أقلام وأراء

غانية ملحيس تكتب – المأزق الفلسطيني الراهن كما يراه الشباب الفتي وتصوراتهم لموجبات الخروج منه (4)

غانية ملحيس *- 15/10/2020

تلقيت العديد من الملاحظات على المقالات السابقة، ولفتني التباين بينها وفقا للفئات العمرية.

فبينما شككت الأجيال الأكبر سنا بما نسبته للشباب الفلسطيني من وعي معرفي بمظاهر وأسباب المأزق الفلسطيني الراهن ووضوح لتصوراتهم بشأن سبل الخروج منه. وبررت الشكوك بحالة السكون اللافت، وغياب الحراك الشبابي رغم تعاظم المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية. فتساءلوا : ” إذا كان الشباب الفلسطيني يمتلك هذا الوعي الذي عكسته المقالات، فما الذي يمنع اندلاع انتفاضة عارمة تهز الوضع برمته؟

وما الذي يمنع الشباب من أخذ زمام المبادرة لقيادة التغيير الإيجابي ؟ ومتى ستنطلق الطاقة الشبيابية الكامنة؟ “

وفي محاولة لدحض ما ذهبت إليه المقالات، لخص البعض تجربته مع الشباب بالقول:

“لقد عايشنا الشباب في التنظيمات والأحزاب المختلفة، وفي منظمات المجتمع المدني. وللأسف، الشباب الفلسطيني أفسد، أيضا، وأصبح يبحث عن المكتسبات.

ولم ينكروا مسؤولية القادة عن إفساد الشباب. عندما سمحوا بالتدخل في انتخابات الأطر والنقابات، وعندما استثنوا الكفاءات وأسندوا المسؤوليات إلى الأكثر ولاء وطاعة وانصياعا لتنفيذ الإملاءات “.

وخلصوا إلى أن الشباب الذين أشرت إليهم في مقالاتي لا يشكلون سوى فئة محدودة، ما لا يصح معه التعميم.

غير أن ملاحظات الجيل الأصغر سنا على ذات المقالات تكفلت بتوضيح أسباب عزوف الشباب الفلسطيني واعتزالهم العمل العام. وجميعها لا علاقة لها بنقص الوعي بخطورة المأزق الفلسطيني الراهن، أو بغياب الرؤي لمستلزمات الخروج منه. فضلا عن ان الإفساد والفساد طال فئة محدودة، ما لا يجوز معه الاشتباه بجيل بأكمله لتفسير سبب غياب الحراك الشبابي.

لقد حملت ملاحظات غالبية المعقبين من الشباب على المقالات مرارة انكسار الحلم بالوطن الذي عشقوه، واستحق تضحيات أهله على مدى الأجيال الفلسطينية المتتابعة، فقدموا من أجل استعادة حريته آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، نساء ورجالا وشيوخا وأطفالا على امتداد ساحات المواجهة المفتوحة على مصراعيها منذ أكثر من قرن مع العدو الصهيوني وحلفائه الذين قرروا استئصال الشعب الفلسطيني، وما يزالون يتعقبون من بقي من أبنائه داخل الوطن لتمسكهم بالدفاع عن حقهم في الوجود. ويلاحقون اللاجئين المقتلعين منه بالقوة لتشبثهم بحقهم المشروع في العودة إليه.

فعجزوا عن التكيف مع الواقع الذي استجد بعد أوسلو وتغلغلت فيه منظومة قيمية مادية ونفعية، تولي الأولوية للمصالح الفردية على المجتمعية. وتشرع الإثراء الفردي على حساب الإفقار الوطني والمجتمعي. وتعيد لزعماء العشائر والعائلات هيبتهم على حساب المؤسسات والقانون. وتعلي شأن اصحاب النفوذ الذين يتحصنون بشبكة علاقات مصلحية داخلية وخارجية، يشترك فيها منظرون واكاديميون ومثقفون وإعلاميون واقتصاديون وقانونيون الخ…. يسيطرون على مواقع المسؤولية ويستأثرون بالمكتسبات. ويطوعون القوانين ويستثنون أنفسهم من نفاذها. ويطالبون بالديموقراطية اتجاه رؤسائهم، ويتنكرون لها اتجاه مرؤوسيهم.

ولم يفهموا كيف تسنى للمنظومة القيمية الجديدة الحلول بهذه السرعة محل المنظومة القديمة التي شكلت الوعي الوطني الجمعي الفلسطيني على مدى عقود طويلة. وارتكزت على القيم النضالية الإنسانية والأخلاقية المتصلة بالحرية والعدالة وتساوي حقوق البشر في الحياة الحرة الكريمة. وأولوية المصلحة الوطنية والمجتمعية عند تعارضها مع المصالح الفردية. والمبادىء الرئيسة المتصلة بالتضحية والإيثار والفداء والتطوع كرديف للمسؤولية والقيادة.

وفاجأهم حجم الدمار التي أحدثه انحراف بوصلة المشروع الوطني التحرري، فقد تغيرت المفاهيم واستبدلت مضامينها بنقيضها. واختلت المعايير المتعلقة بالتمييز بين السلوكيات الوطنية وغير الوطنية. وتصدرت القضايا المطلبية اهتمامات الناس وباتت الدافع الرئيس لحراكاتهم، وتحول الشهداء والجرحى والأسرى من نماذج وطنية تحتذى ومسؤولية نضالية ومجتمعية، إلى قضية إنسانية ومسؤولية خاصة بذويهم وأصدقائهم، وعبء يثقل كاهل القادة وجيش الموظفين الحكوميين، الذين يشكون تقاضي رواتبهم منقوصة، والبنوك التي لا تجد حرجا في إقفال حسابات أسرهم تفاديا لغضب وعقاب المستعمر وحلفائه.

ولم يستطيعوا فهم كيف يمكن لذات الإنسان ان يتحول للنقيض فور اختزال المشروع الوطني. ولم يستوعبوا كيف تحول المناضلون الذين كانوا يفتدون شعبهم بأرواحهم، إلى ما أصبحوا عليه عندما أوكلت إليهم مسؤوليات إدارة حكم ذاتي انتقالي محدود ومقيد بضوابط يحددها الاحتلال، فبدوا وسطاء بين الشعب وسلطات الاحتلال، وباتوا يستقوون على شعبهم الذي أوصلهم بنضاله وتضحياته وصموده إلى مواقعهم، كأي نظام سلطوي في العالم الثالث. رغم انعدام السيادة وتحكم العدو بمفاصل الحياة الفلسطينية، وتسارع نمو التوسع الاستيطاني وتبدد أوهام حل الدولتين. وتكشف جوهر السلام الأمريكي – الاسرائيلي الذي تصنعه القوة.

ولفتهم، أيضا، غياب الفوارق في السلوكيات بين جميع القوى والفصائل والتنظيمات والأحزاب والمنظمات غير الحكومية، رغم استمرار التباين بينهم في العقائد والشعارات والمناهج والبرامج والمواقف، فأدركوا انها لتبرير إدامة الاختلافات وتشريع الانقسام لتقاسم النفوذ والمكتسبات.

ما تسبب بشعور غالبية الشباب بالاغتراب وهم يراقبون التحول الذي قلب المشهد الوطني الفلسطيني رأسا على عقب -دون ان يخفف وطأة الاحتلال الذي تجرأ جنوده ومستوطنيه عليه بشكل غير مسبوق وازدادوا شراسة وعدوانا – مطمئنين إلى فاعلية أدوات الكبح الذاتي لردود الفعل.

فجزأ الشعب الفلسطيني الذي يوحده التاريخ والانتماء والظلم والاستهداف ووحدة المصير. واستبعد ثلثيه / فلسطيني 1948 والشتات / وترك جموعهم تواجه أقدارها فرادى بلا بوصلة تؤشر للمستقبل، واختزل مساحة الوطن وحصرها في الجزء الذي تأخر احتلاله من ذات العدو قرابة عقدين / 22% /. واختصر القضية الوطنية الجامعة الحاضنة لحلم الشعب الفلسطيني بالحرية والعودة وتقرير المصير في مشروع دولة منزوعة السيادة لثلثه المقيم في جزئيها المتباعدين على نحو خمس الوطن.

وشعروا أنهم يتامى غرباء فرادى في مواجهة تحديات ومخاطر تتنامى حولهم. ومضوا يتلمسون سبلا تضيق عليهم لتأمين أساسيات الحياة بعد ان ضاق الوطن بأهله. واشتد الخناق على اللاجئين في الشتات.

فانهارت ثقة الشباب بالطبقة التي باتت تتولى مقاليد الأمور في الحقل الوطني الفلسطيني بشقيه الرسمي والأهلي / منظمة وسلطة وفصائل وتنظيمات وأحزاب ونقابات ومنظمات أهلية وقطاع خاص /. وأذهلهم استمرار التنافس والتزاحم على مواقع مسؤولية إدارة شؤون الشعب الفلسطيني المكبل والمحاصر، دون التبصر فيما تستوجبه من واجبات وما تستلزمه من مؤهلات. وأحبطهم انعدام المعايير الوطنية والمهنية في التعيينات لشغل المواقع الوظيفية لمؤسسات الحكم الذاتي والمنظمات الأهلية، واستبدالها بمعايير أخرى تتصل بالولاء والقرابة وقوة العلاقات مع الخارج.

وقد لخص أحدهم الوضع بقوله : ” الشباب الفلسطينيون – الذين يمثلون بؤرة التغيير وصناعة المستقبل – لم يعودوا شبابا…. فهم يشكون العجز بسبب التيه وتراكم الإحباط، لقد أدركوا أن مشروع التحرر قد تم إقصاؤه… وأن الوطن تم اختطافه… وأن أصحاب النفوذ باتوا يعملون لمصلحتهم الخاصة… وأن أي إصلاح سيتصدون لمسؤولية إحداثه سينال ثمرته غيرهم. “

استوقفتني الملاحظات المتباينة لثلاثة أجيال فلسطينية متتابعة يعيش أفرادها داخل أجزاء الوطن المحتل وفي مناطق اللجوء. وجلهم غاضبون ومحبطون ومرتابون ببعضهم ومتشككون بالمستقبل.

فقد عكست ملاحظاتهم -رغم تباين وجهات النظر -، توافقا يرقى إلى مستوى الإجماع حول ظلمة الواقع الفلسطيني، وعمق تعقيدات المأزق الذي بات يعيشه الشعب الفلسطيني بأسره.

وسلطت الضوء على جذر الخلل الذي أحدثه انحراف بوصلة المشروع الوطني بالقفز عن مرحلة التحرر الوطني قبل إنجاز أي من أهدافها. والهرولة وراء أوهام التسويات السياسية التي يروجها العدو وحلفائه لشراء الوقت بإلهاء الشعب الفلسطيني في متاهات البحث والاختلاف والتفاوض، لالتقاط فرص لا وجود لها. فيما يتولى خلق الوقائع التي تغير الحقائق التي يتوجب مراعاتها عند التفاوض على حلول ممكنة.

وأظهرت مخاطر المراهنة على إمكانية الشروع بالبناء والتأسيس للاستقلال في نحو خمس الوطن الفلسطيني، خلال مرحلة حكم ذاتي انتقالي يسيطر فيها استعمار لم يتخل عن مشروعه الاستيطاني الإجلائي التوسعي في كامل فلسطين الانتدابية. ويتحكم خلالها بكافة مفاصل حياة الشعب المستهدف بالاجتثاث، الذي ارتضى قادته الدخول في مرحلة اختبار لصدق النوايا باقتسام الوطن الفلسطيني مع محتليه وفقا للأقدمية الزمنية لاحتلال أجزائه. وقبلوا بنصف ما خصصته الشرعية الدولية للشعب الفلسطيني بقرار التقسيم رقم 181 والاكتفاء ب 22% فقط من مساحة الوطن. ولطمأنة المستعمر خلال فترة الاختبار تخلوا عن حقهم المشروع في مقاومته، والتزموا بالتنسيق معه لمحاصرة وملاحقة المتمردين من أبناء الشعب الفلسطيني. وقبلوا بحكم المستعمر على نتائج اختبار صدقيتهم في التنازل عن 78% من فلسطين والتسليم بحق المستوطنين الصهاينة في العيش الآمن فوق أنقاض شعبها. لقاء السماح بإقامة دولة فلسطينية على 22 %، والالتزام بالسلام الذي تحدد شروطه موازين القوى المختلة محليا وإقليميا ودوليا.

لقد تسبب تعلق القيادة الفلسطينية بأوهام حل سياسي للصراع الفلسطيني – الاسرائيلي لا مكان له في المشروع الاستعماري الصهيوني الذي يواصل التقدم ميدانيا بالبناء التراكمي. وتوهمها بإمكانية الخلط بين مهمتي التحرر الوطني والحكم الذاتي الانتقالي المحدود والمقيد بشروط الاحتلال والمفتوح النهايات على كافة الاحتمالات. وألحق أضرارا جسيمة بالشعب الفلسطيني ونضاله التحرري. فقوض الأساس الجامع للقضية الوطنية الفلسطينية الواحدة، وحولها إلى مجموعة مشكلات لتجمعات سكانية فلسطينية عندما أخرج فلسطينيي الداخل والشتات / ثلثي الشعب / من إطار التفاوض. وأوحى بإمكانية مقايضة حقوقهم بحقوق الثلث الفلسطيني المقيم داخل حدود عام 1967. فأربك الحقل الوطني الفلسطيني برمته. وأخل بمنظومة القيم النضالية والأخلاقية، وأطاح بمفهوم العدالة. وطالت التداعيات التدميرية لذلك كافة الحقول الفلسطينية : السياسية والديبلوماسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والحقوقية والإدارية. فتصدعت البنى والهياكل التنظيمية والمؤسسية… ما تسبب بانكشاف فلسطيني غير مسبوق أمام العدو الصهيوني وحلفائه من القوى الدولية المتنفذة وأتباعهم في عموم المنطقة العربية والإسلامية الممتدة، المتأهبين للانقضاض على الشعب الفلسطيني. الذي تشكل عدالة قضيته واستعصاؤه على الاستسلام على مدى أكثر من قرن، العقبة الرئيسة أمام استكمال تنفيذ مشروعهم الكوني. الذي حددت اتفاقيات سايكس – بيكو ووعد بلفور مرتكزاته الأساسية. وأسهمت نتائج وتداعيات حربيين كونيتين ساخنتين وثالثة باردة أعقبتهما في إنجاز معظم مراحله. وبات استكمال مرحلته الأخيرة رهن بحسم الصراع لصالحه في مركزه الفلسطيني بإشراك المحيط العربي والإسلامي في الضغط على الشعب الفلسطيني لإخضاعه.

غير أن قتامة الصورة الراهنة، يفترض بها ان لا تحجب حقيقة أكدتها صيرورة التاريخ الإنساني ودلالاته عبر مسيرته الطويلة. والتي تؤكد جميعها على تعذر إمكانية مواصلة لي عنق التاريخ بالتنكر لحقوق الشعوب. فشواهده الماثلة تظهر قدرة الشعوب الحية، عند تفعيل إرادتها في الدفاع عن وجودها وتمسكها ببلوغ حقوقها الوطنية والإنسانية الثابتة في الحرية والكرامة وتقرير المصير، ومقدرتها – بالمثابرة – على تصويب اختلال موازين القوى، وتوفير موجبات موازين قوى جديدة تتراكم مفاعيلها عبر الزمن فتغير أقدارها التي يرسمها الغير، وتصنع قدرها ببلوغ حقوقها الوطنية والإنسانية المشروعة.

وفلسطين التي استعصت على الزوال رغم ما شهدته من غزوات عبر تاريخها الممتد لآلاف السنين، وشعبها الحي الذي استعصى على الفناء، وهزم الغزاة من مختلف الأمم والجنسيات. وانتصر على تحالف استعماري دولي مشابه نجح في ظروف مماثلة لما هو قائم حاليا في فلسطين وجوارها العربي والاسلامي. وتمكن من إقامة كيان استعماري استيطاني إفرنجي استظل بالدين المسيحي / الاستيطان الصليبي / واستطال بقاءه قرابة قرنين ( 1099 – 1187 ). وانهزم عندما توفرت مستلزمات وشروط هزيمته، فبات أثرا عابرا في التاريخ.

وكما كانت فلسطين منذ فجر التاريخ أم البدايات وأم النهايات في تشكيل تاريخ المنطقة، فهي المنطلق الرئيس لتصويب اعوجاج مساره الذي بدأ انحرافه على أرضها قبل أكثر من قرن، وما يزال.

ونقطة البدء في إعادة التاريخ إلى مساره الصحيح تكمن باستعادة القضية الفلسطينية لموقعها الصحيح كقضية شعب تعرض لأفدح ظلم في التاريخ الإنساني الحديث. وليس كما يجري التعامل معها كمشكلة تجمعات سكانية فلسطينية معزولة عن سياقها الوطني. دون القفز عن حقائق الواقع الفلسطيني المجزأ، وما يفرضه من تحديات تتباين في طبيعتها بين مختلف التجمعات الفلسطينية.

فما يزال الشعب الفلسطيني بأسره، البالغ تعداده عام 2020 نحو 14 مليون إنسان، يدافعون للعقد الثامن على التوالي عن حقهم الإنساني والوطني في الوجود. والذي تكفله كافة الشرائع والقوانين الدولية لكافة الشعوب على امتداد الكرة الأرضية.

وما يزال الفلسطينيون جميعا ملاحقون ومحرومون من حقوقهم الوطنية ومعظم الحقوق المدنية. سواء نصفهم الذي يعيش على أرض وطنه المحتل في أربعة كيانات قرر الاحتلال فصلهم فيها / اراضي 1948، والضفة الغربية، والقدس الشرقية وقطاع غزة / لتقويض وحدتهم المجتمعية وإلغاء هويتهم الوطنية. أم نصفهم الآخر اللاجئون في الشتات، وغالبيتهم يعيشون غرباء في الدول العربية المحيطة بفلسطين / الأردن وسوريا ولبنان ومصر / بانتظار تمكينهم من ممارسة حقهم المشروع في العودة.

وما من سبيل أمام الشعب الفلسطيني لتغيير حاضره المظلم والتأسيس لمستقبل مغاير، سوى الاعتماد على الذات في اطلاق عملية التغيير، بالإسراع بإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، واستعادة هويتها كحركة تحرر وطني ضد الاستعمار والاستيطان والاستبداد والعنصرية.

وتستوجب عملية إعادة البناء، المبادرة فورا بتصويب اتجاه بوصلة المشروع الوطني التحرري الجامع لكافة مكونات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه. والشروع بالفصل بين السياسة والإدارة. بفك الارتباط بين مهمة التحرر الوطني ومهمة إدارة الحكم الذاتي، للخروج من الدائرة المفرغة التي أحكم اتفاق أوسلو انغلاقها، عندما حاول الجمع بين مهمتين متضادتين على مدى ثلاثة عقود متصلة. فجاءت النتائج كارثية.

ذلك ان مهمة التحرر الوطني بطبيعتها مهمة تصادمية مع الكيان الاستعماري الصهيوني الذي يتفوق في موازين القوى الشامل عموما، والعسكرية منها خصوصا. وتسعى إلى توفير موجبات موازين قوى جديدة – عبر المقاومة الشعبية الفلسطينية طويلة الأمد، واستخدام كافة وسائل المقاومة المشروعة – لرفع كلفة الاستعمار الصهيوني عسكريا وسياسيا وديبلوماسيا واقتصاديا واخلاقيا، ولمنع استقراره، ولاستنزاف قواه، للتأسيس لهزيمته بشكل تدريجي وتراكمي.

ما يستوجب اتباع قواعد المقاومة السرية لتجنيب الشعب الفلسطيني الاصطدام بقوة عدوه العسكرية الفائقة وتحميله من الأعباء ما يفوق طاقته.

فيما مهمة إدارة حكم ذاتي تحت سيطرة المحتل الذي يسيطر على الموارد والحدود والحركة تقتضي العمل العلني. وتستدعي التنسيق مع المحتل لإدارة شؤون الشعب الواقع تحت الاحتلال. وتوظف حاجة الكيان الصهيوني لتهدئة غضب الشعب الفلسطيني، لانتزاع تسهيلات تيسر حياة السكان وتساعد في تمكينهم وتعزيز صمودهم، بتوفير وتنمية المقومات الذاتية وخصوصا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، لتقوية مناعته في مواجهة السياسات والإجراءات الاحتلالية، وزيادة مقدرته على تحمل أعباء الصمود المقاوم.

والفصل بين المهمتين لا يستوجب الاختيار والمفاضلة بينهما كما يخال ويدعو البعض. فلسنا أمام ثنائيات متناقضة حد التضاد.

وإنما يقتضي الفصل الكامل بين مسؤوليات الاطلاع بهما، على صعيد الاستراتيجيات والمناهج والأدوات والمؤسسات والأشخاص. لفك ارتهان نصف الشعب الفلسطيني المقيم داخل الوطن المحتل للعدو الصهيوني، ومنعه من استغلال الاحتياجات المعيشية وتوظيفها بتكثيف الضغوط السياسية والعسكرية على الشعب الفلسطيني، ظنا بإمكانية إخضاعه وإجباره على القبول بمقايضتها بحقوقه الوطنية.

ولاستعادة ثقة النصف الآخر المقيم بالشتات بتصويب اتجاه حركة بوصلة المشروع التحرري الفلسطيني الجامع ومرتكزه الحرية والعودة وتقرير المصير.

وتتوفر الآن فرصة تاريخية لإنقاذ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ومنع تكرار انقطاع المراحل النضالية الفلسطينية. بتصويب مسارها.

يتيح هذه الفرصة الانقلاب الأمريكي – الاسرائيلي على الشرعية الدولية، وإغلاق فرص تنفيذ قرارتها الخاصة بتسوية الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي في المدى المنظور. والقفز عن مركز الصراع ومحاولة الاستقواء على الشعب الفلسطيني بتكثيف حصار المحيط العربي والإسلامي عليه.

وتصويب المسار يبدأ بالتنفيذ الفوري لقرار التحلل من اتفاقات أوسلو وفق رؤية وطنية منسقة، ومشروع إصلاحي شامل يحافظ على ما تحقق من إنجازات، ويصلح ما أحدثه من اختلالات.

فيعيد تعريف السلطة الفلسطينية وفقا لواقعها الفعلي وليس المتخيل. كإدارة حكم ذاتي لشؤون السكان الفلسطينيين داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 / الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة /، والنظر إليها كإنجاز وطني مهم -رغم محدوديته – يتوجب الحفاظ عليه، فقد تحقق بفضل نضال وصمود وتضحيات الشعب الفلسطيني ومكنه من انتزاع بعض حقوقه في إدارة شؤونه. وجعل برنامج عملها المستجد بأهدافه الواضحة واستراتيجيات ووسائل تنفيذه، أساسا لخوض الانتخابات لاختيار رئاسة وقيادة مجلس الحكم الذاتي / بشقيه التشريعي والتنفيذي / المناط بها :

إعادة صياغة القوانين الناظمة لعملها وفقا لاختصاصاتها الوظيفية إعادة هيكلة وظائفها التخصصية كإدارة حكم ذاتي للجزء المقيم من الشعب الفلسطيني داخل حدود العام 1967. فتحافظ فقط على ما يتصل بأمنه الوطني وإدارة شؤونه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والقانونية والبيئية. وما يطور وينمي قدراته الذاتية ويحمي تماسكه الوطني والمجتمعي ويقوي مناعته ويعزز صموده المقاوم.

– اختزال حجمها وكادرها الوظيفي إلى الحد الذي يتطلبه الدور الوظيفي والنطاق الجغرافي.

والصلاحيات المحدودة لإدارة حكم ذاتي محدود، وفي حدود مقدرة السكان على تحمل أعباء تمويل نفقاتها.

وتسند جميع المهام السياسية، ومهام الإدارة التي تتجاوز النطاق الجغرافي والدور الوظيفي لإدارة الحكم الذاتي، إلى المؤسسة الأم – منظمة التحرير الفلسطينية – التي يتوجب الإسراع بإعادة بنائها كإطار وطني جامع لكافة مكونات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات. وتجديد شرعيتها الوطنية والتمثيلية وتحديثها وتوفير الكفاءات القادرة، للتأهل لمسؤولية قيادة المشروع الوطني التحرري وتحقيق أهدافه ومرتكزها الحرية والعودة وتقرير المصير على أرض فلسطين.

* المركز الفلسطينيّ لأبحاث السياسات والدّراسات الإستراتيجيّة (مسارات) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى