عيَّاد البطنيجي: الزمن كمحك استراتيجي: كلفة البقاء على الرهانات الخاطئة لحماس

عيَّاد البطنيجي 24-7-2025: الزمن كمحك استراتيجي: كلفة البقاء على الرهانات الخاطئة لحماس
يتعدى الفعل الاستراتيجي مجرد الحسابات العسكرية البحتة؛ فهو يتشكل بأبعاد معيارية، مسؤولية أخلاقية، إطار معرفي، ونظرة شاملة للعالم تتضمن الجوانب الثقافية والحضارية والدينية، بالإضافة إلى العمق التاريخي.
أحد أهم محددات أي صراع هو البعد الزمني. فلكل عمل حربي مدة ضرورية لإنجازه، والوقت يلعب دورًا حاسمًا في حسم النزاعات. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لمصلحة من يفسر الزمن، ولمصلحة من يعمل في صراع غير متكافئ؟
يؤثر عامل الزمن بشكل مختلف على طرفي الصراع. فبينما قد يتمتع الطرف الأقوى بترف الوقت، فإن الزمن بالنسبة للطرف الأضعف أكثر حساسية وقيودًا بكثير. الرغبة في انتظار فرصة أكبر وأكثر ملاءمة للعمل الحربي تكون دائمًا مشروطة بمدى توافر الوقت.
الغياب التام للتوازن بين طرفي القتال ينعكس بوضوح على أبعاد الزمن. نحن لا نتحدث عن فجوة في القوة فحسب، بل تمتد ارتدادات هذه الفجوة لتصبح أيضًا عدم توازن في الأبعاد الزمنية بين الطرفين غير المتكافئين. والمعنى أن الزمن ليس حياديًا في أي صراع، بل هو محدد حاسم يميل لصالح أحد الأطراف، وفي حالة الصراع غير المتكافئ في غزة، فإنه لا يخدم مصالح حماس.
ولا يقتصر التحليل الشمولي للأبعاد الزمنية على البعد العسكري للزمن، بل يوسع نطاقه ليشمل الأبعاد السياسية، الاجتماعية، الإقليمية والدولية، والنفسية (تغير أولويات الناس). وهذا يلقي بآثاره على طول أمد الصراع.
فهم رهانات حماس على عامل الزمن: تحليل معمق
يتعمق هذا المقال في استكشاف رهانات حماس على عامل الزمن، مع تحليل واضح لكل رهان على حدة (كالمساومة، الصمود، الدعم الخارجي، الاستمرارية العسكرية، المفاجأة، الحل العسكري، الجيل القادم). يساعدنا هذا التحليل على فهم الأسس التي اعتمدت عليها حركة حماس وكيف تآكلت هذه الأسس بمرور الوقت.
كيف يجب أن تنظر الحركة إلى الزمن في قتالها ضد قوات الجيش الإسرائيلي في غزة، وكيف أن الوقت لا يعمل لمصلحة رهانات حماس. فالخيارات المتاحة أمامها مقيدة بمهلة زمنية قد تجعلها مستحيلة لاحقًا إذا لم يتم استغلالها بفعالية.
ويهدف هذا المقال إلى شرح تأثير الزمن بشكل مباشر، في كل نقطة، سوف نربط بوضوح كيف “يتآكل” أو “يتحول” أو “يستنزف” الزمن الرهانات المذكورة، ويشرح “أثره” على قدرة حماس على تحقيق أهدافها.
1. تآكل القدرة على المساومة مع مرور الوقت:
رهانات المقاومة المسلحة: في بداية الصراع أو في مراحل معينة، قد تُعطي الهجمات المسلحة حماس نفوذًا للمساومة أو لفت انتباه إقليمي أو دولي. ولكن، مع استمرار الحرب وتزايد الخسائر البشرية والمادية (كما في غزة حاليًا)، تتآكل هذه القدرة. الزمن هنا يعمل ضد قدرة حماس على تحقيق أهدافها السياسية بنفس الأدوات، فالضغوط الداخلية والخارجية تتزايد، وحالة الإرهاق الشعبي تتفاقم. اعتمدت حماس على عامل الوقت كورقة مساومة لعدة أسباب. كان يُنظر إلى طول أمد الصراع على أنه وسيلة لزيادة الضغط على إسرائيل والمجتمع الدولي، بهدف انتزاع تنازلات أكبر في أي مفاوضات مستقبلية. تصورت حماس أن استمرار المقاومة سيرهق الخصم ويجبره على تقديم شروط أفضل، سواء فيما يتعلق بتبادل الأسرى، أو رفع الحصار، أو الاعتراف بمطالبها السياسية.
أثره: يصبح استخدام القوة مجرد استنزاف دون عائد سياسي، ويفقد شرعيته في أعين البعض.
تآكل الرهان: تآكل هذا الرهان مع مرور الوقت بسبب عدة عوامل. أولًا، أدت الضربات العسكرية الإسرائيلية المتتالية إلى إضعاف القدرات العسكرية لحماس، مما قلل من نفوذها التفاوضي. ثانيًا، تضاءل الدعم الدولي للقضية الفلسطينية في بعض الأحيان، خاصة مع تزايد التركيز على قضايا إقليمية وعالمية أخرى. ثالثًا، أدت الانقسامات الفلسطينية الداخلية إلى إضعاف الموقف التفاوضي الموحد.
2. تغير الأولويات والضغط الشعبي:
رهان الصمود وتحمل التضحيات: قد يراهن طرف على قدرته على الصمود إلى الأبد، لكن قدرة الشعوب على تحمل المعاناة ليست لا نهائية. مع طول أمد الصراع، وتدهور الأوضاع المعيشية، وتفشي الأمراض، تتغير أولويات الناس من “التحرير” إلى “البقاء والحد الأدنى من الحياة الآمنة”.راهنت حماس على قدرتها على الصمود في وجه الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية. كانت الفكرة هي أن طول أمد الصراع سيظهر للعالم وللجمهور الفلسطيني قدرتها على التحمل والمقاومة، وبالتالي تعزيز شرعيتها ودعمها الشعبي. اعتقدت حماس أن صمودها سيُجبر إسرائيل على التراجع في نهاية المطاف، نظرًا لتكلفة الاحتلال المستمرة.
أثره: يتحول الصمود وتحمل التضحيات الكبيرة إلى عبء، ويمكن أن يؤدي إلى فقدان الدعم الشعبي للقضية أو للقيادة، ويجبر القيادة على مراجعة استراتيجياتها.
تآكل الرهان: على الرغم من إظهار حماس لقدرة ملحوظة على الصمود في عدة مناسبات، إلا أن هذا الرهان تآكل بسبب الخسائر البشرية والمادية الفادحة التي تكبدها القطاع، وتدهور الأوضاع الإنسانية، وتزايد الإحباط الشعبي من عدم تحقيق نتائج ملموسة. كما أن تضييق الخناق الدولي والإقليمي على حماس أثر سلبًا على قدرتها على إعادة بناء قوتها بفعالية.
3. تحول البيئة الإقليمية والدولية:
رهان الدعم الخارجي: قد تعول حماس على دعم إقليمي أو دولي (سواء مادي أو سياسي) للبقاء أو لتعزيز موقفها. لكن التحالفات تتغير، والمصالح الدولية تتبدل، وقد تُفرض عقوبات أو قيود جديدة بمرور الزمن. اعتقدت حماس أن مرور الوقت سيعزز من تدفق الدعم الخارجي لها، سواء كان ذلك دعمًا ماليًا، أو عسكريًا، أو سياسيًا. تصورت أن الدول والجهات التي تدعم قضيتها ستزيد من دعمها مع استمرار الصراع، أو أن تحولات جيوسياسية قد تفتح آفاقًا جديدة للدعم.
أثره: يصبح هذا الدعم أقل استدامة، وقد تجد الحركة نفسها معزولة بشكل أكبر، مما يحد من خياراتها.
تآكل الرهان: شهد هذا الرهان تآكلًا بسبب تغير الأولويات الإقليمية والدولية، وتزايد الضغوط على الدول التي كانت تدعم حماس، بالإضافة إلى تشديد الرقابة على التحويلات المالية. كما أن بعض الدول التي كانت تقدم دعمًا قد غيرت سياساتها أو أولوياتها، مما أثر سلبًا على حجم الدعم المتلقى.
4. استنزاف الموارد والقدرات:
رهان الاستمرارية العسكرية: تعتمد حماس على مخزون من الأسلحة والقدرات القتالية. لكن هذا المخزون يتناقص باستمرار مع العمليات العسكرية الإسرائيلية، وتزداد صعوبة تعويضه تحت الحصار. راهنت حماس على قدرتها على الحفاظ على استمرارية ذراعها العسكري وتطويره على الرغم من الضربات الإسرائيلية. كانت الفكرة هي أن الوقت سيتيح لها فرصة لإعادة بناء قوتها، وتطوير أساليب جديدة للمقاومة، وتحديث ترسانتها العسكرية، مما يمكنها من مواجهة إسرائيل على المدى الطويل.
أثره: مع مرور الوقت، تنخفض قدرة الحركة على مواجهة إسرائيل عسكريًا، مما يجعل الردع مستحيلاً وتصبح مجرد استعراض للقوة دون جدوى.
تآكل الرهان: تعرضت القدرات العسكرية لحماس لضربات قاسية ومتواصلة، مما أثر بشكل كبير على بنيتها التحتية وقدراتها الهجومية. وعلى الرغم من محاولات إعادة البناء، إلا أن حجم الدمار والتحديات الأمنية المستمرة جعلت من الصعب الحفاظ على مستوى الاستمرارية العسكرية الذي كانت تطمح إليه، خاصة مع تشديد الحصار وتجفيف مصادر التسليح.
5. تكيّف الخصم:
رهان المفاجأة والتكتيكات الثابتة: قد تنجح تكتيكات معينة (كالأنفاق أو الصواريخ، أو العبوات الناسفة والكمائن) في البداية، لكن الخصم يتعلم ويتكيف معها بمرور الوقت. إسرائيل تطور باستمرار تكتيكاتها المضادة وأجهزتها الاستخباراتية. وفي بعض الأحيان، راهنت حماس على عامل المفاجأة، معتقدة أن الوقت سيتيح لها فرصة لتخطيط وتنفيذ عمليات غير متوقعة تحدث تغييرًا جذريًا في موازين القوى أو توجه الرأي العام.
أثره: ما كان رهانًا على إحداث صدمة أو خسائر كبيرة للخصم يصبح أقل فعالية، ويُجبر الطرف الأضعف المكشوف على تغيير استراتيجيته بشكل جذري أو تحمل نتائج الاستنزاف.
تآكل الرهان: على الرغم من نجاح بعض عمليات المفاجأة في إحداث تأثيرات قصيرة المدى، إلا أن استراتيجية المفاجأة بحد ذاتها لا يمكن الاعتماد عليها كرهان طويل الأمد. فمع مرور الوقت، تتخذ إسرائيل إجراءات وقائية وتعزز قدراتها الاستخباراتية والأمنية، مما يقلل من فرص نجاح عمليات المفاجأة الكبيرة ويجعل تكلفتها باهظة.
6. فقدان الفرص البديلة:
رهان الحل العسكري: التركيز الكامل على الحل العسكري لفترة طويلة قد يؤدي إلى إغلاق أبواب الحلول السياسية أو الدبلوماسية التي قد تكون متاحة في نقاط زمنية سابقة. في جوهر استراتيجية حماس، كان هناك رهان ضمني على أن الوقت قد يؤدي في النهاية إلى حل عسكري يمكن أن يفرض إرادتها أو يغير الواقع على الأرض بشكل جذري، أو على الأقل يمنع أي حل سياسي لا يلبي مطالبها.
أثره: عندما تتآكل القدرة العسكرية، قد تجد الحركة نفسها بلا خيارات بديلة، وقد تكون فرص التسوية السياسية قد ضاعت.
تآكل الرهان: أظهرت الأحداث أن الحل العسكري الشامل من جانب حماس غير واقعي في مواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي. وبدلًا من تحقيق مكاسب عسكرية حاسمة، أدت المواجهات المتكررة إلى خسائر فادحة دون تحقيق الأهداف الاستراتيجية المرجوة، مما كشف عن محدودية هذا الرهان.
7. التغييرات الديموغرافية والاجتماعية:
رهان الجيل القادم: الصراع طويل الأمد يؤثر على الأجيال الجديدة بطرق مختلفة. قد تنمو أجيال أقل التزامًا بالخطاب التقليدي للمقاومة، أو أكثر ميلاً للبحث عن حلول عملية لإنهاء معاناتهم. راهنت حماس على أن مرور الوقت سيُنشئ جيلًا جديدًا من الفلسطينيين الملتزمين بالمقاومة، والذين سيواصلون الكفاح، وبالتالي يضمنون استمرارية قضيتهم وأهدافها على المدى الطويل.
أثره: تتغير القاعدة الاجتماعية التي تدعم الرهانات القديمة، مما يضعف الشرعية الداخلية للمقاومة المسلحة.
تآكل الرهان: على الرغم من استمرار الدعم للمقاومة بين بعض الأجيال الشابة، إلا أن الأوضاع المعيشية الصعبة، وتزايد الإحباط من عدم وجود أفق سياسي، والتعرض المستمر للعنف، قد يؤدي إلى تحولات في أولويات هذا الجيل. فبينما قد يبقى الالتزام بالقضية، قد تتغير أساليب النضال وأولوياته، مما يضعف رهان حماس على استمرار ذات النهج.
وفي الختام:
في سياق حرب غزة، فإن رهانات حماس على “الكيانية المستقلة في غزة” و”الصمود العسكري” باتت مرهونة بشكل كبير بإطارها الزمني. يبدو أن هذا الإطار قد تجاوز نقطة العودة، وأصبح يؤدي إلى خسائر فادحة تتجاوز أي مكاسب محتملة. لهذا السبب، يُصبح الحديث عن “الانسحاب الذكي” المرتبط بإطار زمني محدد ضروريًا لإعادة تقييم الرهانات والخروج من دوامة العنف. وعليه، إن قدرة سكان غزة على تحمل المعاناة ليست لا نهائية، وأن الصمود وتحمل التضحيات الكبيرة قد يتحول إلى عبء، إن تشبثت حماس برهاناتها. وعليه، هناك تأثير سلبي للزمن على غزة التي تبدو فيها أبعاد الزمن حالياً ضد حماس.