عيَّاد البطنيجي: إيران وإسرائيل وحرب الجبهات
عيَّاد البطنيجي 4-11-2024: إيران وإسرائيل وحرب الجبهات
غاية الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران التأكيد على مواصلة التغيير الجذري للمعادلة القديمة انطلاقًا من إعادة تشكيل الواقع الاستراتيجي في مواجهة العلاقات القائمة. بعبارة أخرى أن الهدف الأساسي هو التأثير في طريقة تفكير إيران تجاه بناء الواقع الجديد.
تتصدى إسرائيل في آن واحد لسبع جبهات، غزة، الضفة، لبنان، سورية، العراق، اليمن، إيران. ما يميزها عن غيرها من اللاعبين الآخرين بأنها تملك التصميم والمهارة في بناء موضوع الحرب الإقليمية الدائرة، فضلًا عن قدرتها على فرض هذا الموضوع المبني. هذه حقيقة بصرف النظر عما تمثله إسرائيل باعتبارها عدونا الأول.
يوجد فارق موضوعي بين الجبهة(إسرائيل) والجبهات السبع، يبين حدود قتال الجبهة وقتال الجبهات. إذ تنطلق الجبهة من تصور مبني لموضوع الحرب*، بينما الجبهات لم تتجاوز حرب الإشغال المبنية على تعسفات وأوهام التفكير الشائع. والنتيجة أن حرب الجبهة شكلت مفاجأة جاءت من خارج توقعات الجبهات، بينما الأخيرة تواجه خصمها بمنطق قديم وفق معادلات مجترة، وبالتالي مكشوفة.
تمثل الجبهات بوصفها ميدان قتال يتكون من كثرة، وأن كل لاعب منها له خصوصيته وحدوده بصرف النظر عن النوايا والمثاليات. فكل جبهة تعمل وفق جغرافية مخصوصة، وفي إطار مجتمع سياسي ينطوي على قيود وحدود للحركة، وضوابط دولية. وهكذا، إن بيئة كل لاعب مختلفة عن بيئة اللاعب الآخر.
وعليه إن الإطار العام الذي يمثل ما هو مشترك بين هذه الجبهات السبع، لا يعمل بالضرورة وفق مصالح اللاعبين على حدةٍ بصورة تامة، فعند مستوى معين سيفكر كل لاعب بمصلحته بمعزل عن مصلحة اللاعب الآخر؛ لاختلاف بيئة عمل كل لاعب، وما تفرضه من قيود موضوعية. لنأخذ على سبيل المثال، الدولة اللبنانية وإيران والتصريحات المتبادلة التي تشي بخلافات حادة ستلقي بظلالها على مجريات المعركة والتسوية المنشودة، مهما كانت طبيعة الارتباطات بين حزب الله وإيران. والموقف السوري في التعامل مع الحرب الجارية وكأن ما من حرب حاصلة، وهذا علمًا بأن الضربات الإسرائيلية داخل سورية نفسها. وتصريحات الرئيس العراقي الأخيرة حول خطورة اندراج بلاده في حروب الجبهات.
وعليه، إن ما يسمى بـ”استراتيجية وحدة الساحات” بوصفها تمثل الإطار العام المشترك بين الجبهات، وباعتبارها الرد الحقيقي على الاستفراد الإسرائيلي بفلسطين كما تدعي، هو قول لا يرتقي لمستوى القول العلمي، فليست باستراتيجية بلغة العلم العسكري، فهي ليست أكثر من مجاراة الرأي العام الشائع، وامتداد للمعرفة العفوية في القضايا الاستراتيجية، ناهيك أنها لم تتطابق مع الوقائع التي أثبتت بأنها تتخبط في سلوكها، فما علاقة ضرب جبهة الحوثي المنشآت النفطية السعودية بالاستفراد الإسرائيلي!؟
وهذا بالضبط ما يجعل إسرائيل متميزة في بناء موضوع الحرب الإقليمية في مرتبة التصور، أو المُفكر فيه بصورة استراتيجية في مواجهة العلاقات القائمة بين الجبهات، وعلى أساس القواعد التي يحددها موضوع الحرب.
فالحرب الإقليمية في منطق الممارسة الإسرائيلي، تعني بناء وضع واسع بالتنسيق مع الولايات المتحدة، ويلزم الجبهات التشكيل بموجبه. وفي وصف هذا الوضع المبني إذ يقوم على قاعدين: العلاقة المباشرة، والقطيعة مع السابق. وفي التطبيق العملي، فهذا وصف القتال الذي تفرضه إسرائيل على الخصوم: بناء علاقة مباشرة مع هذا الوضع المبني إسرائيليًا، والقطيعة مع العلاقات السابقة، وبالتالي يفرض على ملكة حكم الخصم إقامة علاقة مباشرة بالوضع المبني، وقطع الصلة بالوضع السابق.
تستكمل إسرائيل هذا الوضع المبني والمُفكر فيه استراتيجيًا، بأشكال مكملة من الضغط الاقتصادي، والدعاية، والعمل الدبلوماسي. والغاية الأسمى لهذا الوضع المبني هو تأمين استمرار سياسة الدولة الإسرائيلية.
ومن نافلة القول إن بناء موضوع الحرب شكل مفاجأة للخصم، من حيث الهدف الذي يقطع مع معادلات الماضي، والأساليب الهجومية الجديدة، والتكنولوجيا العسكرية المتفوقة، ونوعية المعلومات الاستخباراتية غير المتوقعة. وكل ذلك يرمي في نهاية المطاف التأثير في إرادة الخصم.
تمثل إيران اللاعب المركزي الذي يمسك عنوة بباقي اللاعبين/ الجبهات، التي تعرضت لهجوم إسرائيلي كبير. في هذا الهجوم كانت الرسالة أن إسرائيل عازمة على المضي قدمًا في الحرب المباشرة على إيران، وأن ذلك متوقف على كيفية استجابتها للهجوم، ما إذا كانت ستمتنع عن تصعيد الوضع في استمرارها بتبادل الضربات، وبالتالي فإن رفض ذلك يعني الدخول في الحرب المباشرة. فإسرائيل تخلق وضعًا يبدأ بالضغط العسكري المحدود، وينتهي بالحرب الشاملة، بحيث تجعل الطرف الآخر يتشكل معنويًا من خلال إعادة النظر في خياراته. وبذلك تظهر إسرائيل بأن إيران الطرف المعني بالتصعيد وأنها (أي إسرائيل) الطرف الذي يرد على هذا التصعيد.
في الواقع، ما تزال المبادرة إلى الحرب في يد إسرائيل، الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك قرار إعلان الحرب بينما إيران تخشى التدحرج إلى الحرب المباشرة، وبخاصة أن هذه الحرب تأتي وهي في ورطة استراتيجية كبيرة، إذ أن خط الدفاع الأساسي عنها، أي حزب الله، قد ضُرب وخرج عن الخدمة المنوط بها. فمن المعروف أن الاستراتيجية الدفاعية لإيران تعتمد على إنشاء وتمويل تنظيمات مسلحة في الخارج المنوط بها الدفاع عنها في حالة الهجوم عليها من قبل إسرائيل، وبالتالي الإخلال بتوازن السيطرة الإيرانية الذي كلف إيران مليارات الدولارات. وفي ذلك يكمن نقطة الضعف القاتلة في أن إيران بنت توازن السيطرة بالارتكاز على الخارج وبالتالي أن المساس به يعني انكشافًا داخليًا، وهذا التحدي الأخطر الذي سيواجه إيران في المرحلة المقبلة.
إن إعادة تشكيل الواقع المستقبلي في المنطقة من خلال الحرب يفترض ضمنًا قطع العلاقات السابقة قبل اندلاع الحرب كما ذكرنا آنفا، وفي ما يخص إيران فإن الغاية العظمى تتمثل في حماية نفسها في هذه الغضون، فالمطلوب منها هو أن هذه الحماية لن تتحقق إلا عبر تسوية تقوم بالأساس بتفهمها للوضع المعاد تشكيله عبر الاندراج فيه، والقطع مع الوضع السابق. وبالتالي التفكير في الواقع بشكل مختلف. هذا هو المطروح على إيران بأن تقطع مع المعادلات الماضية، وأن تبني معيارًا جديدًا في حماية نفسها انطلاقًا من الواقع الجديد وبعلاقة مباشرة معه، وذلك لن يكون إلا بالانكفاء والتراجع وامتصاص الضربات. وبالفعل باتت إيران تدرك بأن نظامها في خطر ولن تحميه إلا بتراجعها، وإلا لمَ التلكؤ في الرد على الضربة؟
وهنا تتوقف الحرب على استجابة إيران، وفي حالة معاندتها والتنكر للوضع المبني إسرائيليًا، تواصل إسرائيل الضغط من خلال تصعيد الجهود إلى الحدود القصوى عبر فترات زمنية، وأن يبقى هذا التصعيد للجهود متوقف على رد فعلها. وبالتالي يفرض عليها أن تبني توقعاتها لعواقب أفعالها استنباطًا من الوضع المبني إسرائيليًا. هذا ما يجعل الحرب الإسرائيلية المحدودة تنتهي دوما بحرب شاملة، وهو وضع أصبحت تدركه إيران بصورة خاصة والجبهات بصورة عامة، فإيران تدرك أن موضوع الحرب الإسرائيلية هو الإجهاز على مشروع المنشآت النووية. ونتوقع في ما إذا ردت إيران على إسرائيل ستكون هذه المنشآت الهدف القادم.
ختامًا، إن امتلاك القدرة على إعلان الحرب تعني ابتداء القدرة على بناء وضع الحرب، ويعني بناء وضع الحرب مقاربة مختلفة للمستقبل. وعليه، إن الحرب في الممارسة الإسرائيلية لا تعني عمل من أعمال العنف فقط يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتها، بل إن العنف المادي وفرض الإرادة على الخصم يكونا بالقطع مع العلاقات السابقة، وبعلاقة مباشرة مع وضع الحرب المبني، وهذا ما يجعلها في موقع أفضل على الخصم في الدفاع والهجوم. وأما استجابة الجبهات لهذا المنطق في الحرب فلا تبدو بأنها قادرة على جعلها في موقع أفضل بل أنها تخسر كل يوم مواقعها في حروب الإشغال التي باتت تستنزفها، وحتى الآن لم تترك أي أثر ملموس على السلوك الحربي الإسرائيلي. فالحرب في نهاية المطاف هي تطويع إرادة الخصم عبر إلحاق أكبر الضرر في مقدراته المادية، وحتى اللحظة لم تتعرض إسرائيل لضرر مادي كبير يؤثر على طرائق تفكيرها وكذلك الروح المعنوية.
*الأسباب والنتائج، الشرعية والقانون الدولي، التقييم والحساب والتكاليف، ملكة الحكم، الفترة الزمنية، تصور الخطر، قواعد الاشتباك، المناورات، الاستراتيجية والتكتيك، العلاقات الدولية، والاستراتيجية العليا بما تشمل السلام الذي لا بد أن يعقب الحرب.
مركز الناطور للدراسات والأبحاث Facebook