فورين أفيرز: إسرائيل تخوض حربا لا يمكنها الانتصار فيها

فورين أفيرز 5-8-2025، عامي أيالون: إسرائيل تخوض حربا لا يمكنها الانتصار فيها
تحولت الحرب التي اندلعت عقب مجزرة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 التي قادتها حركة “حماس”، إلى أكثر الصراعات تأثيراً في الشرق الأوسط منذ “الربيع العربي”. ومع ذلك، وبعد أكثر من 22 شهراً من شن الجيش الإسرائيلي حملة للقضاء على “حماس”، لا تزال إسرائيل بلا هدف سياسي محدد لنهاية الحرب. مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة تعثرت، وفشل إسرائيل في وضع تصور لـ”اليوم التالي” للحرب فاقم الكارثة الإنسانية داخل القطاع، التي تشمل الآن تفاقم أزمة الجوع. ومع تحول الصراع بصورة متزايدة إلى مشكلة إقليمية ودولية دامية، بدأت أطراف خارجية التدخل في محاولة للتوصل إلى حل، إذ أطلقت فرنسا والسعودية الإثنين الماضي خطة في الأمم المتحدة لفرض نهاية أكثر حسماً للقتال، وتشجيع دول أخرى على الاعتراف بدولة فلسطين ودعم إقامة دولة على حدود عام 1967، استناداً إلى قرارات مجلس الأمن الدولي. وأعلنت كندا وفرنسا والمملكة المتحدة أنها ستعترف بدولة فلسطين بحلول سبتمبر (أيلول) ما لم تنته الحرب.
يبدو أن الحكومة الإسرائيلية الحالية عاجزة عن تغيير نهجها، على رغم أن هدفها العسكري الرئيس، وهو تفكيك البنية التحتية الإرهابية لـ”حماس”، تحقق إلى حد كبير. لقد ترك غياب أية رؤية إسرائيلية طويلة الأمد إسرائيل وغزة والمنطقة بأسرها في حال من الفوضى المستمرة. الحروب التي لا تحمل هدفاً سياسياً واضحاً لا يمكن كسبها، ولا يمكن إنهاؤها. وكلما طال هذا الفراغ في التخطيط الإسرائيلي، زاد لجوء الفاعلين الدوليين إلى التنسيق لمنع كارثة أسوأ من تلك الجارية حالياً. ويجب أن يتم ذلك ليس فقط من أجل الإسرائيليين والفلسطينيين، بل من أجل استقرار المنطقة ومصالح تلك الدول نفسها. الحرب التي أعقبت مجزرة “حماس” خلال السابع من أكتوبر كانت حرباً عادلة، لكنها اليوم تتحول إلى حرب غير عادلة، وغير أخلاقية، وتفضي إلى نتائج عكسية، إذ إنها تنقل مسؤولية وقوع الكارثة الإنسانية في غزة من “حماس” إلى إسرائيل.
تغير المناخ
ثمة حدثان أعادا رسم معالم المشهد الاستراتيجي للشرق الأوسط خلال القرن الـ21: الربيع العربي وهجمات السابع من أكتوبر. لقد غير الربيع العربي، الذي بدأ أواخر عام 2010، الديناميكيات الداخلية لعدد من الأنظمة في المنطقة جذرياً، إذ عزز قوة الحركات الشعبية وأضعف شرعية الحكام التقليدية، مما أجبر حتى أكثر القادة استبداداً على إبداء قدر أكبر من الاستجابة لرغبات شعوبهم. وكان ينبغي على القادة الإسرائيليين والأميركيين أن يدركوا أن “الربيع العربي” سيؤثر، على المدى الطويل، في كيفية تفاعل أطراف إقليمية متعددة مع الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني. فقضية فلسطين كثيراً ما شكلت راية توحيدية لجهات متباينة -سنية وشيعية، عربية وفارسية، إسلامية ووطنية- ووفرت رابطاً أيديولوجياً لما يعرف بـ”حلقة النار” التي تقودها إيران: “حزب الله” في لبنان، و”حماس” في غزة، و”الحوثيون” في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا. وعلى رغم الخلافات بينها، ظلت القضية الفلسطينية نقطة التقاء ومصدراً للشرعية داخل العالم الإسلامي الأوسع.
تجاهل هذه الحقيقة كان خطأً جسيماً من جانب صناع القرار الإقليميين والدوليين على حد سواء. فمجزرة السابع من أكتوبر لم تكن مجرد عمل إرهابي وحشي، بل حملت رسالة سياسية متعمدة، تتحدى مباشرة عقيدة “إدارة الصراع” التي ميزت سياسة إسرائيل في عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لأكثر من عقد. ومثلت رفضاً لافتراضات الولايات المتحدة بأن الدول العربية ستمضي في تطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، من دون بذل جهود جدية لحل الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني.
انهارت تلك الأوهام خريف 2023، كاشفة هشاشة منطقة جمعتها البراغماتية الدبلوماسية لكنها كانت تغلي بفعل مظالم لم تحل. فـ”اتفاقات أبراهام” التي وُقعت عام 2020 بوساطة الولايات المتحدة احتُفي بها آنذاك كإنجاز دبلوماسي، إذ أرست السلام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، أبرزها البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة. لكن هذه الاتفاقات بنيت على اعتقاد خطر ومضلل بأن القضية الفلسطينية فقدت أهميتها في المنطقة، وأنه يمكن إبرام اتفاقات تطبيع إضافية من دون المرور بالمطلب الفلسطيني في تقرير المصير. هذا الخطأ الاستراتيجي شجع إسرائيل على تعميق سيطرتها على الضفة الغربية -من خلال توسيع المستوطنات وتهجير المجتمعات الفلسطينية- وإضعاف السلطة الفلسطينية. وأتاح لـ”حماس” تعزيز حضورها في الفراغ السياسي القائم داخل غزة وتهميش سلطة فلسطينية منهكة، مقدمة نفسها بوصفها المدافع الوحيد عن الحقوق الفلسطينية.
وخلال سبتمبر 2023، كشف الرئيس الأميركي جو بايدن عن “الممر الهندي–الشرق أوسطي”، وهو مشروع اقتصادي طموح يربط الهند بأوروبا عبر مسارات تمر بإسرائيل والأردن والسعودية والإمارات. وعلى رغم أنه صمم لإيجاد ثقل استراتيجي مكافئ لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، فقد همش الفلسطينيين أيضاً، مقدماً للفلسطينيين وعوداً شكلية لا أكثر. بالنسبة إلى “حماس”، وخصوصاً زعيمها يحيى السنوار، شكل هذا الممر المقترح خيانة من قبل قادة عرب وجهات دولية.
منعطف حاسم
في أعقاب نجاحاتها العسكرية غير المسبوقة، تجد إسرائيل نفسها اليوم عند مفترق طرق تاريخي. المسار الذي تسير فيه حالياً ينذر بتقويض معاهدات السلام مع مصر والأردن، وتعميق الانقسام الداخلي، والدخول في عزلة دولية متزايدة. وسيؤدي إلى تغذية التطرف في المنطقة، وتصاعد العنف الديني-القومي على يد التنظيمات الجهادية العالمية التي تزدهر في أجواء الفوضى، وتراجع الدعم من صناع القرار والجمهور داخل الولايات المتحدة، وارتفاع موجات معاداة السامية حول العالم. أما المسار الآخر -الذي من شأنه تعزيز أمن الإسرائيليين والفلسطينيين معاً، وإرساء أسس الاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط- فيمر عبر اتفاق إقليمي يتضمن حلاً قابلاً للحياة يقوم على دولتين.
هذه الحرب جزء من صراع عميق الجذور وطويل الأمد حول الهوية والتاريخ والانتماء، يتسم باختلال ميزان القوى لكن تغذيه مخاوف متبادلة. وتسويته ينبغي أن تتيح لكل طرف صياغة روايته الخاصة عن النصر، وهو ما يتطلب انخراطاً دولياً فاعلاً وقيادة حاسمة. وأي حل دائم لا بد أن يكون سياسياً وإقليمياً ونفسياً، ويحمل أبعاداً رمزية. ولا يمكن لإطار إقليمي أن يحقق ذلك إلا إذا حظي بدعم دولي متماسك يوفر الشرعية الخارجية، والحوافز الواسعة، والغطاء السياسي اللازم للطرفين من أجل تقديم التنازلات والتوصل إلى اتفاق.
لا تزال مبادرة السلام العربية لعام 2002، التي طرحتها السعودية وأقرتها جامعة الدول العربية، الإطار الأكثر شمولاً والأقل استغلالاً للتسوية حتى اليوم. بخلاف الجهود الدبلوماسية السابقة، احتوت المبادرة على عنصرين حاسمين: هدف نهائي واضح يقوم على إقامة دولتين على أساس حدود عام 1967 مع تبادل متفق عليه للأراضي، ومشاركة إقليمية كاملة في مسار التفاوض. ومثلت انقلاباً على بيان الخرطوم الشهير الصادر عن الجامعة العربية عام 1967، الذي رسخ “اللاءات الثلاث” -لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض- وحولته إلى “نعم” جماعية على مستوى المنطقة.
تجاهلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هذا الاقتراح. لكن بالنسبة إلى الإسرائيليين، يمكن الآن فهم المبادرة على أنها نصر استراتيجي، إذ جاءت تتويجاً لجهود دبلوماسية وعسكرية بُذلت على امتداد عقود من الزمن وأسفرت عن اعتراف عربي واسع بحق الدولة اليهودية في الوجود. وكان زئيف جابوتنسكي، وهو أحد مؤسسي الحركة الصهيونية ومهندس رئيس لعقيدة الأمن الإسرائيلية، كتب خلال عام 1923 أن المفاوضات الحقيقية مع العالم العربي لن تكون ممكنة إلا بعد اعترافه بأن الشعب اليهودي موجود في المنطقة وسيبقى فيها. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، وبعد أكثر من 140 عاماً من النضال، والنكبة عام 1948، والانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال، والكلفة الباهظة للحروب المتعاقبة، فإن الإطار الذي تطرحه مبادرة السلام العربية يمنح اعترافاً طال انتظاره بالهوية الوطنية وحق إقامة الدولة. والأهم أنه يتناول، إلى جانب مسألتي الحدود والسيادة، البنية الأمنية الإقليمية اللازمة لضمان سلام دائم.
خطاب يتجاوز دائرة المؤيدين
للأسف، أظهرت الحكومة الإسرائيلية الحالية معارضتها الشديدة لقيام دولة فلسطينية. لذا، حان الوقت لكي يمضي الفواعل الدوليون نحو عملية واقعية تدريجية تستلهم مبادرة السلام العربية، إلى جانب المقترحات المصرية، والتوصيات الفرنسية السعودية الأحدث. ويتعين على أوسع مجموعة ممكنة من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة والسعودية والدول العربية المعتدلة، إصدار إعلان مشترك يؤكد أن الهدف هو قيام دولتين ذات سيادة، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنباً إلى جنب في سلام واعتراف متبادل. إن الوضوح الذي يوفره مثل هذا الإعلان يمكن أن يبدد ضبابية انعدام الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ويتيح للطرفين تصور مستقبل يستحق السعي إليه.
إن الخطوة العملية الأولى هي تأمين وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين المتبقين. ويمكن لحكومة فلسطينية انتقالية تكنوقراطية، تحت إشراف أميركي–سعودي، تولي الشؤون المدنية في غزة، بينما تتولى قوة أمنية عربية إقليمية، ربما بتفويض من جامعة الدول العربية أو بتكليف متعدد الأطراف، حفظ النظام. ويمكن للسعودية والإمارات، بالتعاون مع منظمات دولية كبرى، قيادة عملية إعادة إعمار واسعة النطاق للقطاع. أما نزع سلاح “حماس” فيمكن أن يتم تدريجاً على يد قوات السلطة الفلسطينية بدعم إقليمي.
وفي غضون 18 إلى 24 شهراً من وقف إطلاق النار، ينبغي تنظيم انتخابات في الضفة الغربية وغزة تحت إشراف دولي، بهدف تشكيل حكومة فلسطينية موحدة وشرعية قادرة على تمثيل شعبها في مفاوضات الوضع النهائي. وبالاستناد إلى مبادرة السلام العربية، ووفق قرارات الأمم المتحدة القائمة، وبوساطة دولية قوية، يضع الاتفاق النهائي الحدود الدائمة، مع تبادل أراض يراعي اعتبارات الأمن والديموغرافيا وضمان التواصل الجغرافي. ويرسخ الترتيبات الأمنية، ويتفاوض على حلول للإسرائيليين الراغبين في الإقامة داخل فلسطين، والفلسطينيين الساعين للعيش في إسرائيل، ويحدد وضع اللاجئين الفلسطينيين ومدينة القدس، ويؤكد الاعتراف المتبادل.
ويجب استغلال الإنجازات العسكرية لإسرائيل والولايات المتحدة، في عملية موازية، من أجل إطلاق مفاوضات شاملة مع إيران بغرض منعها من حيازة أسلحة نووية. وينبغي أن ينسق هذه العملية كل من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والصين وإسرائيل والسعودية (ممثلة عن جامعة الدول العربية)، مع وضع آليات دولية صارمة للتفتيش والرقابة.
من قوة إلى قوة
في مقابلة عام 1997، أدلى مؤسس حركة “حماس” الشيخ أحمد ياسين بتنبؤ مثير للقلق، متصوراً أنه بحلول عام 2027 ستقوم دولة إسلامية موحدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط تحكمها الشريعة الإسلامية. وعندما سئل عما يمكن أن يمنع ذلك، أجاب: “الشيء الوحيد الذي أخشاه هو واقع يقتنع فيه الفلسطينيون بأن اليهود سيسمحون بقيام دولة فلسطينية تعيش إلى جانب إسرائيل”.
هذا الاعتراف كشف حقيقة جوهرية: قوة “حماس” تستمد وجودها من غياب الأمل، وتزدهر في ظل انعدام البدائل. لكن إذا طرح مسار حقيقي نحو إقامة دولة فلسطينية، يحظى بدعم دولي موثوق، فإن جاذبية “حماس” ستتلاشى.
لقد استعادت إسرائيل قدرتها على الردع، وأثبتت قدرتها على الدفاع عن نفسها وردع أعدائها. غير أن القوة وحدها لا تكفي لتفكيك شبكة وكلاء إيران أو لتحقيق سلام وأمن دائمين لإسرائيل ولأجيالها المقبلة. وحده اتفاق إقليمي قوي مدعوم دولياً، يفضي في نهاية المطاف إلى حل دولتين قابل للحياة، يمكنه الحفاظ على أمن إسرائيل وهويتها اليهودية-الديمقراطية، وإنهاء دوامة العنف، وتحويل الشرق الأوسط من ساحة صراع إلى فضاء تعاون. وهذا ليس مثالياً حالماً، بل مصلحة مشتركة للأطراف الإقليمية والدولية، ولإسرائيل بات ضرورة استراتيجية.
*عامي أيالون هو قائد سابق للبحرية الإسرائيلية، ومدير سابق لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، ومؤلف كتاب “نيران صديقة: هكذا أصبحت إسرائيل أسوأ أعداء نفسها والأمل في المستقبل”.
مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook