أقلام وأراء

غسان زقطان يكتب – فصل ناصر القدوة من “فتح”… “كان ما سوف يكون”

غسان زقطان 12/3/2021

يمكن استحضار قصيدة محمود درويش المدهشة “كان ما سوف يكون” في الحديث عن الوضع الفلسطيني القائم، ليس من خلال مقارنة سطحية لوقائع النص وسعيه الجمالي الغنائي، ولكن عبر تدرجه المؤثر وأفق الحزن الذي يتردد في اللازمة، من المقدمات الساحرة الى النتيجة المفتوحة على الخسارة، من الينابيع الصافية الى التيارات الكدرة التي تدفقت الى المجرى وقادت النهر الى الصحراء.

“كان ما سوف يكون”.

فصلت اللجنة المركزية لحركة “فتح” ناصر القدوة، أحد أهم أبنائها الذي قدمها في أفضل أحوالها عبر عمله الطويل في صفوفها، رئيساً للاتحاد العام لطلبة فلسطين في عصره الذهبي، ومندوباً لفلسطين في الأمم المتحدة في فترة نجاح لافتة، ووزيراً لخارجيتها حين حاول قوننة الجسم الدبلوماسي الفلسطيني وإعادة هيكلة شبكة السفارات واختصار النزيف المالي الذي تسببت فيه من دون مردود وطني، وتعزيز دورها الدبلوماسي وعلاقاتها بالجاليات، وتنشيط دورها الثقافي كمنطقة عمل أساسية في مواجهة الرواية الصهيونية، وتجديد شبابها من خلال دفع الوجوه الشابة، وهو أمر اصطدم بكتلة صلبة من المتنفذين المعمرين وأصحاب المصالح والاستثمارات الشخصية، بحيث تم الانقضاض على عملية الإصلاح مع أول فرصة جرى تدبيرها.

في السنوات الأخيرة عمل القدوة على بناء مسافة واضحة عن الشريحة القيادية التي أتى بها المؤتمر السابع للحركة، كان معنياً بتلك المسافة التي تضمن له مساحة للتحرك وقدرة على انتقاد سياسات القيادة والتصريح بتحفظه عن قراراتها في مواجهة طويلة، وصلت في مرحلة الى انسحابه من عضوية اللجنة المركزية، قبل العودة الى موقعه تحت ضغوط زملائه في اللجنة وكوادر الحركة ومفاصل العمل فيها، على قاعدة “دعنا نحاول معاً من الداخل أولاً”.

وأشرف أيضاً على تأسيس “مؤسسة ياسر عرفات” وتحويلها الى ما يشبه مركزاً للدراسات بمشاركة عربية واسعة، وقد أنجزت المؤسسة إقامة “متحف عرفات” ومنحته هويته الوطنية الثقافية.

عشية الإعلان عن موعد الانتخابات الفلسطينية المزمع إجراؤها في أيار/ مايو المقبل، كان واضحاً اعتراضه على الاتفاقات الإجرائية بين “فتح” و”حماس” تحديداً فكرة القائمة المشتركة، معتبراً أن ذلك يشكل نوعاً من “المحاصصة” بين الفصيلين، ويلتف على حقوق الناس ورغبتهم في “التغيير”، ويفرغ فكرة الانتخابات من محتواها الديموقراطي والوطني، تقاسم يعزز “الانقسام” ولا ينهيه، ويمنحه شرعية وطنية. وهي قراءة توافقه عليها شرائح عريضة من “فتح” وسياق وطني واسع.

ذهب ناصر القدوة الى أبعد من ذلك حين أشار بوضوح الى “فساد النظام السياسي” في فلسطين وتعذر أي إمكان لترميمه، وأن المطلوب مواجهة هيمنة “النظام” والعمل على تغييره ديموقراطياً عبر ائتلاف وطني عريض عابر للفصائل والأحزاب، وهو ما سعى اليه من خلال الإعلان عن “الملتقى الوطني الديموقراطي” الذي دعا الى تأسيسه، والذي يشكل اقتراحاً لإطار عريض من أعضاء الفصائل والمستقلين من اليسار والمثقفين وقوى المجتمع المدني، الدعوة التي لاقت تجاوباً سريعاً وواسعاً من الشرائح الواسعة المستهدفة.

إحدى مزايا “فتح” كانت دائماً قدرتها على الحوار الداخلي، وتقبل الاختلاف، وتواصلها مع حواضنها وإلغاء الخطوط والحواجز بين بنيتها التنظيمية ومجاميع الناس الملتفة حولها، كانت تلك أشبه ببوابات واسعة لا تسجل جداول خروج، ولا تشترط إبراز هوية تنظيمية للدخول، هذا ما افتقدته الحركة خلال العقود الأخيرة، عندما التجأت للفصل والإقصاء، وحين أغلقت تلك البوابات بل أضيف اليها الكثير من الحدود والحواجز في الداخل بين “النخب” القيادية وقواعد الحركة نفسها، غزة نموذجاً، لقد انعزلت الحركة عن جماهيرها وانعزلت القيادة عن قواعدها.

هذه العزلة المتفاقمة هي التي حجبت عن القيادة المتنفذة، أهمية الخروج من سعادة العلبة، ومحاورة الاجتهاد ورغبة التغيير عبر صيغة الائتلاف مع الشعب والإصغاء لصوته، وليس الحديث باسمه، بينما هو، الشعب، ينفض يديه من كل هذا، كانت تلك صيغة تتجاوز وعي النخب التقليدية التي سيطرت على الحياة السياسية الفلسطينية، ليس المقصود “فتح” وحدها، وتتعارض مع مصالحها ومكتسباتها.

لم تكن صيغة الملتقى، كما اتضح خلال نقاشاتها، موجهة الى “فتح”، كانت اقتراحاً وطنياً للإنقاذ أمام أبواب الفصائل وبناها التنظيمية المغلقة وانعزالها عن شعبها من جهة، وأمام انغلاق الأفق السياسي وتآكل الحضور الفلسطيني العربي والدولي من جهة ثانية، لقد منحت صيغة “الملتقى الوطني الديموقراطي” المقترحة القائمة على الانفتاح والشراكة مع قوى المجتمع المدني والمستقلين، إمكان الخروج من الرمال المتحركة التي وجد المشروع الوطني الفلسطيني نفسه غارقاً فيها، وكانت أمام حركة “فتح” فرصة تاريخية لأن تقود من خلالها “التغيير” وأن تتجدد فيه الفرصة التي بددتها تماماً حين اتخذت قرارها محاربة الفكرة وفصل صاحبها، واستبدال العلبة بالأفق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى