن تطلق بسرية فيروساً خطراً ثم تنحي باللائمة على أي عدد من الدول الاخرى، أو حتى مجموعات متمردة، وربما تمكنت الأخيرة فعلياً من إطلاق أمراض قاتلة، وتلك حقيقة تتكفل بجعل مفهوم التدمير المؤكد المتبادل عنصر كبح أقل فاعلية وأدنى فائدة، إذ لا ترغب أية حكومة بالمخاطرة بإفناء بلدها، لكن إرهابيين كثر لا يعيرون البقاء أدنى اهتمام، وقد بات بمقدورهم الوصول إلى المواد والمعدات والمعرفة والقدرات التقنية اللازمة لصنع أسلحة بيولوجية.

وفي عام 1969 حذر جوشوا ليدربرغ من تداعيات الانتشار غير المنضبط للأسلحة النووية تشبه “توفر القنابل الهيدروجينية في السوبر ماركت”، ويكتظ عالم الـ 2024 بمحال السوبر ماركت مع إمدادات متراكمة من مواد صنع القنابل البيولوجية.

ولأن نموذج الردع على طريقة “الحرب الباردة” يصعب اتباعه فقد يتطلب الوضع الراهن فلسفة من نوع آخر تتضمن أن المسار المفضي إلى الردع لا يكمن في القدرة على رد الضربة، وبدلاً من ذلك يقتضي الأمر دفاعاً فائق المتانة إلى حد يجعل من الهجمات البيولوجية عديمة القيمة.

ثمة نموذج تاريخي عن الطريقة التي تستطيع فيها المجتمعات إبطال نجاعة الأسلحة البيولوجية يتمثل في نهاية النيران الحضرية الكبرى، وفي معظم التاريخ المدون دُمرت مدن العالم باندلاع نيران كبرى وكثيفة التهمت بصورة دورية أساساتها، وفي القرن الـ 19 حدث انخفاض دراماتيكي في تلك النيران، وبصورة جزئية جاء ذلك الانخفاض نتيجة تطوير أنظمة استجاب أفضل، على غرار القوات المتخصصة في مكافحة الحرائق ونشر مصبات إطفاء الحرائق، وفي جزئه الأكبر حدث ذلك الانخفاض بدفع من إجراءات متواضعة شملت إدخال مواد بناء أكثر مقاومة للنار، وفرض معايير هندسية ومنظومة قوانين محددة في البناء، ووضع شروط معينة لعقود ضمان المسؤولية المالية.

وأدت تلك الإجراءات إلى تثبيط السلوك المغامر، وحينما صاغت الدول تعريفات أكثر دقة عن الإهمال، مما سهل رفع دعاوى مدنية في شأن حوادث الحرائق، أضحى الناس أكثر حذراً.

وتستطيع الحكومات اليوم أن تأخذ صفحة من كتاب تلك التجربة، وقد أنشأت أقساماً للحرائق والإطفاء كي تستجيب للنيران الحضرية، والآن تحتاج الحكومات إلى إرساء أنظمة تستطيع العمل بسرعة على تطوير لقاحات وأدوية مضادة للفيروسات والأشكال الأخرى من التدخلات الطبية، ولكن على غرار الحال مع النيران الحضرية الكبرى يجب على الحكومات فهم أن الاستجابات السريعة لن تكون كافية، إذ يستطيع العالم، بل يجب عليه، أن يطور القدرة على تلقيح سكانه البالغ عددهم 8 مليارات نسمة خلال 100 يوم من لحظة تفشي المرض، أي أسرع من الوقت الذي استغرقته الحكومة الأميركية كي تلقح بصورة كاملة 100 مليون شخص ضد “كوفيد-19”.

وعلى رغم ذلك فإن تلك الاستجابة السريعة لن تكفي في مواجهة مرض ينتشر بمثل السرعة التي انتشر فيها “أوميكرون”، وهو نوع متحور من فيروس كورونا.

ويضاف إلى ذلك أن صناع السياسة ملزمون باتخاذ خطوات مشابهة لما فعلوه حين أرسوا منظومة قوانين محددة في البناء، بمعنى اتخاذ خطوات من شأنها إعاقة انتشار الأمراض، وباستطاعتهم البدء بإنشاء مخزونات أكبر من معدات الوقاية الشخصية، إذ تؤدي الكمامات والقفازات وأجهزة التنفس دوراً محورياً في وقف انتقال الفيروس بين البشر، وبالتالي يجب على المسؤولين توقيع عقود تمهيدية عن مثل تلك المعدات، ويجب على الدول أيضاً أن تدعم أساساتها الصناعية كي تغدو قادرة على رفع مستوى الإنتاج حينما تظهر حاجة إلى ذلك، وكذلك يجب عليهم توجيه المصنعين لإعادة تصميم معدات الوقاية الشخصية كي تصبح أرخص وأشد فاعلية ومريحة أكثر، وتستطيع الحكومات تعزيز هذه المرونة في الاستجابة عبر ضمان حصول من يعملون في الخدمات الأساس على وصول سريع بصورة خاصة إلى معدات الوقاية الشخصية، ويجب على الدول تزود مباني ذلك القطاع بأنظمة تعقيم تعمل بالأشعة فوق البنفسجية البعيدة المضادة للميكروبات، إضافة إلى فلاتر متخصصة، وباجتماعها معاً فقد تتمكن تلك الإجراءات من إحداث خفض أساس في خطر اندلاع موجات وبائية تتفاقم لتصل إلى كونها حوادث اجتماعية مزلزلة.

خطوة خطوة

ثمة طريق أخير لخفض خطر الكوارث البيولوجية، ويذهب إلى أبعد من رسم مخططات عن الاستجابة والحماية، إذ يجب على المسؤولين أن يتوصلوا إلى حوكمة أفضل للتقنيات الجديدة، وفي خاتمة المطاف قد يشكل ذلك الطريق الفعلي الوحيد لمنع هجوم بيولوجي واسع النطاق.

هناك أدوات كثيرة تستطيع الحكومات استعمالها في سن تشريعات للتطورات التقنية، ولنقل مثلاً أن المسؤولين قد يمتنعون من تمويل تجارب معينة، أو حتى يفرضون حظراً مباشراً عليها، وقد يشترطون أن تحصل المنشآت البيولوجية والعاملين فيها، على تراخيص قبل الشروع في أنواع معينة من الأعمال، وربما يتشددون في الإشراف مستقبلاً عن عمليات أتمتة المختبرات.

في المقابل يجب على المسؤولين أن يعملوا على تشكيل بيئة عمل البحوث والتطوير في مجال البيولوجيا، ومثلاً يجب عليهم وضع شرط على الشركات التي تبيع الأحماض النووية الوراثية والسلالات والمواد الفاعلة بيولوجياً وغيرها من معدات علوم الحياة المستخدمة في صنع عناصر بيولوجية، بأن يتبنوا قوانين مفهوم “إعرف زبونك” الذي يفرض على الشركات التثبت من هوية زبائنها وطبيعة النشاطات التي ينهضون بها. ويجب على الشركات أيضاً ضمان أن تشحن البضائع بصورة حصرية إلى جهات معروفة وشرعية. (منذ فترة طويلة فرضت حكومات عدة على المؤسسات المالية اتباع قوانين مفهوم ‘اعرف زبونك’ بهدف منع تدفق الأموال إلى شبكات إجرامية).

وإضافة إلى ذلك يفترض بصناع السياسة أن يضحوا قادرين على سن قوانين أفضل في ما يخص أساليب التصرف، ويجب على الحكومات أن تبتكر طرقاً جديدة لتقصي النشاطات البيولوجية الممنوعة، بما يمكّن قوى إنفاذ القانون ووكالات الاستخبارات من استباق الهجمات قبل حدوثها.

بداية من اليوم تحتاج الحكومات إلى رسم سياساتها في الدفاع البيولوجي مع وضع الذكاء الاصطناعي نصب أعينها، وحاضراً قبل إطلاق النماذج اللغوية الكبرى للذكاء الاصطناعي، تبتكر الشركات وتتبنى مجموعة من الضوابط على غرار وضع “خطوط حمر” لا يستطيع المستخدم تخطيها، ومثلاً يرفض برنامجا “تشات جي بي تي 4″ و”كلود سونت 3.5” إعطاء إجابات عن كيفية تطوير فيروس يقتل الحيوانات الداجنة، وإذا طلب المستخدم توجيهات تقنية عن كيفية الدخول في صنع مثل ذلك التطوير الموجه، بمعنى تحويل فيروس عادي إلى آخر يستطيع الفتك بالحيوانات الداجنة، من دون استخدام كلمة “قتل”، فإن النموذجين سيعطيان التوجيهات المناسبة، وبالتالي تحتاج نماذج الذكاء الاصطناعي إلى مزيد من الضوابط تقيها من إعطاء معلومات خطرة، ويجب على الحكومات المساعدة في تكوين تلك الضوابط.

ليس من السهولة خفض الأخطار حينما تصدر من تلك التقنيات الجديدة، وقد تؤدي بعض ضوابط حوكمتها إلى إبطاء البحوث المشروعة، وبالتالي يجب على صناع السياسة توخي الحذر حينما يفكرون في الضوابط والقيود، ولكن الإشراف الحاذق هو أمر ضروري، والحقيقة أنه على رغم كل جوانبهما المضيئة لكن الذكاء الاصطناعي والهندسة البيولوجية تحملان تهديدات هائلة، ويجب على المجتمعات والحكومات أن تقييم بنزاهة الفوائد، حاضراً ومستقبلاً، المتوخاة من تلك التطورات وموازنتها مع الأخطار التي يحتمل أن تتأتى منها.

وفي الأحوال كلها يجب ألا ينتاب القنوط المسؤولين، ففي نهاية الأمر نجح العالم في تجنب كوارث وجودية سابقة، وقد لا تشكل الحرب الباردة نموذجاً عن كيفية التعامل مع التحديات الراهنة، لكن تاريخها يخبر أن المجتمعات تستطيع احتواء الابتكارات الخطرة، وآنذاك، على غرار الحال حاضراً، واجه العالم ابتكارات من صنع الفكر الإنساني هددت الإنسانية بأسرها، وآنذاك، على غرار الحال حاضراً، لم تستطع الدول إنهاء التقنيات الجديدة، وفي المقابل نجحت الحكومات في تطوير مفاهيم وأنظمة استطاعت الحفاظ على الحد الأدنى.

ووفق ما كتبه جون فون نيومان، عالم الرياضيات والفيزياء الذي ساعد في توجيه السياسة الأميركية النووية، فإنه “لا علاج للتقدم، وإن كل محاولة لإيجاد أقنية مأمونة بصورة أوتوماتيكية حيال ما يشهده الحاضر من تنام انفجاري لأنواع من التطور والتقدم، محكوم عليها بأن تصل إلى الإخفاق، وإن الطريق المأمونة الوحيدة نسبية وتكمن في الممارسة اليومية الحاذقة في الحكم على الأمور”.

سيتمثل التحدي الأبرز الذي سيحدد القرن الـ 21 في إمكان أن يستطيع العالم العيش مع ظهور هذه التقنيات الجديدة التي تعد بأن تغير الحضارة، وعلى غرار ما حصل مع الطاقة النووية فإن تلك التقنيات هي نتاجات بحوث يجريها بشر، وعلى غرار الحال مع الطاقة النووية فليس من طريقة تنفع في إعادة تلك التقنيات إلى الوراء، وفي المقابل لن يستطيع المجتمع درء الخطر الأسوأ عبر الممارسة اليومية الحكيمة في الحكم على الأمور. وبحسب فون نيومان “فليس من المنطقي أن نطلب وصفة جاهزة كاملة لما سيحصل تالياً، ولكن نستطيع أن نحدد المواصفات النوعية المطلوبة التي تتمثل بالصبر والمرونة والذكاء”.

*روجر برنت، بروفيسور العلوم الأساس في “مركز فرد هاتشنسون للسرطان”.

*ت. غريغ ماك كلفي جونيور، باحث بارز في السياسات الطبية ومستشار في “مركز مزلسون” و”مركز سياسات التكنولوجيا والأمن” في “مؤسسة راند” البحثية.

*جايسون ماثني، رئيس “مؤسسة راند” البحثية ومديرها التنفيذي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى